التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1327 [ ص: 70 ] الحديث الحادي عشر لزيد بن أسلم

مسند يجري مجرى المتصل

مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب ، أو ورق بأكثر من وزنها ، فقال له أبو الدرداء : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن مثل هذا ، إلا مثلا بمثل ، فقال له معاوية : ما أرى بهذا بأسا ، فقال أبو الدرداء : من يعذرني من معاوية ؟ أنا أخبره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويخبرني عن رأيه ، لا أساكنك أرضا أنت بها ، ثم قدم أبو الدرداء على عمر ، فذكر ذلك له ، فكتب عمر إلى معاوية أن لا يبيع ذلك إلا مثل بمثل ، وزنا بوزن .


قد ذكرنا أبا الدرداء عويمرا - رحمه الله - في كتاب الصحابة بما يغني عن ذكره هاهنا ، وكذلك ذكرنا معاوية هنالك .

والسقاية : الآنية ، قيل : إنها آنية كالكأس وشبهه ، يشرب بها . وقال الأخفش السقاية الإناء الذي يشرب به .

[ ص: 71 ] وقال أبو عبيدة في قوله عز وجل : جعل السقاية في رحل أخيه ، قال : السقاية مكيال كان يسمى السقاية . وقال غيره : بل كل إناء يشرب فيه .

وذكر ابن حبيب عن مالك ، قال : السقاية البرادة يبرد فيها الماء تعلق ، وقال الأخفش : أهل الحجاز يسمون البرادة سقاية ، ويسمون الحوض الذي فيه الماء سقاية .

وقال ابن وهب : بلغني أنها كانت قلادة خرز ، وذهب ، وورق .

وقال ابن حبيب : من قال إن السقاية قلادة ، فقد وهم وأخطأ ، وهو قول لا وجه له ثم أهل العلم باللسان .

قال أبو عمر :

ظاهر هذا الحديث الانقطاع ; لأن عطاء لا أحفظ له سماعا من أبي الدرداء ، وما أظنه سمع منه شيئا ; لأن أبا الدرداء توفي بالشام في خلافة عثمان لسنتين بقيتا من خلافته ، ذكر ذلك أبو زرعة عن أبي مسهر ، عن سعيد بن عبد العزيز .

[ ص: 72 ] وقال الواقدي : توفي أبو الدرداء سنة اثنتين وثلاثين ، ومولد عطاء بن يسار سنة إحدى وعشرين ، وقيل سنة عشرين

قال أبو عمر :

وقد روى عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر ، عن أبي الدرداء حديث لهم البشرى ، وممكن أن يكون سمع عطاء بن يسار من معاوية ; لأن معاوية توفي سنة ستين ، وقد سمع عطاء بن يسار من أبي هريرة ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن عمر ، وجماعة من الصحابة هم أقدم موتا من معاوية ، ولكنه لم يشهد هذه القصة ; لأنها كانت في زمن عمر ، وتوفي عمر سنة ثلاث وعشرين ، أو أربع وعشرين من الهجرة .

واختلف في وقت وفاة عطاء بن يسار ، فقال الهيثم بن عدي : توفي سنة سبع وتسعين ، وقال الواقدي : توفي عطاء بن يسار سنة ثلاث ومائة ، وهو ابن أربع وثمانين سنة ، أخبرني بذلك أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه .

على أن هذه القصة لا يعرفها أهل العلم لأبي الدرداء إلا من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ، وأنكرها بعضهم ; لأن شبيها بهذه القصة عرضت لمعاوية مع عبادة بن الصامت ، وهي صحيحة مشهورة محفوظة لعبادة مع معاوية من وجوه وطرق شتى .

[ ص: 73 ] وحديث تحريم التفاضل في الورق بالورق ، والذهب ، لعبادة ، محفوظ عند أهل العلم ، ولا أعلم أن أبا الدرداء روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصرف ، ولا في بيع الذهب بالذهب ، ولا الورق بالورق حديثا ، والله أعلم .

وكان معاوية يذهب إلى أن النهي والتحريم إنما ورد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدينار المضروب ، والدرهم المضروب ، لا في التبر من الذهب والفضة بالمضروب ، ولا في المصوغ بالمضروب ، وقيل : إن ذلك إنما كان منه في المصوغ خاصة ، والله أعلم حتى وقع له مع عبادة ما يأتي ذكره في هذا الباب ، وقد سأل عن ذلك أبا سعيد بعد حين ، فأخبره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحريم التفاضل في الفضة بالفضة ، والذهب بالذهب : تبرهما وعينهما ، وتبر كل واحد منهما بعينه .

وإنما كان سؤاله أبا سعيد ، استثباتا ; لأنه كان يعتقد أن النهي إنما ورد في العين ، ولم يكن - والله أعلم - علم بالنهي حتى أعلمه غيره . وخفاء مثل هذا على مثله غير نكير ; لأنه من علم الخاصة . وذلك موجود لغير واحد من الصحابة .

[ ص: 74 ] ويحتمل أن يكون مذهبه كان كمذهب ابن عباس ; فقد كان ابن عباس - وهو بحر في العلم - لا يرى بالدرهم بالدرهمين يدا بيد بأسا ، حتى صرفه عن ذلك أبو سعيد .

وذكر الحلواني ، قال : حدثنا محمد بن عيسى ، قال : أخبرنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو حرة ، قال : سأل رجل ابن سيرين عن شيء ؟ فقال : لا علم لي به ، فقال الرجل : إني أحب أن تقول فيه برأيك ، قال : إني أكره أن أقول فيه برأيي ، ثم يبدو لي غيره ، فأطلبك فلا أجدك ، إن ابن عباس قد رأى في الصرف رأيا ، ثم رجع عنه .

[ ص: 75 ] أخبرني عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا حماد بن سليمان الربعي ، عن أبي الجوزاء ، قال : سمعت ابن عباس وهو يأمر بالصرف الدرهم بالدرهمين ، والدينار بالدينارين يدا بيد ، فقدمت العراق ، فأفتيت الناس بذلك ، ثم بلغني أنه نزل عن ذلك ، فقدمت مكة ، فسألته ، فقال لي : إنما كان ذلك رأيا مني ، وهذا أبو سعيد يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنه .

قال أبو عمر :

حديث أبي سعيد في الصرف عند مالك ، عن نافع ، عن أبي سعيد ، يأتي ذكره في باب نافع من هذا الكتاب ، إن شاء الله .

فغير نكير أن يخفى على معاوية ما خفي على ابن عباس .

وقد روينا عن معاوية - كما قدمنا ذكره - أنه كان يذهب إلى أن الربا في المضروب دون غيره ، وهو شيء لا وجه له عند أحد من أهل العلم ، وقد قلنا : إن قصته المذكورة في هذا الحديث مع أبي الدرداء ، لا توجد إلا في حديث زيد هذا .

وإذا كان ابن عباس ، وعمر قبله ، وأبو بكر قبلهما ، يخفى عليهم ما يوجد عند غيرهم ممن هو دونهم ، فمعاوية أحرى أن يوجد عليه مثل ذلك مع أبي الدرداء .

[ ص: 76 ] وأما قصة معاوية مع عبادة ، فحدثني أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن حكيم بن جابر ، عن عبادة بن الصامت ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : الذهب بالذهب مثلا بمثل ، الكفة بالكفة ، والفضة بالفضة مثلا بمثل ، الكفة بالكفة ، والبر بالبر ، مثلا بمثل ، يدا بيد ، والشعير بالشعير مثلا بمثل ، يدا بيد ، والتمر بالتمر مثلا بمثل ، يدا بيد . قال : حتى ذكر الملح بالملح ، مثلا بمثل ، يدا بيد ، قال معاوية : إن هذا لا يقول شيئا ، فقال لي عبادة : والله لا أبالي أن لا أكون بأرضكم هذه .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن إسماعيل ، قال : حدثني حكيم بن جابر ، عن عبادة بن الصامت ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر نحوه إلى قوله : الملح بالملح [ ص: 77 ] وقال : قال معاوية : إن هذا لا يقول شيئا ، فقال عبادة : إني والله ما أبالي أن لا أكون بأرض معاوية ، أشهد أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد بن مسرهد ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن خالد الحذاء ، قال : أنبأنا أبو قلابة ، عن أبي أسماء ، عن عبادة بن الصامت ، أنهم أرادوا بيع آنية من فضة إلى العطاء ، فقال عبادة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة : والبر بالبر ، والتمر بالتمر ، والشعير بالشعير ، والملح بالملح ، يدا بيد ، مثلا بمثل ، من زاد أو ازداد فقد أربى .

هكذا عن خالد الحذاء عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، وهو خطأ ، والصواب في هذا الحديث ما قاله أيوب عن أبي قلابة ، عن أبي الأشعث ، عن خالد عن أبي قلابة عن أبي أسماء خطأ ، وقد خالفه الثوري وغيره عن خالد .

[ ص: 78 ] وأخطأ في قوله : إن الآنية بيعت إلى العطاء ، وإنما بيعت في أعطيات الناس ، لا إلى العطاء ، وإنما الحديثلأبي قلابة ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن عبادة ، لا أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، كذلك روى الثوري ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة .

ذكر وكيع ، وعبد الرزاق ، وعبد الملك بن الصباح الديناري كلهم عن الثوري عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت ، قال : كان معاوية يبيع الآنية من الفضة بأكثر من وزنها ، فقال : عبادة سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : الذهب بالذهب ، وزنا بوزن ، والفضة بالفضة ، وزنا بوزن : والبر بالبر ، مثلا بمثل ، والشعير بالشعير ، مثلا بمثل ، والتمر بالتمر ، مثلا بمثل ، والملح بالملح ، مثلا بالمثل ، وبيعوا الذهب بالفضة يدا بيد كيف شئتم ، والبر بالشعير يدا بيد كيف شئتم ، والتمر بالملح يدا بيد كيف شئتم . هذا لفظ حديث عبد الرزاق ، وقال وكيع : إذا اختلف الأصناف ، فبيعوا كيف شئتم .

وحدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثهم : قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي الأشعث ، قال : كنا في غزاة وعلينا معاوية ، فأصبنا ذهبا ، وفضة ، فأمر معاوية رجلا ببيعها الناس في أعطياتهم ، فتنازع الناس فيها فقام عبادة ، فنهاهم فردوها ، فأتى الرجل معاوية ، فشكا إليه فقام معاوية خطيبا ، فقال : ما بال [ ص: 79 ] رجال يتحدثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث يكذبون فيها لم نسمعها : فقام عبادة ، فقال : والله لنحدثن عن رسول الله بما سمعنا وإن كره معاوية ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تبيعوا الذهب بالذهب ، ولا الفضة بالفضة ، ولا التمر بالتمر ، ولا البر بالبر ، ولا الشعير بالشعير ، ولا الملح بالملح ، إلا مثلا بمثل ، وسواء بسواء ، عينا بعين .

وحدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا عبد الله بن عمر ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : كنت في حلقة بالشام فيها مسلم بن يسار ، فجاء أبو الأشعث ، قالوا : أبو الأشعث ؟ فجلس ، فقلت : حدث أخاك حديث عبادة بن الصامت ، قال : نعم غزونا وعلى الناس معاوية ، فغنمنا غنائم كثيرة ، فكان فيما غنمنا آنية من فضة ، فأمر معاوية رجلا ببيعها في أعطيات الناس ، فتنازع الناس في ذلك ، فبلغ عبادة بن الصامت ذلك ، فقال : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كره معاوية ، أو قال : أو رغم معاوية ، ما أبالي أن أصحبه في جنده ليلة سوداء ، قال حماد هذا ، أو نحوه .

[ ص: 80 ] وروى هذا الحديث محمد ابن سيرين عن محمد بن يسار ، وعبد الله بن عبيد ، عن عبادة : حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن سلمة بن علقمة ، عن محمد ابن سيرين ، قال : حدثني مسلم بن يسار ، وعبد الله بن عبيد ، وقد كان يدعى ابن هرمز ، قالا : جمع المنزل بين عبادة بن الصامت ، وبين معاوية ، إما في بيعة ، أو في كنيسة ، فقام عبادة ، فقال : نهى رسول الله عن الذهب بالذهب ، فذكر نحو ما تقدم ، وزاد : وأمرنا أن نبيع الذهب بالفضة ، والفضة بالذهب ، والبر بالشعير ، والشعير بالبر ، يدا بيد ، كيف شئنا .

وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا محمد بن أبي العوام ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : حدثنا هشام بن حسان عن محمد ابن سيرين ، عن رجلين أحدهما مسلم بن يسار ، عن عبادة بن الصامت نحوه .

وحدثنا سعيد بن نصر قراءة مني عليه أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا ابن جدعان ، عن محمد ابن سيرين ، عن مسلم بن يسار ، عن عبادة بن الصامت ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الذهب بالذهب مثلا بمثل ، [ ص: 81 ] والورق بالورق مثلا بمثل ، والتمر بالتمر مثلا بمثل ، والحنطة بالحنطة مثلا بمثل ، والشعير بالشعير مثلا بمثل ، حتى خص الملح بالملح مثلا بمثل ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى .

واللفظ لحديث الحميدي .

وروى هذا الحديث بكر المزني ، عن مسلم بن يسار ، عن عبادة ، كما رواه محمد بن سيرين : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا مبارك بن فضالة ، قال : حدثنا بكر بن عبد الله المزني ، عن أبي عبد الله مسلم بن يسار ، قال : خطب معاوية بالشام ، فقال : ما بال أقوام يزعمون أن النبي عليه السلام نهى عن الصرف ، وقد شهدنا النبي عليه السلام ولم نسمعه نهى عنه ، فقام عبادة بن الصامت ، فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى أن يباع الذهب بالذهب ، إلا مثلا بمثل ، والورق بالورق ، إلا مثلا بمثل ، وذكر ستة أشياء : البر ، والتمر ، والشعير ، والملح ، إلا مثلا بمثل ، لنحدثن بما سمعنا ، وإن كرهت يا معاوية ; لندعنك ، ولنلحقن بأمير المؤمنين ، فقال : أيها الرجل أنت وما سمعت .

[ ص: 82 ] حدثنا أحمد بن قاسم ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن الجهم السمري ، قالا جميعا : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن مسلم بن يسار ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن عبادة بن الصامت أنه قام ، فقال : يا أيها الناس إنكم قد أحدثتم بيوعا لا أدري ما هي ؟ وإن الذهب بالذهب وزنا بوزن ، تبره وعينه ، يدا بيد ، زاد محمد بن الجهم : والفضة بالفضة وزنا بوزن ، يدا بيد تبرها وعينها ، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة ، والفضة بالفضة أكثرهما يدا بيد ، ولا يصلح نساء ، والبر بالبر ، مدا بمد يدا بيد ، والشعير بالشعير مدا بمد ، يدا بيد ; ولا بأس ببيع الشعير بالبر والشعير أكثرهما ، يدا بيد ، ولا يصلح نسيئة ، والتمر بالتمر ، حتى عد الملح بالملح ، مثلا بمثل يدا بيد من زاد أو ازداد ، فقد أربى .

قال قتادة : وكان عبادة بدريا عقبيا أحد نقباء الأنصار ، وكان بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يخاف في الله لومة [ ص: 83 ] لائم ، هكذا رواه ابن أبي عروبة عن قتادة ، عن مسلم بن يسار موقوفا ، فذكر الحديث ، وتابع هشام الدستوائي سعيد بن أبي عروبة على هذا الإسناد ، عن قتادة ، عن مسلم بن يسار .

ورواه همام عن قتادة عن أبي الخليل عن مسلم المكي عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن عبادة بن الصامت ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وسعيد ، وهشام ، كلاهما عندهم أحفظ من همام ، فهذا ما بلغنا في قصة معاوية مع عبادة في بيع الآنية بأكثر من وزنها ذهبا كانت أو فضة ، وذلك عند العلماء معروف لمعاوية مع عبادة ، لا مع أبي الدرداء ، والله أعلم .

وممكن أن يكون له مع أبي الدرداء مثل هذه القصة أو نحوها ، ولكن الحديث في الصرف محفوظ لعبادة ، وهو الأصل الذي عول عليه العلماء في باب الربا ، ولم يختلفوا أن فعل معاوية في ذاك غير جائز وأن بيع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، لا يجوز إلا مثلا بمثل تبرهما ، وعينهما ، ومصوغهما ، وعلى أي وجه كانت ، وقد مضى في باب حميد بن قيس ، حديث ابن عمر في الصائغ الذي أراد أن يأخذ فضل عمله ، فقال ابن عمر : لا ، هذا عهد رآه إلينا ، وعهدنا إليكم .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا موسى بن معاوية ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا سفيان عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، [ ص: 84 ] عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن عبادة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد .

وقرأت على عبد الوارث أن قاسما حدثهم ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا أمي الصيرفي ، قال : حدثنا أبو صالح سنة مائة ، قال : كتب أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - إلى عماله : أن لا يشتروا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ، ولا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل ، ولا الحنطة بالحنطة إلا مثلا بمثل ، ولا الشعير بالشعير إلا مثلا بمثل ، ولا التمر بالتمر إلا مثلا بمثل .

قال أبو عمر :

على هذا مذهب الصحابة ، والتابعين ، وجماعة فقهاء المسلمين ، فلا وجه للإكثار فيه .

[ ص: 85 ] حدثني خلف بن القاسم بن سهل الحافظ ، قال : حدثنا أبو الميمون البجلي عبد الرحمن بن عمر بدمشق ، قال : حدثنا أبو زرعة ، قال : حدثنا محمد بن المبارك ، عن يحيى بن حمزة ، عن برد بن سنان ، عن إسحاق بن قبيصة بن [ ص: 86 ] ذؤيب ، عن أبيه : أن عبادة أنكر على معاوية شيئا ، فقال : لا أساكنك بأرض أنت بها ، ورحل إلى المدينة ، فقال له عمر : ما أقدمك ؟ فأخبره ، فقال : ارجع إلى مكانك ، فقبح الله أرضا لست فيها ، ولا أمثالك ، وكتب إلى معاوية : لا إمارة لك عليه .

قال أبو عمر :

فقول عبادة : لا أساكنك بأرض أنت بها ، وقول أبي الدرداء على ما في حديث زيد بن أسلم يحتمل أن يكون القائل ذلك قد خاف على نفسه الفتنة لبقائه بأرض ينفذ فيها في العلم قول خلاف الحق عنده ، وربما كان ذلك منه أنفة لمجاورة من رد عليه سنة علمها من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأيه ، وقد تضيق صدور العلماء عند مثل هذا ، وهو عندهم عظيم : رد السنن بالرأي .

[ ص: 87 ] وجائز للمرء أن يهجر من خاف الضلال عليه ، ولم يسمع منه ولم يطعه ، وخاف أن يضل غيره ، وليس هذا من الهجرة المكروهة ، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس أن لا يكلموا كعب بن مالك حين أحدث في تخلفه عن تبوك ما أحدث ، حتى تاب الله عليه ، وهذا أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع ، وهجرته ، وقطع الكلام معه .

وقد حلف ابن مسعود أن لا يكلم رجلا رآه يضحك في جنازة

أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى ، قال : حدثنا أحمد بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الملك بن بحر ، قال : حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا العباس بن الوليد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي ، عن رجل من عبس ، أن ابن مسعود رأى رجلا يضحك في جنازة ، فقال : تضحك وأنت في جنازة ؟ ! والله لا أكلمك أبدا .

وغير نكير أن يجهل معاوية ما قد علم أبو الدرداء ، وعبادة : فإنهما جليلان من فقهاء الصحابة وكبارهم .

[ ص: 88 ] قال أبو عمر :

حديث عبادة المذكور في هذا الباب ، وإن كانوا قد اختلفوا في إسناده ، فهو عند جماعة من فقهاء الأمصار أصل ما يدور عليه عندهم معاني الربا ; إلا أنهم قد اختلفت مذاهبهم في ذلك ، على ما أوضحناه في باب ابن شهاب ، عن مالك بن أوس بن الحدثان من هذا الكتاب ، والحمد لله .

قال أبو عمر :

ولا يوجد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء ذكر فيه الربا غير هذه الستة الأشياء المذكورة في حديثعبادة ، وهي الذهب ، والفضة ، والبر ، والشعير ، والتمر ، والملح ، فجعلها جماعة علماء المسلمين القائلين بالقياس أصول الربا ، وقاسوا عليها ما أشبهها ، وما كان في معناها ، واستدلوا بقوله في الحديث : حتى خص الملح بالملح ، فجلعوا الملح أصلا لكل إدام ، فحرموا التفاضل في كل إدام ، كما حرموا التفاضل في كل مأكول على علل أصولها مستنبطة من هذا الحديث ، فذهب العراقيون إلى أن العلة فيها الكيل والوزن ، لأن كل ما ذكر من الأنواع الستة لم تخل من كيل أو وزن ، وكذلك جاء الحديث به نصا ، قال في الذهب ، وفي الورق : وزنا بوزن ، وقال في غير ذلك مدا بمد ونحو ذلك .

[ ص: 89 ] وسئل الشافعي ، فقال : العلة في ذلك الأكل لا غير إلا في الذهب والورق ، فلم يقس عليهما غيرهما ، لأنهما أثمان المبيعات ، وقيم المتلفات ، وكذلك قول أصحاب مالك في الذهب والورق ، وعللوا الأربعة ، بأنها أقوات مدخرة فأجازوا التفاضل فيما لا يدخر إذا كان يدا بيد ، ولا بأس عندهم رمانة برمانتين ، وتفاحة بتفاحتين أو ما كان مثل ذلك يدا بيد ، وذلك غير جائز عند الشافعي ; لأن علته في ذلك الأكل ، وسواء عنده ما يدخر ، وما لا يدخر .

والربا عند جماعة العلماء في الصنف الواحد يدخله من جهتين ، وهما النساء ، والتفاضل ، فلا يجوز شيء من الأنواع الستة بمثله ، إلا يدا بيد ، مثلا بمثل ، على ما نص عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإذا اختلف الجنس جاز فيه التفاضل ، ولم يجز فيه النساء ، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بيعوا الذهب بالورق ، كيف شئتم يدا بيد ، وبيعوا البر بالشعير كيف شئتم يدا بيد .

إلا أن مالكا جعل البر والشعير جنسا واحدا ، فلم يجز فيه التفاضل لشيء ، رواه عن سعد بن أبي وقاص ، [ ص: 90 ] وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ، وسليمان بن يسار ; وخالفه في ذلك جماعة فقهاء الأمصار .

وسنذكر هذا المعنى مجودا في باب عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان من كتابنا هذا إن شاء الله .

قال أبو عمر :

لا ربا عند العلماء في غير هذه الأنواع الستة ، وما كان في معناها في عللهم وأصولهم التي ذكرنا ، ولا حرام عندهم في شيء من البيوع بعد ما تضمنت أصولهم المذكورة في هذا الباب على ما وصفنا ، إلا من طريق الزيادة في السلف ، والقول بالذرائع عند من قالها ، وهم مالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما .

وكان سعيد بن المسيب ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأحمد ، وجماعة ذهبوا إلى أن لا ربا إلا في ذهب ، أو ورق أو ما كان [ ص: 91 ] يكال ، أو يوزن مما يؤكل ، ويشرب استدلالا - والله أعلم - بحديث عبادة المذكور في هذا الباب وكانوا ينفون القول بالذرائع ، ويقولون : لا يحكم على مسلم أو غيره بظن ، ولا تشرع الأحكام بالظنون ، ولا ينبغي أن يظن المسلم إلا الخير .

وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : إنما الربا على من أراد أن يربي ، فهذا ما في السنة من أصول الربا .

وأما الربا الذي ورد به القرآن فهو الزيادة في الأجل ، يكون بإزائه زيادة في الثمن ، وذلك أنهم كانوا يتبايعون بالدين إلى أجل ، فإذا حل الأجل ، قال صاحب المال : إما أن تقضي ، وإما أن تربي ، فحرم الله ذلك في كتابه ، وعلى لسان رسوله ، واجتمعت عليه أمته .

ومن هذا الباب عند أهل العلم ضعف وتعجل ; لأنه عكس المسألة ، ومن رخص فيه لم يكن عنده من هذا الباب ، وجعله من باب المعروف .

وأما من نفى القياس من العلماء فإنهم لا يرون الربا في غير الستة الأشياء المذكورة في حديث عبادة بن الصامت ، وما عداها عندهم فحلال جائز بعموم قول الله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا ، وممن روي عنه هذا القول قتادة ، وما حفظته لغيره ، [ ص: 92 ] وهو مذهب داود بن علي ولهذا الباب تلخيص يطول شرحه ويتسع القول فيه ، وفيما ذكرت لك كفاية ، ومقنع لمن تدبر وفهم ، وبالله التوفيق .

وقد ذكرنا منه نكتا مستوعبة كافية في غير موضع من كتابنا هذا ، والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية