التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
975 [ ص: 201 ] حديث ثامن عشر لزيد بن أسلم مسند صحيح

مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : الخيل لثلاثة ; لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر ، فأما الذي هي له أجر ، فرجل ربطها في سبيل الله ، فأطال لها في مرج أو روضة ، فما أصابت في طيلها ( ذلك ) من المرج أو الروضة ، كانت له حسنات ، ولو أنها قطعت طيلها ذلك فاستنت شرفا أو شرفين ، كانت آثارها وأرواثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ، ولم يرد أن يسقى به ، كان ذلك له حسنات ، فهي لذلك أجر . ورجل ربطها تغنيا وتعففا ، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها ، فهي لذلك ستر . ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام ، فهي على ذلك وزر . وسئل عن الحمر ، فقال : لم ينزل علي فيها ( شيء ) ، إلا هذه الآية الجامعة الفاذة : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .


[ ص: 202 ] أبو صالح السمان اسمه ذكوان ، وهو والد سهيل بن أبي صالح ، مدني ، نزل الكوفة ، ثقة مأمون على ما روى وحمل من أثر في الدين ، من خيار التابعين ، وهو مولى لجويرية : امرأة من غطفان .

روى عنه من أهل المدينة : سمي ، وزيد بن أسلم ، والقعقاع بن حكيم ، وعبد الله بن دينار ، وابنه سهيل .

وروى عنه من أهل الكوفة : الأعمش ، والحكم بن عتيبة ، وعاصم بن أبي النجود ، وتوفي أبو صالح السمان بالمدينة سنة إحدى ومائة ، وكان أبو هريرة إذا نظر إلى أبي صالح هذا ، قال : ما على هذا أن لا يكون من بني عبد مناف .

وفي هذا الحديث من الفقه أن الأعيان لا يؤجر المرء في اكتسابها ، إنما يؤجر في استعمال ما ورد الشرع بعمله مع النية التي تزكو بها الأعمال ، إذا نوى بها صاحبها وجه الله ، والدار الآخرة ، وما يقربه من ربه إذا كان ( ذلك ) على سنة ، ألا ترى أن الخيل أجر لمن اكتسبها ، ووزر على من اكتسبها - على ما جاء به الحديث - وهي جنس واحد . قال الله عز وجل : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ، وقال الله تعالى : ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ ص: 203 ] وقال عز وجل : ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون .

وفيه أن الحسنات تكتب للمرء إذا كان له فيها سبب ، وإن لم يقصد قصدها ، تفضلا من الله تعالى على عباده المؤمنين ، ورحمة منه بهم ; وليس هذا حكم ( اكتساب ) السيئات إن شاء الله ، يدلك على ذلك أنه لم يذكر في هذا الحديث ، حركات الخيل وتقلبها في سيئات المفتخر بها ، كما ذكر ذلك في حسنات المحتسب المريد بها البر ; ألا ترى أنها لو قطعت حبلها نهارا ، فأفسدت زرعا ، أو رمحت ، فقتلت أو جنت ، أن صاحبها بريء من الضمان عند جميع أهل العلم . ويبين ذلك أيضا قوله في هذا الحديث : ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ، ولم يرد أن يسقيها ، كان ذلك له حسنات .

وفي هذا دليل على أن المسلم إذا صنع شيئا يريد به الله عز وجل ، فكل ما كان بسبب منه وإليه ، كان له حكمه في الأجر ، والله أعلم .

ومن هذا الباب قوله - صلى الله عليه وسلم - : من كان منتظرا الصلاة فهو في صلاة ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : انتظار [ ص: 204 ] الصلاة بعد الصلاة ذلكم الرباط ، ذلكم الرباط . لأن انتظار الصلاة سبب شهودها .

وكذلك انتظار العدو في الموضع المخوف ، فيه إرصاد للعدو ، ( وقوة لأهل الموضع ، وعدة للقاء العدو ) ، ( وسبب لذلك كله ) .

ومنه قول معاذ بن جبل : وأحتسب في نومتي ، مثل ما أحتسب في قومتي ، وكان ينام بعض الليل ويقوم بعضه ، وبالنوم كان يقوى على القيام ; وكذلك يقوى برعي الخيل ، وأكلها ، وشربها ، على ملاقاة العدو إذا احتيج إليها ; وهذا كله في تعظيم فعل الرباط ، لأنه جلوس وانتظار واستعداد للعدو ، مع ما فيه من الخوف والروعات أحيانا .

وقد يكتب للرجل عمله الذي كان يعمله إذا حبسه عنه عذر من مرض أو غيره ، وفي ذلك المعنى شعبة من هذا المعنى .

وقد أتينا بما روي فيه من الآثار في باب محمد بن المنكدر ، والحمد لله .

[ ص: 205 ] وروى يحيى بن سلام ، قال : أخبرنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، قال : من ارتبط فرسا في سبيل الله ، كان بوله وروثه في أجره .

وروى صالح بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب ، عن أبيه ، عن جده : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : من ارتبط فرسا في سبيل الله ، كان علفه ، وشربه ، وبوله ، وروثه ، في ميزانه يوم القيامة . وأما قوله : ربطها في سبيل الله ; فإنه يعني ارتبطها من الرباط .

قال الخليل : الرباط ملازمة الثغور ، ومواظبة الصلاة أيضا ، قال : والرباط الشيء الذي تربط به ، وتربط ( أيضا ) . وقال أبو حاتم ، عن أبي زيد : الرباط من الخيل ، الخمس فما فوقها ، وجماعة ربط ، وهي التي ترتبط ، يقال منه : ربط يربط ربطا ، وارتبط يرتبط ارتباطا ، ومربط الخيل ، ومرابط الخيل .

قال الشاعر :


أمر الإله بربطها لعدوه في الحرب إن الله خير موفق

[ ص: 206 ] وقالت ليلى الأخيلية :


لا تقربن الدهر آل محرق     إن ظالما أبدا وإن مظلوما
قوم رباط الخيل حول بيوتهم     وأسنة زرق تخلن نجوما

وينشد لابن عباس - رضي الله عنه - من قوله :


أحبوا الخيل واصطبروا عليها     فإن العز فيها والجمالا
إذا ما الخيل ضيعها أناس     ربطناها فشاركت العيالا
نقاسمها المعيشة كل يوم     ونكسوها البراقع والجلالا

وقال مكحول بن عبد الله :


تلوم علي ربط الجياد وحبسها     وأوصى بها الله النبي محمدا

وقال الأخطل :


ما زال فينا رباط     وفي كليب رباط اللؤم والعار

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : فما أصابت في طيلها ، فالطيل : الحبل يطول فيه للدابة ، وهو مكسور الأول ، وقلما يأتي في الأفعال .

[ ص: 207 ] وأما الأسماء فكثير ، مثل : قمع ، وضلع ، ونطع ، وعنب ، وشبع ، وسرر الصبي ، وطيل الدابة . قال القطامي : واسمه عمير بن شييم التغلبي :


إنا محيوك فاسلم أيها الطلل     وإن بليت وإن طالت بك الطيل

وفيه لغة أخرى : طول ، يقال : طال طولك ، وطال طيلك جميعا ، مكسورة الأول ، مفتوحة الثاني ; قال طرفة :


لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى     لكالطول المرخي وثنياه باليد

لا يقال في الخيل إلا بكسر الأول ، وفتح الثاني ، يقال : أرخ للفرس من طواله ، ومن طياله .

وأما طوال الدهر وما كان مثله ، فيقال : بالضم والفتح ، وكذلك الطول ، والطوال من الطول .

وأما قوله من المرج ، أو الروضة ، فقيل المرج : موضع الكلأ ، وأكثر ما يكون ذلك في المطمئن ( من الأرض ) ، والروضة : الموضع المرتفع . وأما قوله : فاستنت شرفا أو شرفين ، فإن الاستنان ، أن تلج في عدوها ، في إقبالها وإدبارها ، يقال : [ ص: 208 ] جاءت الإبل سننا أي تستن في عدوها وتسرع . أنشد يعقوب بن السكيت لأبي قلابة الهذلي :


ومنها عصبة أخرى سراع     رمتها الريح كالسنن الطراب

أي كإبل تستن في عدوها . قال : ورمتها : استخفتها قال : والطراب : التي قد طربت إلى أولادها .

وقال عدي بن زيد :


فبلغنا صنعه حتى نشا     فاره البال لجوجا في السنن

فاره البال : أي ناعم البال .

وقال عوف بن الجزع :


بنو المغيرة في السواد كأنها     سنن تحير حول حوض المبكر

قال يعقوب : يقول : فرقوا الخيل ; فكأنها إبل جاءت سننا ، ثم تفرقت حول حوض المبكر ، ( والمبكر ) الذي يسقي إبله بكرة ، يقال : أبكر الرجل ، وبكر ، وابتكر .

ومن هذا ( أيضا ) حديث عبيد بن عمير ، قال : إن في الجنة لشجرة لها ضروع كضروع البقر ، يغذى بها ولدان الجنة ، حتى أنهم ليستنون كاستنان البكارة ، والبكارة صغار الإبل .

[ ص: 209 ] ومن هذا أيضا قولهم في المثل السائر : استنت الفصال حتى القرعى ; يضرب هذا المثل للرجل الضعيف يرى الجلداء يفعلون شيئا ، فيفعل مثله . فكأنه قال : ولو قطعت حبلها الذي ربطت به ، فجعلت تجري وتعدو من شرف إلى شرف ، يريد من كدية إلى كدية ، كان ذلك كله حسنات لصاحبها ; لأنه أراد باتخاذها وجه الله .

( وأما قوله : شرفا أو شرفين ، فالشرف : ما ارتفع من الأرض ) .

وأما قوله : تغنيا وتعففا ، فإنه أراد استغناء عن الناس ، وتعففا عن السؤال ، يقال منه : تغنيت بما رزقني الله تغنيا ، وتغانيت تغانيا ، واستغنيت استغناء ; كل ذلك قد قالته العرب في ذلك .

قال الشاعر :


كلانا غني عن أخيه حياته     ونحن إذا متنا أشد تغانيا

وقال الأعشى :


وكنت امرأ زمنا بالعراق     عفيف المناخ طويل التغن

[ ص: 210 ] وعلى هذا ( المعنى ) كان ابن عيينة - رحمه الله - يفسر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ليس منا من لم يتغن بالقرآن . يقول : يستغني به ، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ولم ينس حق الله في رقابها ، فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال :

قال منهم قائلون : معناه حسن ملكتها ، وتعهد شبعها ، والإحسان إليها ، وركوبها غير مشقوق عليها ; كما جاء في الحديث : لا تتخذوا ظهورها كراسي .

وخص رقابها بالذكر ; لأن الرقاب تستعار كثيرا في موضع الحقوق اللازمة ، والفروض الواجبة ; ومنه قوله عز وجل : فتحرير رقبة مؤمنة ، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من فارق الجماعة ، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه . وكثر عندهم استعمال ذلك واستعارته ، حتى جعلوه في الرباع والأموال ، ألا ترى إلى قول كثير :


غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا     غلقت لضحكته رقاب المال

[ ص: 211 ] قال أبو عمر : من ذهب في تأويل قوله - صلى الله عليه وسلم - : ولم ينس حق الله في رقابها إلى حسن التملك ، والتعهد بالإحسان ، فهو - والله أعلم - مذهب من قال : إن المال ليس فيه حق واجب سوى الزكاة ، ولم ير في الخيل زكاة ، وهو قول جمهور العلماء .

حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا عبد الله بن يونس ، قال : حدثنا بقي ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا أحمد بن دحيم ، قال : حدثنا إبراهيم بن حماد ، قال : حدثنا عمي إسماعيل بن إسحاق ، قالا ( جميعا ) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : من أدى زكاة ماله ، فلا جناح عليه أن لا يتصدق .

وعلى هذا مذهب أكثر الفقهاء : أنه ليس في الأموال حق واجب غير الزكاة . ومن حجتهم ما ذكره ابن وهب عن عمرو بن الحارث ، عن دراج أبي السمح ، عن ابن حجيرة الخولاني ، عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله [ ص: 212 ] عليه وسلم - ، قال : إذا أديت زكاة مالك ، فقد قضيت ما عليك .

وقال آخرون : معنى قوله ذلك : إطراق فحلها ، وإفقار ظهرها ، وحمل عليها في سبيل الله .

وإلى هذا ونحوه ذهب ابن نافع - فيما أظن - لأن يحيى بن يحيى ، قال : سألت عبد الله بن نافع عن حق الله في رقابها وظهورها ؟ فقال : يريد أن لا ينسى أن يتصدق لله ببعض ما يكتسب عليها . وهذا مذهب من قال : في المال حقوق سوى الزكاة ، وممن قال ذلك : مجاهد ، والشعبي ، والحسن .

ذكر إسماعيل القاضي ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن منصور وابن أبي نجيح ، عن مجاهد : في أموالهم حق معلوم ، قال : سوى الزكاة .

قال : وحدثنا أبو بكر ، وعلي ، قالا : حدثنا ابن فضيل ، عن بيان ، عن عامر ، قال : في المال حق سوى الزكاة .

وزاد فيه إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي ، قال : تصل القرابة ، وتعطي المساكين .

قال : وحدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي حيان ، قال : حدثنا مزاحم بن زفر ، قال : كنت جالسا عند عطاء ( فأتاه أعرابي ) فسأله : إن لي إبلا ، فهل علي فيها حق بعد الصدقة ؟ قال : نعم .

[ ص: 213 ] قال : وحدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن هشام ، عن الحسن ، قال : في المال حق سوى الزكاة .

حدثنا خلف بن القاسم ، قال : حدثنا الحسن بن رشيق ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن زفر القاضي ، قال : حدثنا محمد بن روح أبو يزيد ، قال : حدثنا عبد الملك بن قريب الأصمعي ، قال : حدثنا المبارك بن فضالة ، قال : سمعت الحسن يحدث عن قيس بن عاصم المنقري ، وكان ممن نزل البصرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أنه لما قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : هذا سيد أهل الوبر ، قال : قلت يا رسول الله : ما خير المال ؟ قال : نعم المال الأربعون ، والأكثر الستون ، وويل لأصحاب المئين ، إلا من أدى حق الله في رسله ونجدتها ، وأفقر ظهرها ، وأطرق فحلها ، ومنح غزيرها ، ونحر سمينها ، فأطعم القانع والمعتر . وذكر تمام الحديث .

[ ص: 214 ] ( فقد جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الماشية حقا سوى الزكاة ، وهذا بين في حديث جابر أيضا .

حدثنا سعيد بن نصر : حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم ، لا يؤدي حقها ، إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر ، تطأه ذات الظلف بظلفها ، وتنطحه ذات القرن بقرنها ، ليس فيها يومئذ جماء ، ولا مكسورة القرن ، قالوا : يا رسول الله ! وما حقها ؟ قال : إطراق فحلها ، وإعارة دلوها ، ومنحها ، وحلبها على الماء ، وحمل عليها في سبيل الله ) .

وقال آخرون : أراد بقوله ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها الزكاة الواجبة ( فيها ) ، ولا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار أوجب الزكاة في الخيل ، إلا أبا حنيفة ، وشيخه حماد بن أبي سليمان ، وخالف أبا حنيفة في ذلك صاحباه : أبو يوسف ، ومحمد ، وسائر فقهاء الأمصار .

[ ص: 215 ] فأما أبو حنيفة ، فكان يقول : إذا كانت الخيل سائمة ذكورا وإناثا يطلب نسلها ، فالزكاة فيها عن كل فرس دينار ، قال : وإن شاء قومها ، وأعطى عن كل مائتي درهم خمسة دراهم .

قال أبو عمر :

هذا يدل على ضعف قوله ; لأن المواشي التي تجب فيها الزكاة ، لا يجوز تقويمها عند أحد من أهل العلم . وحجة من لم يوجب الزكاة في الخيل ، قوله - صلى الله عليه وسلم - : ليس على المسلم في عبده ، ولا في فرسه صدقة . وسيأتي هذا الحديث في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى .

وروى علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ( أنه ) قال : عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق .

وقال الثوري ، عن عبد الله بن حسن : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يؤخذ من الخيل شيء . ولم يبلغنا أن أحدا من الخلفاء الراشدين أخذ من الخيل صدقة ، إلا خبر روي عن عمر بن [ ص: 216 ] الخطاب فيه اضطراب ، وعن عثمان فيه خبر منقطع .

وروي عن علي ، وابن عمر : أن لا صدقة في الخيل .

وبذلك قال علماء التابعين ، وفقهاء المسلمين ، إلا ما ذكرنا من قول أبي حنيفة ، وهو قول ضعيف .

فأما الذي روي عن عمر وعثمان : فروى عبد الرزاق عن ابن جريج ، قال : أخبرني عمرو بن دينار ، أن جبير بن يعلى ، أخبره : أنه سمع يعلى بن أمية ، يقول : ابتاع عبد الرحمن بن أمية أخو يعلى بن أمية - من رجل من أهل اليمن ، فرسا أنثى بمائة قلوص ، فندم البائع ، فلحق بعمر ، فقال : غصبني يعلى وأخوه فرسا لي ، فكتب إلى يعلى أن الحق بي ، فأتاه فأخبره الخبر ، فقال عمر بن الخطاب : إن الخيل لتبلغ هذا عندكم ؟ فقال : ما علمت فرسا قبل هذا ، بلغ هذا ، فقال عمر : نأخذ من أربعين شاة ( شاة ) ، ولا نأخذ من الخيل شيئا ; خذ من كل فرس دينارا ، ( قال ) فضرب على الخيل دينارا ، دينارا .

[ ص: 217 ] وعن ابن جريج ، قال : أخبرني ابن أبي حسين ، أن ابن شهاب أخبره : إن عثمان كان يصدق الخيل ، وإن السائب بن يزيد ، أخبره : إنه كان يأتي عمر بن الخطاب بصدقة الخيل .

( قال ابن أبي حسين ) : قال ابن شهاب : لم أعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سن صدقة الخيل .

قال أبو عمر :

الخبر في صدقة الخيل عن عمر ، صحيح من حديث الزهري ، وقد روي من حديث مالك أيضا .

حدثني محمد ، قال : حدثنا علي بن عمر الحافظ ، قال : حدثنا أبو بكر الشافعي ، حدثنا معاذ بن المثنى : حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء : حدثنا جويرية ، عن مالك ، عن الزهري : أن السائب بن يزيد أخبره ، قال : لقد رأيت أبي يقيم الخيل ، ثم يدفع صدقتها إلى عمر - رضي الله عنه - . وهذا حجة لأبي حنيفة ، ومعنى قوله - والله [ ص: 218 ] أعلم - : تفرد به جويرية ، عن مالك ، ( وجويرية ثقة ) .

وقد ذكر معمر عن أبي إسحاق وغيره كلاما ; معناه : عن عمر أن أهل الشام ألحوا عليه في أخذ الصدقات من خيلهم وعبيدهم ، فكان يأخذها منهم ، وكان يرزقهم مثل ذلك من الأجرية ، ( قال ) : فلما كان معاوية ، حسب ذلك ، فإذا الذي كان يعطيهم ، أكثر من الذي كان يأخذ منهم ، فترك ذلك ولم يأخذ منهم شيئا ، ولم يعطهم شيئا .

وأما قوله : ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام ، فالفخر والرياء معروفان .

فأما النواء ، فهو مصدر ناوأت العدو مناوأة ونواء ( وهي المساواة ) ، قال أهل اللغة : أصله من ناء إليك ونؤت إليه ; أي : نهض إليك ونهضت إليه ، قال بشر بن أبي خازم :


بلت قتيبة في النواء بفارس     لا طائش رعش ولا وقاف

وقال أعشى باهلة :


أما يصبك عدو في مناوأة     يوما فقد كنت تستعلي وتنتصر

[ ص: 219 ] وقال أوس بن حجر :


إذا أنت ناوأت الرجال فلم تنوء     بقرنين غرتك القرون الكوامل
إذا ما استوى قرناك لم يهتضمهما     عزيز ولم يأكل صفيفك آكل
ولا يستوي قرن النطاح الذي به     تنوء وقرن كلما قمت مائل

( وقال جرير :


إني امرؤ لم أرد فيمن أناوئه     للناس ظلما ولا للحرب ادهانا

وأما قوله : الآية الجامعة الفاذة ، فالفاذ : هو الشاذ ، والفاذة : الشاذة ، قال ابن الأعرابي : يقال : ما يدع في الحرب فلان شاذا ولا فاذا ; أي : إنه شجاع لا يلقاه أحد إلا قتله ، ويقال : فاذة ، وفذة ، وفاذ ، وفذ ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ .

قال أبو عمر :

يعني - والله أعلم - أنها آية منفردة في عموم الخير والشر ، ولا أعلم آية أعم منها ، لأنها تعم كل خير وكل شر .

[ ص: 220 ] فأما الخير ; فلا خلاف بين المسلمين أن المؤمن يرى في القيامة ما عمل من الخير ، ويثاب عليه .

وأما الشر ; فلله عز وجل أن يغفر ، وله أن يعاقب قال الله عز وجل : إن الحسنات يذهبن السيئات ، ولما نزلت : من يعمل سوءا يجز به ، بكى أبو بكر ، وقال : يا رسول الله ! أكل ما نعمل نجزي به ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا أبا بكر ! ألست تمرض ؟ ألست تنصب ؟ ألست تصيبك اللأواء ؟ فذلك ما تجزون به في الدنيا . وقال - صلى الله عليه وسلم - : المرض كفارة ، وما يصيب المؤمن من مصيبة ، إلا كفر بها من خطاياه .

وقوله في الحمر في هذا الحديث ، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : في كل ( ذي ) كبد رطبة أجر .

وكان الحميدي - رحمه الله - يقول : إن اتخذت حمارا ، [ ص: 221 ] فانظر كيف تتخذه ؟ أما الخيل فقد جاء فيها ما جاء .

وفي هذا الحديث - والله أعلم - دليل على أن كلامه ذلك في الخيل كان بوحي من الله ، لأنه قال في الحمر : لم ينزل علي فيها شيء ، إلا الآية الجامعة الفاذة . فكان قوله في الخيل نزل عليه ، والله أعلم .

ألا ترى إلى قوله : لقد عوتبت الليلة في الخيل . وهذا يعضد قول من قال : إنه ( كان ) لا يتكلم في شيء إلا بوحي ، وتلا : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، واحتج بقوله : أوتيت الكتاب ومثله معه ، وبقول عبد الله بن عمرو : يا رسول الله ! أكتب كل ما أسمع منك ؟ قال : نعم ، قال : في الرضا والغضب ؟ قال : نعم ، فإني لا أقول إلا حقا .

التالي السابق


الخدمات العلمية