التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
712 [ ص: 260 ] حديث موفي عشرين لزيد بن أسلم ، مسند صحيح

مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين ، عن أبيه أن ابن عباس والمسور ، اختلفا بالأبواء ; فقال ابن عباس : يغسل المحرم رأسه ، وقال المسور : لا يغسل المحرم رأسه ; قال : فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري ، فوجدته يغتسل بين القرنين ، وهو يستر بثوب ، قال : فسلمت عليه ، فقال : من هذا ؟ قلت : أنا ( عبد الله ) بن حنين ، أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك : كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه وهو محرم ؟ قال : فوضع أبو أيوب يده على الثوب ، فطأطأ حتى بدا لي رأسه ، ثم قال لإنسان يصب عليه : اصبب ، فصب على رأسه ، ثم حرك رأسه بيديه ، فأقبل بهما وأدبر ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل .


[ ص: 261 ] روى يحيى بن يحيى هذا الحديث ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن نافع ، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين ، عن أبيه ; فذكره ، ولم يتابعه على إدخال نافع بين زيد بن أسلم ، وبين إبراهيم بن عبد الله بن حنين ، أحد ( من ) رواة الموطأ عن مالك فيما علمت ، وذكر نافع في هذا الإسناد عن مالك ، خطأ عندي لا أشك فيه ; فلذلك لم أر لذكره في الإسناد وجها ، وطرحته منه كما طرحه ابن وضاح وغيره ، وهو الصواب إن شاء الله ، وهذا مما يحفظ من خطأ يحيى بن يحيى في الموطأ وغلطه . ومثل هذا من غلطه الواضح أيضا روايته في كتاب الحج أيضا ، عن مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدى جملا ( كان ) لأبي جهل بن هشام ، وهذا غلط غير مشكل ، وليس لذكر نافع في هذا الإسناد وجه ، وإنما رواه مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، لا عن نافع ، وكذلك هو عند ( كل ) من روى الموطأ عن مالك .

وقد روى عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين هذا ; ابن شهاب ، ونافع مولى عبد الله بن عمر ، وزيد بن أسلم ، ومحمد بن عمرو ، ومحمد بن إسحاق ، والحارث بن أبي ذباب ، ويزيد بن أبي حبيب ، وأبو الأسود محمد بن عبد الرحمن ، وموسى بن عبيدة ، وغيرهم .

[ ص: 262 ] وحنين جد إبراهيم هذا ، يقال : إنه مولى العباس بن عبد المطلب ، وقيل : مولى علي بن أبي طالب ; فالله أعلم .

واختلف على إبراهيم بن عبد الله بن حنين هذا ، ( في حديثه ) ، عن أبيه ، عن علي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن القراءة في الركوع ، والتختم بالذهب ، اختلافا يدل على أنه لم يكن بالحافظ ; والله أعلم .

وسنذكر ( ذلك ) في باب حديث نافع من كتابنا هذا إن شاء الله .

( وروى هذا الحديث ابن عيينة ، عن زيد بن أسلم بإسناده ; وقال في آخره : قال المسور لابن عباس : والله لا ماريتك أبدا ) .

حدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا الخشني .

[ ص: 263 ] حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا زيد بن أسلم ، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين ، عن أبيه ، قال : تمارى ابن عباس والمسور بن مخرمة في المحرم يغسل رأسه بالماء ، وهما بالعرج ، فأرسلوني إلى أبي أيوب الأنصاري أسأله ، قال : فأتيته وهو يغتسل بين قرني البئر ، فسلمت عليه ، فرفع رأسه ، وضم ثوبه إلى صدره ، حتى إني لأنظر إلى صدره ; فقلت : أرسلني إليك ابن أخيك عبد الله بن عباس ، أسألك : كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه وهو محرم ؟ قال : فغرف الماء على رأسه ، وأمر على رأسه ، فأقبل به وأدبر ، وقال : هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ; فقال المسور : والله لا ماريتك أبدا .

وفي هذا الحديث من الفقه ، أن الصحابة إذا اختلفوا ، لم تكن الحجة في قول واحد منهم ، إلا بدليل يجب التسليم له من الكتاب أو السنة ،ألا ترى أن ابن عباس ، والمسور - وهما من فقهاء الصحابة ، وإن كانا من أصغرهم سنا ; اختلفا ، فلم يكن لواحد منهما حجة على صاحبه ، حتى أدلى ابن عباس بالسنة ففلج ، وهذا يبين لك أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أصحابي كالنجوم . هو على ما فسره المزني وغيره من أهل النظر ، أن ذلك في النقل ; لأن جميعهم ثقات مأمونون عدل رضى ، فواجب قبول ما نقل كل واحد منهم ، وشهد به على نبيه - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 264 ] ولو كانوا كالنجوم في آرائهم واجتهادهم إذا اختلفوا ; لقال ابن عباس للمسور : أنت نجم وأنا نجم ، فلا عليك ، وبأينا اقتدى في قوله : فقد اهتدى ، ولما احتاج إلى طلب البينة ( والبرهان ) من السنة على ( صحة ) قوله .

وسائر الصحابة - رضي الله عنهم - إذا اختلفوا ، حكمهم في ذلك كحكم ابن عباس والمسور بن مخرمة سواء ، وهم أول من تلا : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول . قال العلماء : إلى كتاب الله ، وإلى سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فإن قبض ، فإلى سنته . ألا ترى أن ابن مسعود قيل له : إن أبا موسى الأشعري قال في أخت وابنة ، وابنة ابن : إن للابنة النصف ، وللأخت النصف ، ولا شيء لبنت الابن ; وأنه قال للسائل : ائت ابن مسعود ، فإنه سيتابعنا . فقال ابن مسعود : قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ، بل أقضي فيها بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : للبنت النصف ، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين ، وما بقي فللأخت .

وبعضهم لم يرفع ( هذا ) الحديث ، وجعله موقوفا على ابن مسعود .

[ ص: 265 ] وكلهم روى فيه ، أنه تلا : قد ضللت إذا الآية .

وفي الموطأ أن أبا موسى أفتى بجواز رضاع الكبير ، فرد ذلك عليه ابن مسعود ، فقال أبو موسى : لا تسئلوني ما دام هذا الحبر بين أظهركم .

وروى مالك أن ابن مسعود رجع عن قوله في الربيبة ، إلى قول أصحابه بالمدينة . وهذا الباب في اختلاف الصحابة ، ورد بعضهم على بعض ، وطلب كل واحد منهم الدليل والبرهان على ما قاله من الكتاب والسنة إذا خالفه صاحبه - أكبر من أن يجمع في كتاب فضلا عن أن يكتب في باب ، والأمر فيه واضح .

وإذا كان هذا محل الصحابة - رضي الله عنهم - وهم أولو العلم ) ( والدين ) والفضل ، ( وخير ) أمة أخرجت للناس ، وخير القرون ، ومن قد رضي الله عنهم ، وأخبر بأنهم رضوا عنه ، وأثنى عليهم بأنهم الرحماء بينهم ، الأشداء على الكفار ، الركع السجد ، وأنهم الذين أوتوا العلم ; ( قال مجاهد وغيره في قول الله عز وجل : ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ، قال : أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، إلى كثير من ثناء الله عز وجل عليهم ، واختياره إياهم لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، [ ص: 266 ] فإذا كانوا - وهم بهذا المحل من الدين والعلم - لا يكون أحدهم على صاحبه حجة ، ولا يستغنى عند خلاف غيره له عن حجة من كتاب الله ، أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; فمن دونهم أولى وأحرى أن يحتاج إلى أن يعضد قوله بوجه يجب التسليم له .

حدثني أحمد بن فتح ، قال : حدثنا أحمد بن الحسن بن عتبة الرازي ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر بن عبد العزيز العمري ; قال : حدثنا الزبير بن بكار ، قال : حدثنا سعيد بن داود بن أبي زنبر ، عن مالك بن أنس ، عن داود بن الحصين ، عن طاوس ، عن عبد الله بن عمر ، قال : العلم ثلاثة أشياء : كتاب ناطق ، وسنة ماضية ، ولا أدري .

وروى ابن وهب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن زياد المعافري ، عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : العلم ثلاثة ، فما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة ، وسنة قائمة ، وفريضة عادلة .

وقال إسماعيل القاضي : حدثنا أبو ثابت ، عن ابن وهب ، قال : قال مالك : الحكم حكمان : حكم جاء به كتاب الله ، وحكم أحكمته السنة . قال : ومجتهد رأيه ، فلعله يوفق . قال : ومتكلف فطعن عليه .

وذكر ابن وضاح ، عن محمد بن يحيى ، عن ابن وهب ، قال : قال [ ص: 267 ] لي مالك : الحكم الذي يحكم به الناس حكمان : ما في كتاب الله ، أو أحكمته السنة ، فذلك الحكم الواجب ، وذلك الصواب .

والحكم الذي يجتهد فيه الحاكم برأيه ، فلعله يوفق ، وثالث متكلف فما أحراه أن لا يوفق .

قال : وقال لي مالك : الحكمة والعلم . وقال مرة : والفقه نور يهدي به الله من يشاء من خلقه ، ويؤتيه من أحب من عباده ، وليس بكثرة المسائل .

قال أبو عمر :

إجماع الصحابة حجة ثابتة ، وعلم صحيح ، إذا كان طريق ذلك الإجماع التوقيف ، فهو أقوى ما يكون من السنن ; وإن كان اجتهادا ، ولم يكن في شيء من ذلك مخالفا ، فهو أيضا علم وحجة لازمة . قال الله عز وجل : ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا . وهكذا إجماع الأمة ، إذا اجتمعت على شيء ، فهو الحق الذي لا شك فيه ; لأنها لا تجتمع على ضلال ، وما عدا هذه الأصول ، فكما قال مالك - رحمه الله - .

وقد تقصينا الأقاويل في هذا الباب ، في كتابنا في العلم ، فمن أحبه تأمله هناك ، وبالله تعالى التوفيق .

[ ص: 268 ] وفي هذا الحديث دليل - والله أعلم - على أن ابن عباس قد كان عنده في غسل المحرم رأسه ، علم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أنبأه ذلك أبو أيوب أو غيره ; لأنه كان يأخذ علم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السنن وغيرها عن جميعهم ، ويختلف إليهم ; ألا ترى إلى قول عبد الله بن حنين لأبي أيوب رحمه الله : أرسلني إليك ابن عباس أسألك كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه وهو محرم ؟ ولم يقل : ( هل ) كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه وهو محرم ؟ على حسبما اختلفا فيه ; فالظاهر - والله أعلم - أنه قد كان عنده من ذلك علم .

واختلف أهل العلم في غسل المحرم رأسه بالماء ، فكان مالك لا يجيز ذلك للمحرم ويكرهه ( له ) ، ومن حجته أن عبد الله بن عمر ، كان لا يغسل رأسه وهو محرم ، إلا من احتلام .

قال مالك : فإذا رمى المحرم جمرة العقبة ( جاز له غسل رأسه - وإن لم يحلق - قبل الحلق ، لأنه إذا رمى جمرة العقبة ) فقد حل [ ص: 269 ] له قتل القمل ، وحلق الشعر ، وإلقاء التفث ، ولبس الثياب ، قال : وهذا الذي سمعت من أهل العلم .

وعند جويرية في هذا الباب ، عن مالك ، حديث غريب صحيح ; حدثناه عبد الرحمن بن يحيى ، قال : حدثنا أحمد بن سعيد ، قال : حدثنا ابن الأعرابي ، وحدثنا محمد ، قال : حدثنا علي بن عمر الحافظ ، قال : حدثنا إسماعيل بن محمد الصفار ، قالا : حدثنا أبو داود السجستاني ، حدثنا سوار بن سهل القرشي ، حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء ، حدثنا جويرية ، عن مالك ، عن الزهري ، عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي ; أنه رأى قيس بن سعد بن عبادة ، غسل أحد شقي رأسه بالشجرة ، ثم التفت فإذا هديه قد قلدت ، فقام فأهل قبل أن يغسل شق رأسه الآخر .

وقال الثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، والأوزاعي ، وأحمد بن حنبل ، وأبو ثور ، وداود : لا بأس بأن يغسل المحرم رأسه بالماء ; وكان عمر بن الخطاب يغسل رأسه بالماء وهو محرم ، ويقول : لا يزيده الماء إلا شعثا .

ورويت الرخصة في ذلك ( أيضا ) عن ابن عباس ، وجابر بن عبد الله ، وعليه جماعة التابعين ، وجمهور فقهاء المسلمين .

[ ص: 270 ] وقد أجمعوا أن المحرم يغسل رأسه من الجنابة ، وأتباع مالك في كراهيته للمحرم غسل رأسه بالماء ( قليل ) ، وقد كان ابن وهب وأشهب يتغاطسان - وهما محرمان - مخالفة لابن القاسم في إبايته من ذلك ; وكان ابن القاسم يقول : إن من غمس رأسه في الماء ، أطعم شيئا ، خوفا من قتل الدواب ، ولا بأس عند جميعهم أن يصب الماء ( على ) المحرم لحر يجده .

وكان أشهب يقول : لا أكره للمحرم غمس رأسه في الماء ، قال : وما يخاف في الغمس ، ينبغي أن يخاف مثله في صب الماء على الرأس من الحر .

وأما غسل المحرم رأسه بالخطمي والسدر ، فالفقهاء على كراهية ذلك ، هذا مذهب مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، وأصحابهم . وكان مالك ، وأبو حنيفة ; يريان الفدية على المحرم إذا غسل رأسه بالخطمي .

وقال أبو ثور : لا شيء عليه إذا فعل ذلك . وكان عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، يرخصون للمحرم إذا كان قد لبد رأسه ( في غسل رأسه ) بالخطمي ليلين .

[ ص: 271 ] وروي عن ابن عمر أنه كان يفعل ذلك ، ويحتمل أن يكون هذا من فعل ابن عمر بعد رمي جمرة العقبة ، وكان - رضي الله عنه - إذا لبد ، حلق ; فإنما كان فعله ( ذلك ) - والله تعالى أعلم - عونا على الحلق . واحتج بعض المتأخرين على جواز غسل المحرم رأسه بالخطمي ، بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالمحرم الميت أن يغسلوه بماء وسدر ، وأمرهم أن يجنبوه ما يجتنب المحرم ، قال : فدل ذلك على إباحة غسل رأس المحرم بالسدر ، قال : والخطمي في معناه .

قال أبو عمر :

هذا حديث اختلف الفقهاء في القول به ، وليس هذا موضع الكلام فيه . واختلفوا أيضا في دخول ( المحرم ) الحمام ، فكان مالك وأصحابه يكرهون ذلك ، ويقولون : من دخل الحمام ، فتدلك ، وأنقى الوسخ ، فعليه الفدية . وكان الثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وداود بن علي ، لا يرون بدخول المحرم الحمام بأسا .

وروي عن ابن عباس من وجه ثابت ، أنه كان يدخل الحمام وهو محرم .

[ ص: 272 ] وفي هذا الحديث أيضا استتار الغاسل عند الغسل ، ومعلوم أن الذي كان يستره بالثوب لا يطلع منه على ما يستره به عن مثله ، فالسترة واجبة على القريب والبعيد ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : استر عورتك إلا عن زوجتك أو أمتك . وهذا معناه عند الحاجة إلى ذلك لا غير .

وسيأتي في ستر العورة ما فيه كفاية في باب ابن شهاب ، إن شاء الله تعالى .

وأما قوله : يغتسل بين القرنين ، فقال ابن وهب : القرنان العمودان المبنيان اللذان فيهما السانية على رأس الجحفة .

وقال غيره : هما حجران مشرفان ، أو عمودان على الحوض يقوم عليهما السقاة .

التالي السابق


الخدمات العلمية