التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
3 [ ص: 331 ] حديث سادس وعشرون لزيد بن أسلم مرسل ، وهو أول

حديث من مراسيل عطاء بن يسار

مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، قال : جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فسأله عن وقت صلاة الصبح ، قال : فسكت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حتى إذا كان من الغد ، صلى الصبح ( حين طلع الفجر ، ثم صلى الصبح ) من الغد بعد أن أسفر ، ثم قال : أين السائل عن وقت الصلاة ؟ قال : هأنذا يا رسول الله ، فقال : ما بين هذين وقت .


قال أبو عمر :

لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث كما رواه يحيى سواء ، وقد يتصل معناه من وجوه شتى : من حديث أبي موسى الأشعري ، وحديث جابر ، وحديث عبد الله بن عمرو ، وحديث بريدة الأسلمي ; إلا أن في هذه الأحاديث كلها سؤال السائل [ ص: 332 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مواقيت الصلوات جملة ، وإجابته إياه في الصبح بمثل ( معنى ) حديث مالك هذا .

وقد روى أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مثل حديث عطاء بن يسار هذا سواء في صلاة الصبح وحدها ، لم يشرك معها غيرها ; رواه جماعة عن حميد الطويل ، عن أنس ; منهم حماد بن سلمة وغيره : أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي ، أن أباه أخبره قال : أخبرنا أحمد بن خالد ، قال : أخبرنا علي بن عبد العزيز ، قال : أخبرنا حجاج بن منهال ، قال : أخبرنا حماد بن سلمة ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وقت صلاة الفجر ، فقال : صلها معنا غدا ، فصلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - بغلس ، فلما كان اليوم الثاني أخر حتى أسفر ، ثم قال : أين السائل عن وقت هذه الصلاة ؟ فقال الرجل : أنا يا نبي الله ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أليس قد حضرتها معنا أمس واليوم ؟ قال : بلى ، قال : فما بينهما وقت .

وحدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد ، قال : أخبرنا محمد بن معاوية ، قال : أخبرنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا علي بن حجر ، [ ص: 333 ] قال : أخبرنا إسماعيل ، قال : حدثنا حميد ، عن أنس أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فسأله عن وقت صلاة الغداة ، فلما أصبحنا من الغد ، أمر حين انشق الفجر أن تقام الصلاة ، فصلى بنا ، فلما كان من الغد ، أسفر ، ثم أمر فأقيمت الصلاة ، فصلى بنا ، ثم قال : أين السائل عن وقت الصلاة ؟ ما بين هذين وقت .

وهذا إسناد صحيح متصل بلفظ حديث عطاء بن يسار ومعناه .

وقد روي من حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

وبلغني أن سفيان بن عيينة حدث بهذا الحديث ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أنس بن مالك ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وما أدري كيف صحة هذا عن سفيان ؟ وأما الحديث عن زيد بن أسلم ، فالصحيح فيه أنه من مرسلات عطاء ، والله أعلم .

وفي هذا الحديث من الفقه تأخير البيان عن وقت السؤال إلى وقت آخر يجب فيه فعل ( ذلك ، إذا كان لعلة جائز عند أكثر أهل العلم ) .

وأما تأخير البيان عن حين تكليف الفعل والعمل حتى ينقضي وقته فغير جائز عند الجميع ، وهذا باب طال فيه الكلام بين أهل النظر من أهل الفقه ; فمن أجاز تأخير البيان في هذا الباب ، احتج من جهة الأثر بهذا الحديث وما أشبهه ، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في حجته : خذوا عني مناسككم ، ( والمناسك ) لم تتم إلا في [ ص: 334 ] أيام ، وقد كان يمكنه أن يعلمهم ذلك قولا ، في مدة أقرب من مدة تعليمه إياهم عملا ; وكذلك قد كان قادرا على أن يبين للسائل ميقات تلك الصلاة ، وسائر الصلوات بقوله في مجلسه ذلك ، ولكنه أخر ذلك ليبين ذلك له عملا ; ولم يمتنع من ذلك لما يخاف عليه من اخترام المنية ; لأن الله عز وجل قد كان أنبأه - والله أعلم - أنه لا يقبضه حتى يكمل به الدين ، ويبين للأمة على لسانه ما يتوصل به إلى معرفة الأحكام ; وكذلك فعل - صلى الله عليه وسلم - ، ولله الحمد كثيرا .

وقد يكون البيان بالفعل أثبت أحيانا فيما فيه عمل من القول ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ليس الخبر كالمعاينة . رواه ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يروه ( غيره والله أعلم ) .

ومعلوم أن الصدر الأول لم يخبروا بما سمعوا من الأخبار ضربة واحدة ، بل كانوا يخبرون بالشيء على حسب الحال ، ونزول النوازل ; وكذلك الأخبار المستفيضة أيضا ، لم تقع ضربة واحدة ، والكلام في هذا الباب يطول جدا ، وليس هذا موضعه ; وفيما لوحنا به منه كفاية وتنبيه ، إن شاء الله تعالى .

وفي هذا الحديث أيضا أن أول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر ، وإن وقتها ممدود إلى آخر الإسفار حتى تطلع الشمس .

[ ص: 335 ] فأما أول وقتها ، فلا خلاف بين علماء المسلمين أنه طلوع الفجر ، على ما في هذا الحديث وغيره ; وهو إجماع ، فسقط الكلام فيه . والفجر هو أول بياض النهار الظاهر المستطير في الأفق ، المستنير المنتشر ، تسميه العرب الخيط الأبيض ، قال الله عز وجل : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ; يريد بياض النهار من سواد الليل .

قال أبو دؤاد الإيادي :


فلما أضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيط أنارا

وقال آخر :


قد كاد يبدو أو بدت تباشره     وسدف الليل البهيم ساتره

وقد سمته أيضا الصديع ، ومنه قولهم : انصدع الفجر .

قال بشر بن أبي خازم ، أو عمرو بن معدي كرب :


به السرحان مفترشا يديه     كأن بياض لبته الصديع

[ ص: 336 ] وشبهه الشماخ بمفرق الرأس ، فقال :


إذا ما الليل كان الصبح فيه     أشق كمفرق الرأس الدهين

ويقولون للأمر الواضح : هذا كفلق الصبح ، وكانبلاج الفجر ، وتباشير الصبح .

قال الشاعر :


فوردت قبل انبلاج الفجر     وابن ذكاء كامن في كفر

وذكاء : الشمس ، فسمى الصبح ابن ذكاء ، والكفر : ظلمة الليل ، ويقال لليل : كافر ، لتغطيته الأشياء بظلمته .

وأما آخر وقتها ، فكان مالك فيما حكى عنه ابن القاسم يقول : آخر وقت ( صلاة ) الصبح الإسفار ، كأنه ذهب إلى هذا الحديث ; لأنه صلاها في اليوم الثاني حين أسفر ، ثم قال : ما بين هذين وقت ، فكان ظاهر قوله : إن ما عدا هذين فليس بوقت ; ومعنى قوله : ما بين هذين وقت ، يريد هذين وما بينهما وقت .

وأما الشافعي ، والثوري ، وجمهور الفقهاء ، وأهل الآثار ، فإنهم قالوا : آخر صلاة الصبح أن تدرك منها ركعة قبل طلوع [ ص: 337 ] الشمس ، وروي مثل ذلك عن مالك أيضا ، فبان بذلك أن قوله في رواية ابن القاسم عنه : آخر وقت صلاة الصبح الإسفار ، أنه أراد الوقت المستحب ، ويوضح ذلك أيضا أنه لا خلاف عنه ، ولا عن أصحابه أن مقدار ركعة قبل طلوع الشمس عندهم وقت في صلاة الصبح لأصحاب الضرورات ، وأن من أدرك منهم ذلك ، لزمته الصلاة ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس ، فقد أدرك الصبح .

وقيل : إن هذا الحديث أيضا دليل على أن أول الوقت وآخره سواء ، وبهذا نزع من قال : ( أن لا ) فضل لأول الوقت على آخره ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ما بين هذين وقت . قال بذلك قوم من أهل الظاهر ، وخالفهم جماعة من الفقهاء ، ونزعوا بأشياء ، سنذكر بعضها في هذا الباب إن شاء الله .

والذي في قوله : ما بين هذين وقت مما لا يحتمل تأويلا ، سعة الوقت ، وبقي التفضيل بين أوله وآخره موقوفا على الدليل .

واختلف الفقهاء في الأفضل في وقت صلاة الصبح ، فذهب العراقيون ; أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والحسن بن حي ، وغيرهم ، إلى أن الإسفار بها أفضل من التغليس في الأزمنة كلها ; [ ص: 338 ] في الشتاء والصيف ، واحتجوا بحديث رافع بن خديج ، وما كان مثله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك . وحديث رافع يدور على عاصم بن عمر بن قتادة ، وليس بالقوي ، رواه عنه محمد بن إسحاق ، وابن عجلان ، وغيرهما .

أخبرنا أحمد بن قاسم ( بن عبد الرحمن قراءة مني عليه ) ، أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا الحرث بن أبي أسامة ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن عجلان ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن رافع بن خديج ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أسفروا بالفجر ، فكلما أسفرتم فهو أعظم للأجر . وهذا أحسن أسانيد هذا الحديث .

وقد رواه بقية بن الوليد ، عن شعبة عن داود البصري ، عن [ ص: 339 ] زيد بن أسلم ، عن محمود بن لبيد ، عن رافع بن خديج ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا إسناد ضعيف ; لأن بقية ضعيف ، وزيد بن أسلم لم يسمع من محمود بن لبيد .

واحتجوا أيضا بأن علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، كانا يسفران بصلاة الصبح .

وكان مالك ، والليث بن سعد ، والأوزاعي ، والشافعي ، يذهبون إلى أن الصبح أفضل ; وهو قول أحمد بن حنبل ، وداود بن علي ، وأبي جعفر الطبري .

والحجة لهم في ذلك ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الصبح فينصرف النساء ( متلففات بمروطهن ) ، ما يعرفن من الغلس ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يغلس بالصبح إلى أن توفي صلوات الله عليه .

حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الحميد بن أحمد ، حدثنا الخضر بن داود ، حدثنا أبو بكر الأثرم ، قال : قلت لأحمد بن حنبل : ما معنى قوله : أسفروا بالفجر ؟ فقال : إذا بان الفجر فقد أسفر ; قلت : كان أبو نعيم يقول في حديث رافع بن خديج : أسفروا [ ص: 340 ] بالفجر ، فكلما أسفرتم بها فهو أعظم للأجر ، فقال : نعم كله سواء ; إنما هو إذا تبين الفجر فقد أسفر .

قال أبو بكر : يقال في المرأة إذا كانت متنقبة فكشفت عن وجهها : قد أسفرت عن وجهها ، فإنما هو أن ينكشف الفجر ، وهكذا بلغني عن أبي عبد الله ; يعني أحمد بن حنبل - رحمه الله - .

قال أبو عمر :

صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، أنهم كانوا يغلسون ; ومحال أن يتركوا الأفضل ، ويأتوا الدون ، وهم النهاية في إتيان الفضائل ; ولا معنى لقول من احتج بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يخير بين أمرين قط ، إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما ; لأنه معلوم أن الإسفار أيسر على الناس من التغليس ، وقد اختار التغليس لفضله .

وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أول الوقت رضوان الله ، وآخره عفو الله . فكان العفو إباحة ، والفضل كله في رضوان الله .

وسئل عليه السلام عن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله ؟ فقال : الصلاة في أول وقتها .

[ ص: 341 ] حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق ( القاضي ) ، قال : حدثنا عبد الواحد بن غياث ، قال : حدثنا قزعة بن سويد ، قال : حدثنا عبد الله بن عمر ، عن القاسم بن غنام ، عن بعض أمهاته ، عن أم فروة ، قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : إن أحب الأعمال إلى الله عز وجل الصلاة لأول وقتها . وهذا أحسن أسانيد هذا الحديث . وقد روي عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه ، ولا يصح إسناده .

وأصح دليل على تفضيل أول الوقت مما قد نزع به ابن خواز بنداد وغيره ، قوله عز وجل : فاستبقوا الخيرات .

[ ص: 342 ] فوجبت المسابقة إليها ، وتعجيلها ، وجوب ندب وفضل ; للدلائل القائمة على جواز تأخيرها .

ومما يدل على أن أول الوقت أفضل أيضا ما حدثناه أحمد بن قاسم بن عيسى ، قال : حدثنا عبيد الله بن محمد بن حبابة البغدادي ( ببغداد ) ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، قال : حدثني جدي ، قال : حدثنا يعقوب بن الوليد ، عن ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن أحدكم ليصلي الصلاة ( وما فاته وقتها ) ، ولما فاته من وقتها أعظم أو أفضل من أهله وماله .

وقوله في هذا الحديث : ولما فاته من وقتها ، دليل على أنه لم يفته وقتها كله - والله أعلم - ; لأن من حقها التبعيض .

ولا خلاف بين المسلمين أن من صلى صلاته في شيء من وقتها ، أنه غير حرج إذا أدرك وقتها ; ففي هذا ما يغني عن الإكثار ، ولكنهم اختلفوا في الأفضل من ذلك على ما ذكرناه ، ومعلوم أن من بدر إلى أداء فرضه في أول وقته ، كان قد سلم مما يلحق المتواني من العوارض ، ولم تلحقه ملامة ; وشكر له بداره إلى طاعة ربه .

وقد أجمع المسلمون على تفضيل تعجيل المغرب ; من قال : إن وقتها ممدود إلى مغيب الشفق ، ومن قال : إنه ليس لها إلا وقت واحد ، كلهم يرى تعجيلها أفضل .

[ ص: 343 ] وأما الصبح ، فكان أبو بكر الصديق ، وعمر الفاروق ، يغلسان بها ; فأين المذهب عنهما ؟

وبذلك كتب عمر إلى عماله : أن صلوا الصبح ، والنجوم بادية مشتبكة . وعلى تفضيل أوائل الأوقات جمهور العلماء ، وأكثر أئمة الفتوى .

وسيأتي شيء من هذا ( المعنى في ) الباب الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية