التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
قال البخاري : حدثنا مكي بن إبراهيم ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن جابر ، قال : أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا أن يقيم على إحرامه ، قال جابر : وقدم علي من سعايته ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : بم أهللت يا علي ؟ قال : بما أهل به النبي ، قال : فأهد وامكث حراما كما أنت .

وحديث أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل معنى حديث علي عنه في ذلك سواء ، وكلاهما حديث [ ص: 113 ] ثابت صحيح .

ذكر البخاري قال : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن أبي موسى ، قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومي باليمن ، فجئت وهو بالبطحاء ، فقال : بم أهللت ؟ قلت أهللت بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه ، قال : هل معك هدي ؟ قلت : لا ، وذكر الحديث .

ففي هذين الحديثين أن عليا وأبا موسى لم ينويا شيئا معينا من حج مفرد ، ولا عمرة ، ولا قران ، وإنما أهلا محرمين ، وعلقا النية في عملهما بما نواه وعمله غيرهما ، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فدل ذلك والله أعلم على أن النية في الإحرام بالحج ليس كالنية في الإحرام بالصلاة ، ألا ترى أن الدخول في الصلاة مفتقر إلى القول والنية جميعا ، وهو التكبير واعتقاد تعيين الصلاة بعينها ، وليس الحج كذلك ; لأنه يصح عندهم بالنية دون التلبية ، ألا ترى أن الحج قد يدخل فيه بغير التلبية من الأعمال ، مثل إشعار الهدي ، والتوجه نحو البيت إذا نوى بذلك الإحرام ، ومثل أن يقول : قد أحرمت بالحج ، أو بالعمرة أو نحو ذلك ، ولا يصح الإحرام في الصلاة إلا بالتكبير ، فلهذا جاز نقل الإحرام في الحج من شيء إلى مثله ويصحح ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي ، فليجعلها عمرة فأجاز أن يدخل فيه بوجه ويصرفه إلى غيره ، ولهذا قال : إنه يدخل فيه الصغير ثم يبلغ ، فيبني على ذلك في عمله إذا صح له الوقوف بعرفة ; لأنه أصل الحج الذي يبنى عليه ما سواه منه ، والكلام في هذه المسألة يطول ، وفيما لوحنا به مقنع إن شاء الله .

[ ص: 114 ] وقد ذكر الربيع في كتاب البويطي عن الشافعي قال : ولو لبى رجل ولم ينو حجا ولا عمرة ، لم يكن حاجا ولا معتمرا ، ولو نوى ولم يحرم حتى قضى المناسك كان حجه تاما ، واحتج بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الأعمال بالنية قال : ومن فعل مثل ما فعل علي - رضي الله عنه - حين أهل على إهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - أجزأته تلك النية لأنها وقعت على نية لغيره قد تقدمت .

قال أبو عمر : فإن لم يكن العبد أحرم ولا الصبي ، أو كان ذمي دخل مكة وهو كرى لبعض الحاج ، فرزق الإسلام ، فأسلم وهو بعرفة أو بمكة قبل عرفة ، فإنه يحرم بالحج إن أراد الحج من مكة ، أو بعرفة ، فإن أدرك الوقوف بعرفة قبل طلوع الفجر من ليلة النحر ، فقد أدرك الحج ، ويجزيه ذلك من حجة الإسلام ، ولا دم عليه في قول مالك ، وقال أبو حنيفة ، والشافعي : عليه دم لترك الميقات ، وحجه تام ، وسيأتي القول في النية بالحج عند ذكر التلبية به في حديث نافع عن ابن عمر من كتابنا هذا إن شاء الله عز وجل .

إبراهيم بن أبي عبلة

إبراهيم بن أبي عبلة أبو إسحاق ، وقد قيل أبو إسماعيل ، قيل إنه عقيلي من بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ، وقد قيل إنه تميمي ، فالله أعلم .

[ ص: 115 ] واسم أبي عبلة شمير بن يقظان بن المرتحل ، معدود في التابعين ، رأى ابن عمر ، وأدرك أنس بن مالك ، وأبا أمامة ، وربيب عبادة بن الصامت أبا أبي ابن أم حرام ، وروى عنهم ، واختلف في سماعه من واثلة بن الأسقع ، سكن الشام ، وعمر طويلا ، ومات في خلافة أبي جعفر سنة إحدى أو اثنتين وخمسين ومائة ، وكان ثقة فاضلا له أدب ومعرفة ، وكان يقول الشعر الحسن ، روى عنه جلة : مالك ، ويونس بن يزيد ، وبكر بن مضر .

لمالك عنه في الموطأ من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث واحد مرسل ، وهو : مالك ، عن إبراهيم بن أبي عبلة ، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ، ولا أحقر ، ولا أدحر ، ولا أغيظ منه في يوم عرفة ، وما ذلك إلا لما رأى من تنزل الرحمة ، وتجاوز الله عن الذنوب العظام ، إلا ما رأى يوم بدر ، قيل : وما رأى يوم بدر يا رسول الله ؟ فقال : أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة هكذا .

هذا الحديث في الموطأ عند جماعة الرواة له عن مالك .

ورواه أبو النضر إسماعيل بن إبراهيم العجلي ، عن مالك ، عن إبراهيم بن أبي عبلة ، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز ، عن أبيه ، ولم يقل في هذا الحديث عن أبيه غيره ، وليس بشيء ، وطلحة بن عبيد الله بن كريز هذا خزاعي من أنفسهم [ ص: 116 ] تابعي مدني ثقة ، سمع من ابن عمر وغيره ، وقال البخاري : طلحة بن عبيد الله بن كريز الكعبي الخزاعي المدني سمع أم الدرداء .

قال أبو عمر : هذا حديث حسن في فضل شهود ذلك الموقف المبارك ، وفيه دليل على الترغيب في الحج ، ومعنى هذا الحديث محفوظ من وجوه كثيرة ، وفيه دليل على أن كل من شهد تلك المشاهد يغفر الله له إن شاء الله ، وفيه أن شهود بدر أفضل من كل عمل يعمله الإنسان بعده إلى يوم القيامة نفلا كان أو فرضا ; لأن هذا القول كان منه صلى الله عليه في حجة الوداع ، وفيه الخبر عن حسد إبليس وعداوته لعنه الله ، وفيه دليل على أن الحسود يجد في نفسه ذلة لعدمه ما أوتيه المحسود ، وأما قوله : أصغر ، وأحقر ، وأغيظ ، فمستغن عن التفسير لوضوح معاني ذلك عند العامة ، والخاصة ، وأما قوله : أدحر ، فمعناه أبعد من الخير ، وأهون ، والأدحر المطرود المبعد من الخير المهان ، يقال أدحره عنك أي أطرده ، وأبعده .

وأما قوله يزع الملائكة ، فقال أهل اللغة معنى يزع يكف ويمنع ، إلا أنها هاهنا بمعنى يعبيهم ، ويرتبهم للقتال ، ويصفهم ، وفيه معنى الكف ; لأنه يمنعهم عن الكلام من أن يشف بعضهم على بعض ، ويخرج بعضهم عن بعض في الترتيب ، قالوا ومنه قول الله عز وجل وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون وقد تكني العرب بهذه اللفظة عن الموعظة لما فيها من معنى الكف ، والمنع ، والردع ، والزجر ، قال النابغة الذبياني :


على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما أصح والشيب وازع

[ ص: 117 ] وقال لبيد العامري :


إذا المرء أسرى ليلة ظن أنه     قضى عملا والمرء ما عاش عامل
فقولا له إن كان يعقل أمره     ألما يزعك الدهر أمك هابل

وقال المعلوط السعدي :


ولما تلاقينا جرت من جفوننا     دموع وزعنا غربها بالأصابع

وقال آخر :


وقد لاح في عارضيك المشيب     ومثلك بالشيب قد يوزع

وقال آخر :


ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى     من الناس إلا وافر العقل كامله

وقال آخر :


امنع فؤادك أن يميل بك الهوى     واشدد يديك بحبل دينك واتزع

وروى محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن جده ، عن أسماء بنت أبي بكر ، قالت : لما وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذي طوى - يعني يوم الفتح - قال أبو قحافة - وقد كف يومئذ بصره - لابنته : اظهري بي على أبي قبيس ، قالت : فأشرفت به عليه ، فقال : ما ترين ؟ قالت : [ ص: 118 ] أرى سوادا مجتمعا ، قال : تلك الخيل ، قالت : وأرى رجلا بين السواد مقبلا ومدبرا ، قال : ذلك الوازع يمنعها أن تنتشر ، وذكر تمام الحديث .

وأخبرنا إبراهيم بن شاكر ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق القاضي ، قال : حدثنا محمد بن أحمد بن أبي الأصبغ الإمام بمصر ، قال : حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج ، قال : حدثنا أبو زيد بن أبي الغمر ، قال : حدثنا ابن القاسم ، قال : حدثنا مالك أن عثمان بن عفان كان يقول : ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن - أي من الناس - قال : قلت لمالك ما يزع ، قال : يكف ، وذكر الحسن بن علي الحلواني في كتاب المعرفة له ، قال : حدثنا عفان ، قال : أخبرنا إسماعيل يعني ابن علية ، عن ابن عون ، قال : سمعت الحسن وهو في مجلس قضائه ، فلما رأى ما يصنع الناس ، قال : والله ما يصلح هؤلاء الناس إلا وزعة ، قال إسماعيل : يزعونهم أي يمنعونهم ، ومنه الحديث الذي حدثني أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي أن أباه حدثه ، قال : حدثنا عبد الله بن يونس ، قال : حدثنا بقي بن مخلد ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : أخبرنا حسين بن محمد ، قال : حدثنا جرير بن حازم ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه رأى رؤيا كأن ملكا انطلق به إلى النار ، فلقيه ملك آخر ، وهو يزعه ، فقال : لم تزع هذا ؟ نعم الرجل لو كان يصلي من الليل ، قال : فكان بعد ذلك يطيل الصلاة بالليل ، ومنه الحديث الذي يروى عن أبي بكر الصديق إن صح عنه أنه قال : لا أقيد من وزعة الله ، قال : ذاك في بعض عماله .

[ ص: 119 ] وقد رويت آثار في معنى حديث إبراهيم بن أبي عبلة هذا في يوم عرفة ، أنا ذاكر منها ما حضرني ذكره بحسن عون ربي لا إلاه إلا هو .

حدثنا أبو القاسم أحمد بن فتح ، قال : حدثنا حمزة بن محمد الحافظ بمصر ، قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس ، قال : حدثنا أحمد بن عيسى ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : حدثنا مخرمة بن بكير ، عن أبيه ، عن يونس ، وهو ابن يوسف ، عن سعيد بن المسيب ، قال : قالت عائشة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ما من يوم يعتق الله فيه أكثر من يوم عرفة وأخبرنا أحمد بن فتح بن عبد الله ، قال : حدثنا حمزة الكناني ، قال : حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي ، قال : حدثنا عيسى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن وهب عن مخرمة بن بكير ، عن أبيه ، عن يونس وهو ابن يوسف ، عن سعيد بن المسيب ، عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة ، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة .

[ ص: 120 ] وهذا يدل على أنهم مغفور لهم ; لأنه لا يباهي بأهل الخطايا والذنوب إلا من بعد التوبة والغفران ، والله أعلم .

وروى ابن المبارك ، عن أبي بكر بن عثمان ، قال : حدثني أبو عقيل ، عن عائشة قالت : يوم عرفة يوم المباهاة ، قيل لها : وما يوم المباهاة ؟ قالت : ينزل الله يوم عرفة إلى السماء الدنيا ثم يدعو ملائكته ويقول : انظروا إلى عبادي شعثا غبرا بعثت إليهم رسولا ، فآمنوا به ، وبعثت إليهم كتابا ، فآمنوا به ، يأتونني من كل فج عميق ، يسألوني أن أعتقهم من النار ، فقد أعتقتهم ، فلم ير يوم أكثر أن يعتق فيه من النار من يوم عرفة .

حدثنا يعيش بن سعيد الوراق ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا مرزوق مولى طلحة ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إذا كان يوم عرفة ينزل الله إلى السماء الدنيا يباهي بهم الملائكة ، فيقول انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا من كل فج عميق ، أشهدكم أني قد غفرت لهم ، فتقول الملائكة : يا رب فلان وفلان هو ، قال : فيقول قد غفرت لهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة .

وروى ابن جريج ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغفرة تنزل على أهل عرفة مع الحركة الأولى [ ص: 121 ] فإذا كانت الدفعة العظمى فعند ذلك يضع إبليس التراب على رأسه يدعو بالويل والثبور ، قال : فيجتمع إليه شياطينه ، فيقولون ما لك ؟ فيقول : قوم فتنتهم منذ ستين سنة وسبعين سنة غفر لهم في طرفة عين .

وقال مجاهد : كانوا يرون أن الرحمة تنزل عند دفعة الإمام عشية عرفة .

أخبرنا أبو محمد قاسم بن محمد ، قال : حدثنا خالد بن سعد ، قال : حدثنا أحمد بن عمرو بن منصور ، وحدثنا أبو عبد الله عبيد بن محمد ، قال : أخبرنا عبد الله بن مسرور ، قال : أخبرنا عيسى بن مسكين ، قالا : حدثنا محمد بن سنجر ، قال : حدثنا الفضل بن دكين ، قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء ، يقول لهم : انظروا إلى عبادي جاءوني شعثا غبرا أشهدكم أني قد غفرت لهم .

[ ص: 122 ] أخبرنا عبيد بن محمد ، قال : حدثنا عبد الله بن مسرور ، قال : حدثنا عيسى بن مسكين ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن سنجر الجرجاني ، وأخبرنا سلمة بن سعيد ، ومحمد بن خليفة ، قالا : حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا الحسن بن الحباب أبو علي المقري ، قال : حدثنا الحسين بن عرفة ، قالا : حدثنا هشام بن عبد الملك الطيالسي ، قال : حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي ، قال : حدثني ابن لكنانة بن عباس بن مرداس ، عن أبيه ، عن جده عباس بن مرداس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة ، والرحمة ، فأكثر الدعاء ، فأجابه الله إني قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضا ، فأما ذنوبهم بيني وبينهم فقد غفرتها لهم ، فقال : أي رب إنك قادر أن تثيب هذا المظلوم خيرا من مظلمته ، وتغفر لهذا الظالم قال فلم [ ص: 123 ] يجبه تلك العشية ، فلما كان غداة المزدلفة أعاد الدعاء ، فأجابه : إني قد غفرت لهم ، قال : ثم تبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له أصحابه : يا رسول الله تبسمت في ساعة لم تكن تتبسم فيها ، قال : تبسمت من عدو الله إبليس لما عرف أنه قد استجاب الله لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور ويحثي التراب على رأسه .

حدثنا أبو عثمان سعيد بن سيد ، قال : حدثنا أبو عيسى يحيى بن عبيد الله بن أبي عيسى ، قال : حدثنا أبو عثمان سعيد بن فحلون ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن عبيد البصري ، قال : حدثنا ابن أبي الشوارب القرشي الأموي ، قال : أخبرنا عبد القاهر بن السري السلمي ، قال : حدثنا ابن لكنانة بن عباس بن مرداس السلمي ، عن أبيه ، عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة ، فأجابه الله إني قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضا ، فلما كان [ ص: 124 ] غداة المزدلفة أعاد الدعاء ، فقال : يا رب إنك قادر أن تثيب المظلوم خيرا من مظلمته ، وتعفو عن الظالم ، فأجابه الله إنى قد فعلت ، ثم التفت إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبسما ، فقلنا : يا نبي الله ما الذي أضحكك ؟ قال : إن إبليس عدو الله لما علم أن الله عز وجل قد شفعني في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور ويحثو التراب على رأسه .

وروى مسلم بن إبراهيم ، قال : أخبرنا كعب بن فروخ الرقاشي ، قال : حدثنا قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ليس يوم أكثر عتيقا من يوم عرفة ، هكذا ذكره موقوفا ، وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني ، قال : حدثنا أبو جعفر بن وهب المسعري ، قال : حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي ، قال : حدثنا سلمة بن بخت ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : إن يوم عرفة يوم يباهي الله ملائكته في السماء بأهل الأرض ، يقول تبارك وتعالى : عبادي جاءوني شعثا غبرا آمنوا بي ، ولم يروني ، وعزتي لأغفرن لهم ، وهو يوم الحج الأكبر .

[ ص: 125 ] قال أبو عمر : اختلف في تأويل قول الله عز وجل يوم الحج الأكبر ، فقيل : يوم عرفة ، وقيل : يوم النحر ، قال بهذا جماعة وبهذا جماعة ، روي من حديث عمرو بن مرة ، عن مرة بن شراحيل ، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمزدلفة غداة يوم النحر على ناقة حمراء ، فقال : هل تدرون أي يوم هذا ؟ هذا يوم الحج الأكبر ، رواه شعبة وغيره ، عن عمرو بن مرة ، ومن حديث أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يوم الحج الأكبر فقال : يوم النحر ، وروى جعفر بن أبي وحشية ، عن سعيد بن جبير : الحج الأكبر يوم النحر ، وروى عاصم بن حكيم ، عن مجاهد في يوم الحج الأكبر ، قال : حين الحج أيامه كلها ، وابن جريج ، عن مجاهد مثله ، وقال معمر ، عن الحسن إنما سمي الحج الأكبر لأنه حج فيه أبو بكر ونبذت فيه العهود ، وقال ابن جريج ، عن ابن طاوس ، عن أبيه أنه قيل له : ما الحج الأكبر ؟ قال : يوم عرفة ، وهو اليوم الأكبر عرفة .

[ ص: 126 ] قال أبو عمر : روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : يوم الحج الأكبر يوم عرفة وهو قول ابن عباس ، وطاوس ، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : يوم الحج الأكبر يوم النحر من حديث علي وأبي هريرة ، وابن عمر ، ورجل من أصحاب النبي عليه السلام .

ولا خلاف عن مالك وأصحابه أن يوم الحج الأكبر يوم النحر ، واختلف أصحاب الشافعي في ذلك ، فقالت طائفة منهم : يوم الحج الأكبر يوم عرفة ، وقال بعضهم يوم النحر ، وكذلك اختلف أصحاب أبي حنيفة ، وليس عنه شيء منصوص ، وذكر الثوري في جامعه في يوم الحج الأكبر ، قال : حدثنا ليث ، عن مجاهد ، قال : الحج الأكبر يوم النحر ، والحج الأصغر العمرة ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف ، قال : حدثنا يحيى بن مالك ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن زبر ، قال : حدثنا محمد بن خريم ، قال : حدثنا أبو عبد الغني الحسن بن علي ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج المخلص ، وإذا كانت ليلة مزدلفة غفر الله للتجار ، وإذا كان يوم منى غفر الله للجمالين ، وإذا كان عند جمرة العقبة غفر الله للسؤال ، ولا يشهد ذلك الموقف خلق ممن قال : لا إله إلا الله إلا غفر له .

[ ص: 127 ] وحدثنا محمد بن خلف بن قاسم ، حدثنا علي بن الحسين بن بندار ، حدثنا سعيد بن عبد العزيز بن مروان ، قال : سمعت الحسن بن علي بن معان الصنعاني ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : إذا كان يوم عرفة ، وذكر الحديث مثله سواء .

وحدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا محمد بن عبد الله بن أحمد القاضي ، وعلي بن محمد بن إسماعيل الطوسي بمكة قالا : حدثنا محمد بن خريم ، حدثنا أبو عبد الغني الحسن بن علي ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج ، وإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للتجار ، وإذا كان يوم منى غفر الله للجمالين ، وإذا كان عند جمرة العقبة غفر الله للسؤال ، ولا يشهد ذلك الموقف خلق ممن قال : لا إله إلا الله إلا غفر له .

قال أبو عمر : هذا حديث غريب من حديث مالك ، وليس محفوظا عنه إلا من هذا الوجه وأبو عبد الغني لا أعرفه ، وأهل العلم ما زالوا يسامحون أنفسهم في رواية الرغائب والفضائل عن كل أحد ، وإنما كانوا يتشددون ، في أحاديث الأحكام .

أخبرنا علي بن إبراهيم ، قال : حدثنا الحسن بن رشيق ، قال : حدثنا محمد بن الحسن بن قتيبة ، قال : حدثنا محمد بن عمرو العربي ، قال : حدثنا [ ص: 128 ] عطاف بن خالد المخزومي ، عن إسماعيل بن رافع ، عن أنس بن مالك ، قال : كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد الخيف قاعدا ، فأتاه رجل من الأنصار ، ورجل من ثقيف ، فذكر حديثا فيه طول ، وفيه : وأما وقوفك عشية عرفة ، فإن الله يهبط إلى سماء الدنيا ثم يباهي بكم الملائكة ، فيقول هؤلاء عبادي جاءوني شعثا سفعا يرجون رحمتي ، ومغفرتي ، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل ، وكعدد القطر ، وكزبد البحر لغفرتها ، أفيضوا عبادي مغفورا لكم ولمن شفعتم له ، وذكر تمام الحديث .

وأخبرنا علي بن إبراهيم بن أحمد بن حمويه ، قال : حدثنا الحسن بن رشيق ، قال : حدثنا أبو جعفر محمد بن خالد البرذعي بمكة سنة ثلاثمائة ، قال : حدثنا علي بن موفق البغدادي ، قال : حدثنا أحمد بن شبويه المروزي ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن سفيان الثوري ، عن الزبير بن عدي ، عن أنس بن مالك قال : وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفات ، وكادت الشمس أن تئوب ، فقال : يا بلال أنصت لي الناس ، فقام بلال ، فقال : أنصتوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فنصت الناس ، فقال : معاشر الناس أتاني جبريل آنفا ، فأقرأني من ربي السلام ، وقال إن الله غفر لأهل عرفات ، وأهل المشعر ، وضمن عنهم التبعات ، فقام [ ص: 129 ] عمر بن الخطاب ، فقال : يا رسول الله هذا لنا خاص ؟ فقال : هذا لكم ولمن أتى بعدكم إلى يوم القيامة ، فقال عمر - رضي الله عنه - : كثر خير الله وطاب .

وروي عن سالم بن عبد الله بن عمر أنه رأى سائلا يسأل يوم عرفة ، فقال : يا عاجز ، في هذا اليوم تسأل غير الله ، وذكر المدائني فقال : خطب عمر بن عبد العزيز بعرفة ، فقال : إنكم قد جئتم من القريب ، والبعيد ، وأنضيتم الظهر ، وأخلقتم الثياب ، وليس السابق اليوم من سبقت دابته وراحلته ، وإنما السابق اليوم من غفر له ، وروى سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن ابن سيرين ، قال : كانوا يرجون في ذلك الموقف للحمل في بطن أمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية