التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
27 [ ص: 1 ] حديث سابع وعشرون لزيد بن أسلم مرسل

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن شدة الحر من فيح جهنم فإذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة وقال : اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين في كل عام : نفس في الشتاء ، ونفس في الصيف .


قال أبو عمر :

هذا الحديث يتصل من وجوه كثيرة ثابتة ، منها حديث مالك عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن حديثه أيضا عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه ليس في حديثه عن أبي الزناد قوله : اشتكت النار إلى آخر الحديث .

[ ص: 2 ] رواه عن أبي هريرة جماعة منهم : همام بن منبه وأبو صالح السمان والأعرج وأبو سلمة وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وغيرهم .

وقد رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من الصحابة منهم أبو ذر وأبو موسى الأشعري ، وهو حديث صحيح مشهور ، فلا معنى لذكر الأسانيد فيه إذ هو عند مالك متصل كما ذكرنا ، ومشهور في المسانيد ، والمصنفات كما وصفنا .

وفيه دليل على أن الظهر يعجل بها في غير الحر ، ويبرد بها في الحر ، ومعنى الإبراد : التأخير حتى تزول شمس الهاجرة ، وهذا معنى اختلف الفقهاء فيه :

فأما مذهب مالك في ذلك ، فذكر إسماعيل بن إسحاق وأبو الفرج عمرو بن محمد أن مذهبه في الظهر وحدها أن يبرد بها ، وتؤخر في شدة الحر ، وسائر الصلوات تصلى في أوائل أوقاتها .

قال أبو الفرج : اختار مالك - رحمه الله - لجميع الصلوات أول أوقاتها إلا الظهر في شدة الحر لقوله - صلى الله عليه وسلم - : إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة .

[ ص: 3 ] قال أبو عمر :

الحجة لهذا القول الحديث المذكور في هذا الباب مع ما قدمنا في الباب الذي قبله من فضل الصلاة في أول وقتها ، وتقدير الآثار في ذلك كأنه - صلى الله عليه وسلم - قال : صلوا الصلوات في أوائل أوقاتها لمن ابتغى الفضل إلا الظهر في شدة الحر فإن الإبراد ( بها ) أفضل ، وهذا تقدير محتمل ، واستثناء صحيح إن شاء الله .

وقد نزع أبو الفرج بأن جبريل صلى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الوقت المختار في اليوم الأول ، وصلى به في اليوم الثاني ليعلمه بالسعة في الوقت ، والرخصة فيه .

وأما ابن القاسم فحكى عن مالك أن الظهر تصلى إذا فاء الفيء ذراعا في الشتاء والصيف للجماعة والمنفرد على ما كتب به عمر إلى عماله ، وقال ابن عبد الحكم وغيره من أصحابنا : إن معنى ذلك مساجد الجماعات .

وأما المنفرد فأول الوقت أولى به ، وهو الذي مال إليه أهل النظر من المالكيين البغداديين ، وتركوا رواية ابن القاسم في المنفرد .

وقال الليث بن سعد : تصلى الصلوات كلها : الظهر ، وغيرها في أول الوقت في الشتاء والصيف ، وهو أفضل .

[ ص: 4 ] وكذلك قال الشافعي : إلا أنه استثنى فقال : إلا أن يكون إمام جماعة ينتاب ( إليه ) من المواضع البعيدة فإنه يبرد بالظهر .

وقد روي عنه أن ذلك إنما يكون بالحجاز حيث شدة الحر ، وكانت المدينة ليس فيها مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان ينتاب من بعد .

ومن حجتهم أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري أن صل الظهر حين تزيغ الشمس ، وهو حديث متصل ثابت عن عمر رواه مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه ، وقد لقي عمر وعثمان ، والحديث المذكور فيه عن عمر إلى عماله أن صلوا الظهر إذا فاء الفيء ذراعا منقطع . رواه مالك عن نافع عن عمر ونافع لم يلق عمر .

وقال العراقيون : تصلى الظهر في الشتاء ، والصيف في أول الوقت ، واستثنى أصحاب أبي حنيفة شدة الحر فقالوا : تؤخر في ذلك حتى يبرد ، والاختلاف في هذا قريب جدا .

وقد احتج من لم ير الإبراد بالظهر في الحر بحديث خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حر [ ص: 5 ] الرمضاء فلم يشكنا يقول : فلم يعذرنا ، وتأول من رأى الإبراد في قول خباب بن الأرت هذا فلم يشكنا أي لم يحوجنا إلى الشكوى ; لأنه رخص لنا في الإبراد ، وذكر أبو الفرج أن أحمد بن يحيى ثعلبا فسر قوله : فلم يشكنا على هذا المعنى أي لم يحوجنا إلى الشكوى .

قرأت على أبي القاسم يعيش بن سعيد بن محمد وأبي القاسم عبد الوارث بن سفيان أن قاسم بن أصبغ حدثهما قال : حدثنا محمد بن غالب التمتام قال : حدثنا علي بن ثابت الدهان قال : حدثنا زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب عن خباب قال : شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حر الرمضاء فلم يشكنا قال زهير : فقلت لأبي إسحاق في تعجيل الظهر ؟ قال : نعم في تعجيل الظهر .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى - يعني القطان - ، عن سفيان عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب عن خباب قال : شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حر الرمضاء فما أشكانا .

[ ص: 6 ] قال أبو عمر :

روى هذا الحديث الأعمش عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن خباب ، والقول عندهم قول الثوري وزهير على ما ذكرنا عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب عن خباب ، والله أعلم .

أخبرنا عبد الله بن محمد الجهني قال : أخبرني حمزة بن محمد بن العباس الكناني قال : حدثنا أحمد بن شعيب النسوي قال : أخبرني كثير بن عبيد قال : حدثنا محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري قال : أخبرني أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج حين زاغت الشمس فصلى بهم صلاة الظهر .

وفي حديث أبي برزة الأسلمي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الظهر حين تزول الشمس .

وروى جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه .

وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : أخبرنا محمد بن بكر بن عبد الرزاق قال : أخبرنا سليمان بن الأشعث قال : [ ص: 7 ] أخبرنا عثمان بن أبي شيبة قال : أخبرنا عبيدة بن حميد عن أبي مالك الأشجعي عن سعيد بن طارق عن كثير بن مدرك عن الأسود أن عبد الله بن مسعود قال : كان قدر صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة ، وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة . وذكر النسوي عن أبي عبد الرحمن الأذرمي عن عبيدة بن حميد بإسناده مثله سواء .

وحدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : أخبرنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا عبد الله بن سعيد قال : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم قال : أخبرنا خالد بن دينار أبو خلدة قال : سمعت أنس بن مالك قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الحر أبرد بالصلاة ، وإذ كان البرد عجل .

وأخبرنا عبد الله حدثنا عبد الحميد حدثنا الخضر أخبرنا الأثرم ( قال ) قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل أي الأوقات [ ص: 8 ] أعجب إليك ؟ قال : أول الأوقات أعجب إلي في الصلوات كلها إلا في صلاتين : صلاة العشاء الآخرة ، وصلاة الظهر في الحر يبرد بها وأما في الشتاء فيعجل بها .

وأما قوله : فأذن لها بنفسين : نفس في الشتاء ، ونفس في الصيف فيدل على أن نفسها في الشتاء غير الشتاء ، ونفسها في الصيف غير الصيف ، وفي رواية جماعة من الصحابة زيادة في هذا الحديث ، وذلك قوله : فما ترون من شدة البرد فذلك من زمهريرها ، وما ترون من شدة الحر فهو من سمومها ، أو قال : من حرها .

وهذا أيضا ليس على ظاهره وقد فسره الحسن البصري في روايته فقال : اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضا فخفف عني قال : فخفف عنها ، وجعل لها كل عام نفسين : فما كان من برد يهلك شيئا فهو من زمهريرها ، وما كان من سموم يهلك شيئا فهو من حرها .

وقوله في هذا الحديث : " زمهرير يهلك شيئا ، وحر يهلك شيئا " تفسير ما أشكل من ذلك ، والله أعلم .

وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان لا تبيدان ، ومما يدلك على أن النار والجنة قد خلقتا ما حدثناه خلف [ ص: 9 ] بن القاسم وعبد الرحمن بن مروان قالا : أخبرنا الحسن بن رشيق قال : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس قال : أخبرنا أبو شرحبيل عيسى بن خالد الحمصي قال : أخبرنا أبو اليمان قال : أخبرنا إسماعيل بن عياش عن عمارة بن غزية أنه سمع حميد بن عبيد مولى المعلى يقول سمعت البناني يحدث عن أنس بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لجبريل - عليه السلام - : لم أر ميكائل ضاحكا قط فقال : ما ضحك ميكائل مذ خلقت النار . قال : وأخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس أبو يعقوب قال : أخبرنا داود بن رشيد وعبد الله بن مطيع قالا : أخبرنا إسماعيل بن جعفر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لما خلق الله الجنة دعا جبريل فأرسله إليها فقال : انظر إليها ، وإلى ما أعددت لأهلها فرجع إليه فقال : وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها فحجبت بالمكاره ; فقال : ارجع إليها فانظر فرجع فنظر إليها فقال : وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد ، ثم أرسله إلى النار فقال : اذهب فانظر إليها ، وإلى ما أعددت لأهلها فذهب ، ورجع فقال : وعزتك لا يدخلها أحد فحجبت [ ص: 10 ] بالشهوات ، ثم قال : عد إليها فعاد ، ثم رجع فقال : وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها .

فلهذه الأحاديث ، وما كان مثلها قال أهل السنة : إن الجنة والنار مخلوقتان ، وأنهما لا تبيدان ; لأنهما إذا كانتا لا تبيدان حتى تبيد الدنيا ، ومعلوم أن الدنيا إذا انقرضت بقيام الساعة جاءت الآخرة ، والآخرة غير خالية من جهنم كما أنها غير خالية من الجنة ; لأن الجنة رحمة الله - تعالى - والنار عذابه يصيب بها من يشاء من عباده .

وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : اختصمت النار والجنة فقالت الجنة : مالي يدخلني الضعفاء ، والمساكين ؟ وقالت النار ما لي يدخلني الجبارون ، والمتكبرون ؟ فقال الله للجنة : أنت رحمتي أصيب بك من أشاء ، وقال للنار : أنت عذابي أصيب بك من أشاء .

وقد روي هذا المعنى من حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدث به عن مالك إسحاق بن محمد الفروي .

[ ص: 11 ] ومما يدل على أن النار مخلوقة دائمة قول الله - عز وجل - : وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا الآية ، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال له : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة ، وهو الذي عليه جماعة أهل السنة والأثر : أن الجنة والنار مخلوقتان لا تبيدان ، وبالله التوفيق .

وأما قوله في هذا الحديث : اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب ، أكل بعضي بعضا الحديث . فإن قوما حملوه على الحقيقة ، وأنها أنطقها الذي أنطق كل شيء ، واحتجوا بقول الله - عز وجل - : يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم الآية ، وبقوله وإن من شيء إلا يسبح بحمده ، وبقوله ياجبال أوبي معه أي سبحي معه ، وقال : يسبحن بالعشي والإشراق ، وبقوله : [ ص: 12 ] يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد ، وما كان من مثل هذا ، وهو في القرآن كثير حملوا ذلك كله على الحقيقة لا على المجاز ، وكذلك قالوا في قوله عز وجل : إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا ، و تكاد تميز من الغيظ ، وما كان مثل هذا كله .

وقال آخرون في قوله - عز وجل - : سمعوا لها تغيظا وزفيرا و تكاد تميز من الغيظ هذا تعظيم لشأنها ، ومثل ذلك قوله - عز وجل - : جدارا يريد أن ينقض فأضاف إليه الإرادة مجازا ، وجعلوا ذلك من باب المجاز ، والتمثيل في كل ما تقدم ذكره على معنى أن هذه الأشياء لو كانت مما تنطق أو تعقل لكان هذا نطقها ، وفعلها ، وذكروا قول حسان بن ثابت :


لو أن اللؤم ينسب كان عبدا قبيح الوجه أعور من ثقيف



وسئل المبرد عن قول الملك : إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة ، وهم الملائكة لا أزواج لهم فقال : نحن طول النهار نفعل مثل هذا نقول : ضرب زيد عمرا ، [ ص: 13 ] وإنما هو تقدير كأن المعنى إذا وقع هكذا فكيف الحكم فيه ؟ وذكروا قول عدي بن زيد للنعمان : أتدري ما تقول هذه الشجرة أيها الملك قال : وما تقول ؟ قال : تقول :

رب ركب قد أناخوا حولنا     يشربون الخمر بالماء الزلال
ثم أضحوا لعب الدهر بهم     وكذاك الدهر حالا بعد حال


وقول عنترة :


وشكا إلي بعبرة وتحمحم



وقول الآخر :


شكا إلي جملي طول السرى     صبرا جميلا فكلانا مبتلى



ومثل هذا قول الحارثي :


يريد الرمح صدر أبي براء     ويرغب عن دماء بني عقيل



وقال غيره :


رب قوم غبروا من عيشهم     في سرور ونعيم وغدق
سكت الدهر زمانا عنهم     ثم أبكاهم دما حين نطق



[ ص: 14 ] وقال آخر :


وعظتك أجداث صمت     ونعتك أزمنة خفت
وتكلمت عن أوجه     تبلى وعن صور سبت
وأرتك قبرك في القبو     ر وأنت حي لم تمت



وقال آخر :


فتكلمت تلك الديار ولم تكن     تلك الديار تكلم الزوارا
قالت برغمي بان أهلي كلهم     وبقيت تكسوني الرياح غبارا
ولو استطعت لما فجعت بساكني     والدهر لا يبقي لنا عمارا



والشعر في هذا المعنى كثير جدا ، ومعناه أن الديار لو كانت ممن يصح لها نطق ، وقالت لكان هذا قولها وكلامها ، وكذلك القبور لو كان لها قول في الحقيقة لكان هكذا .

ومثل هذا مما أنشدوا في هذا المعنى قول القائل :


قد قالت الأنساع للبطن الحقي



وقول الآخر :


امتلأ الحوض وقال قطني



[ ص: 15 ] وهو كثير ، ومعناه كله ما ذكرناه فمن حمل قول النار ، وشكواها على هذا احتج بما وصفنا ، ومن حمل ذلك على الحقيقة قال : جائز أن ينطقها الله كما تنطق الأيدي ، والجلود ، والأرجل يوم القيامة ، وهو الظاهر من قول الله - عز وجل - : يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد ومن قوله : وإن من شيء إلا يسبح بحمده الآية ، و قالت نملة ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم ، وقال : قوله - عز وجل - : تكاد تميز من الغيظ أي تتقطع عليهم غيظا كما تقول : فلان يتقد عليك غيظا ، وقال - عز وجل - : إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا فأضاف إليها الرؤية ، والتغيظ إضافة حقيقية ، وكذلك كل ما في القرآن من مثل ذلك ، واحتجوا بقول الله - عز وجل - : يقص الحق .

ومن هذا الباب عندهم قوله : فما بكت عليهم السماء والأرض ‎ و تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا [ ص: 16 ] و قالتا أتينا طائعين وإن منها لما يهبط من خشية الله . قالوا : وجائز أن تكون للجلود إرادة لا تشبه إرادتنا كما للجمادات تسبيح ، وليس كتسبيحنا ، وللجبال ، والشجر سجود ، وليس كسجودنا ، والاحتجاج لكلا القولين يطول ، وليس هذا موضع ذكره ، وحمل كلام الله - تعالى - ، وكلام نبيه - صلى الله عليه وسلم - على الحقيقة أولى بذوي الدين ، والحق ; لأنه يقص الحق ، وقوله الحق - تبارك وتعالى - علوا كبيرا .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : أخبرنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عبد الله بن إدريس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اشتكت النار إلى ربها فقالت : رب ، أكل بعضي بعضا فجعل لها نفسين : نفسا [ ص: 17 ] في الشتاء ، ونفسا في الصيف فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها ، وشدة ما تجدون في الصيف من الحر من سمومها .

وأما قوله : فيح جهنم ، فالفيح سطوع الحر هكذا قال صاحب العين فكأن المعنى ، - والله أعلم - شدة الحر المؤذي من حر جهنم ، ولهيبها أجارنا الله برحمته ، وعفوه منها .

التالي السابق


الخدمات العلمية