التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص

أحد الجلة الأشراف ، قرشي ، زهري ثقة ، حجة فيما نقل وروى من أثر في الدين ، وقد ذكرنا نسبه عند ذكر جده في كتاب الصحابة ، وأبوه محمد بن سعد بن أبي وقاص قتله الحجاج صبرا لخروجه مع ابن الأشعث .

أخبرني عبد الله بن محمد بن يوسف ، قال : أخبرني أحمد بن محمد بن إسماعيل ، قال : أخبرنا محمد بن الحسن الأنصاري ، قال : أخبرنا الزبير بن أبي بكر الزبيري ، قال : حدثني محمد بن حسن ، عن إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزهري ، عن الحكم بن القاسم الأويسي ، عن عبد الرحمن بن [ ص: 130 ] أبي سفيان بن حويطب قال ، وفدت على عبد الملك بن مروان أيام قتل عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، فدخلت فسلمت ، فقال : يا ابن حويطب ، ما يقول أهل المدينة في قتل عبد الرحمن بن الأشعث ، قال : قلت سرهم ما كان من ظفر أمير المؤمنين ، وما أعطاه الله وأيده ، قال : فقال : أما والله يا ابن حويطب لقد علمت قريش أني أقتلها لها قصعا ، وأعفاها بعد عن مسيئها ، قال : ثم وافينا العشاء ، فأتي بإسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص ، وبعثمان بن عمر بن موسى بن عبيد الله التيمي ، قال : فقال ليحيى بن الحكم : يا يحيى قم فانظر إلى حال هذين الغلامين هل أنبتا ؟ قال : فقام ثم رجع ، فقال : يا أمير المؤمنين ما ذلك منهما إلا مثل خدودهما ، فأقبل عليهما عبد الملك ، فقال : لا رحم الله أبويكما ، ولا جبر يتمكما اخرجا عني ، قال محمد بن حسن : فحدثني عيسى بن موسى الخطمي ، عن محمد بن أبي بكر الأنصاري ، قال : كان الحجاج قتل أبويهما صبرا ، وكانا ممن أسر من أصحاب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث .

قال أبو عمر : روى ابن شهاب ، عن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن سعد بن أبي وقاص حديث المغيرة في المسح على الخفين وحسبك .

[ ص: 131 ] قال البخاري : سمع إسماعيل أباه ، وعامر بن سعد ، ومصعب بن سعد ، سمع منه الزهري ، ومالك ، وابن عيينة .

وذكر الحسن بن علي الحلواني ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن مصعب بن ثابت ، عن إسماعيل بن محمد بن سعد ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه ، قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه وعن يساره كأني أنظر إلى صفحة خده صلى الله عليه ، فقال الزهري : ما سمعنا هذا من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له إسماعيل بن محمد : أكل حديث رسول الله قد سمعته ؟ قال : لا ، قال : فنصفه ؟ قال : لا ، قال : فاجعل هذا في النصف الذي لم تسمع .

قال أبو عمر : إسماعيل بن محمد هذا يكنى أبا محمد ، سكن المدينة ، ومات بها سنة أربع وثلاثين ومائة في خلافة أبي العباس فيما ذكر الواقدي والطبري .

لمالك عنه في الموطأ من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث واحد يجري مجرى المتصل ، اختلف عن إسماعيل في إسناده ، والمتن صحيح من طرق .

والحديث : مالك ، عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص ، عن مولى لعمرو بن العاصي ، أو لعبد الله بن عمرو بن العاصي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : صلاة أحدكم وهو قاعد مثل نصف [ ص: 132 ] صلاته وهو قائم هكذا رواه جماعة الرواة عن مالك لا خلاف بينهم فيه عنه ، ورواه ابن عيينة ، عن إسماعيل بن محمد بن سعد ، عن أنس ، والقول عندهم قول مالك ، والحديث محفوظ لعبد الله بن عمرو بن العاص ، وقد ذكرنا طرقه في باب مرسل ابن شهاب من كتابنا هذا مستقصاة ، وبالله التوفيق .

ومعنى هذا الحديث المقصود بالخطاب إليه الفضل ، يريد أن صلاة أحدكم وهو قائم أفضل من صلاته وهو قاعد مرتين وضعفين في الفضل ، وفضل صلاته وهو قاعد مثل نصف صلاته في الفضل إذا قام فيها ، وذلك والله أعلم لما في القيام من المشقة أو لما شاء الله أن يتفضل به ، وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الصلوات ، فقال : طول القنوت .

والمراد بهذا الحديث ومثله صلاة النافلة ، والله أعلم ; لأن المصلي فرضا جالسا لا يخلو من أن يكون مطيقا على القيام ، أو عاجزا عنه ، فإن كان مطيقا ، وصلى جالسا ، فهذا لا تجزيه صلاته عند الجميع ، وعليه إعادتها ، فكيف يكون لهذا نصف فضل مصل ، بل هو عاص بفعله ، وأما إذا كان عن القيام عاجزا ، فقد سقط فرض القيام عنه إذا لم يقدر عليه ; لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وإذا لم يقدر على ذلك صار فرضه عند الجميع أن يصلي جالسا ، فإذا صلى كما أمر ، فليس المصلي قائما بأفضل منه ; لأن كلا قد أدى ، فرضه على وجهه ، والأصل في هذا الباب أن القيام في الصلاة لما وجب فرضا بقوله : وقوموا لله قانتين وقوله : قم الليل إلا قليلا وقعت الرخصة في النافلة أن يصليها الإنسان جالسا من غير عذر لكثرتها ، واتصال بعضها ببعض .

[ ص: 133 ] وأما الفريضة فلا رخصة في ترك القيام فيها ، وإنما يسقط ذلك بعدم الاستطاعة عليه ، وقد أجمعوا على أنالقيام في الصلاة فرض على الإيجاب لا على التخيير ، وأن النافلة فاعلها مخير في القيام فيها ، فكفى بهذا بيانا شافيا ، وبالله التوفيق .

وهذا الحديث أصل في إباحة الصلاة جالسا في النافلة .

حدثني أبو عثمان سعيد بن نصر ، قال : حدثنا أبو عمر أحمد بن دحيم ، قال : حدثنا محمد بن الحسين بن زيد أبو جعفر ، قال : حدثنا أبو الحسن علان بن المغيرة ، قال : حدثنا عبد الغفار بن داود ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عبد الله بن بابيه ، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي ، قال : مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أصلي قاعدا ، فقال : أما إن للقاعد نصف صلاة القائم وهذا إسناد صحيح أيضا عند أهل العلم ، وقد روى هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عمران بن [ ص: 134 ] حصين ، والسائب بن أبي السائب ، وأم سلمة ، وأنس ، وفي حديث عمران بن حصين زيادة ليست موجودة في غيره ، وهي " وصلاة الراقد مثل نصف صلاة القاعد " .

وجمهور أهل العلم لا يجيزون النافلة مضطجعا ، وهو حديث لم يروه إلا حسين المعلم ، وهو حسين بن ذكوان ، عن عبد الله بن بريدة ، عن عمران بن حصين ، وقد اختلف أيضا على حسين المعلم في إسناده ولفظه اختلافا يوجب التوقف عنه ، وإن صح حديث حسين عن ابن بريدة ، عن عمران بن حصين هذا ، فلا أدري ما وجهه ، فإن كان أحد من أهل العلم قد أجاز النافلة مضطجعا لمن قدر على القعود أو القيام ، فوجه ذلك الحديث النافلة ، وهو حجة لمن ذهب إلى ذلك ، وإن أجمعوا على كراهية النافلة راقدا لمن قدر على القعود أو القيام فيها ، فحديث حسين هذا إما غلط وإما منسوخ ، وقد روي بألفاظ تدل على أنه لم يقصد به النافلة ، وإنما قصد به الفريضة ، وهو الذي تدل عليه ألفاظ من يحتج بنقله له .

[ ص: 135 ] قال : أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا محمد بن بكر بن داسة ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن سليمان الأنباري ، قال : حدثنا وكيع ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن حسين المعلم ، عن أبي بريدة ، عن عمران بن حصين ، قال : كان بي الناسور ، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب .

قال أبو عمر : هذا يبين لك أن القيام لا يسقط فرضه إلا بعدم الاستطاعة ثم كذلك القعود إذا لم يستطع ، ثم كذلك شيء شيء ، يسقط عند عدم القدرة عليه حتى يصير إلى الإغماء ، فيسقط جميع ذلك ، وهذا كله في الفرض لا في النافلة ، وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي في هذا الباب فإنما هو في النافلة ، والدليل على ذلك أن في نقل ابن شهاب له أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يصلون في سبحتهم قعودا ، فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال ذلك القول ، والسبحة عند أهل العلم النافلة ، ودليل ذلك أيضا قوله - صلى الله عليه وسلم - في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة [ ص: 136 ] عن ميقاتها صلوا الصلاة لوقتها ، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة يعني نافلة ، وفرض القيام في الصلاة المكتوبة ثابت من وجهين : أحدهما إجماع الأمة كافة عن كافة في المصلي فريضة وحده أو كان إماما أنه لا تجزيه صلاته إذا قدر على القيام فيها وصلى قاعدا ، وفي إجماعهم على ذلك دليل واضح على أن حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي المذكور في هذا الباب معناه النافلة على ما وصفنا ، والوجه الثاني قوله عز وجل : وقوموا لله قانتين أي قائمين ، ففي هذه الآية فرض القيام أيضا عند أهل العلم لقوله عز وجل وقوموا ولقوله قانتين ، يريد قوموا قائمين لله يعني في الصلاة ، فخرج على غير لفظه لأنه أعم في الفائدة لاحتمال القنوت وجوها كلها تجب في الصلاة .

والدليل على أن القيام يسمى قنوتا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ سئل أي الصلاة أفضل ؟ قال : طول القنوت ، يعني طول القيام .

وزعم أبو عبيد أن القنوت في الوتر ، وهو عندنا في صلاة الصبح ، إنما سمي قنوتا ; لأن الإنسان فيه قائم للدعاء من غير أن يقرأ القرآن ، فكأنه سكوت وقيام إذ لا يقرأ فيه ، وقد يكون القنوت السكوت ، روي عن زيد بن أرقم أنه قال : كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت ، وليس في هذا الحديث رد لما ذكرنا ; لأن الآية يقوم منها هذان المعنيان وغيرهما ، لاحتمالهما في اللغة لذلك ; لأن القنوت في اللغة له وجوه منها أن القنوت الطاعة ، دليل ذلك قول الله عز وجل : كل له قانتون أي مطيعون ، وقوله : إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين [ ص: 137 ] أي مطيعا لله ، وهذا كثير مشهور ، ومنها أن القنوت الصلاة فيما زعم ابن الأنباري ، واحتج بقول الله يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي ثم بقول الشاعر :


قانتا لله يتلو كتبه وعلى عمد من الناس اعتزل

وقال : تحتمل هذه الآية وهذا البيت جميعا عندي معنى الطاعة أيضا ، والله أعلم ، ومنها أن القنوت الدعاء ، دليل ذلك القنوت في الصلاة ، وقولهم : قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرا يدعو ، ومثل هذا كثير ، وبالله التوفيق .

واختلف الفقهاء في كيفية صلاة القاعد في النافلة ، وصلاة المريض ، فذكر ابن عبد الحكم عن مالك في المريض أنه يتربع في قيامه وركوعه ، فإذا أراد السجود تهيأ للسجود فسجد على قدر ما يطيق ، وكذلك المتنفل قاعدا ، وقال الثوري : يتربع في حال القراءة والركوع ، ويثني رجليه في حال السجود فيسجد ، وهذا نحو مذهب مالك ، وكذلك قال الليث ، وأحمد ، وإسحاق ، وقال الشافعي : يجلس في صلاته كلها كجلوس التشهد ، في رواية المزني ، وقال البويطي عنه : يصلي متربعا في موضع القيام ، وقال أبو حنيفة وزفر : يجلس كجلوس الصلاة في التشهد ، وكذلك يركع ويسجد ، وقال أبو يوسف ومحمد : يكون متربعا في حال القيام وحال الركوع ، وقد روي عن أبي يوسف أنه يتربع في حال القيام ويكون في حال ركوعه وسجوده كجلوس التشهد .

[ ص: 138 ] قال أبو عمر : روي عن ابن مسعود أنه كره أن يتربع أحد في الصلاة ، قال عبد الرزاق : يقول إذا صلى قائما ، فلا يجلس للتشهد متربعا ، فأما إذا صلى قاعدا فليتربع ، وروي عن ابن عباس أنه كان يكره التربع في صلاة التطوع ، قال شعبة : فسألت عنه حمادا ، فقال : لا بأس به في التطوع وروي عن إبراهيم ، ومجاهد ، ومحمد بن سيرين ، وأنس بن مالك أنهم كانوا يصلون في النافلة جلوسا متربعين ، ومالك أنه بلغه عن عروة ، وسعيد بن المسيب أنهما كانا يصليان النافلة وهما محتبيان ، ومعمر ، عن أيوب أن ابن سيرين كان يصلي في التطوع محتبيا ، قال معمر : ورأيت عطاء الخراساني يحتبي في صلاة التطوع ، وقال : ما أراني أخذته إلا من ابن المسيب ، ومعمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب أنه كان يحتبي في آخر صلاته في التطوع ، وذكر الثوري ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن ابن المسيب مثله ، قال : فإذا أراد أن يسجد ثنى رجليه وسجد ، وكان عمر بن عبد العزيز يصلي جالسا محتبيا ، فقيل له في ذلك ، فقال : بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى كان أكثر صلاته وهو جالس صلوات الله عليه ، وسيأتي القول فيمن صلى بعض صلاته مريضا ثم صح فيها ، في باب هشام بن عروة إن شاء الله عز وجل ، وصلى الله على محمد .

التالي السابق


الخدمات العلمية