التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1854 [ ص: 60 ] حديث ثالث وثلاثون لزيد بن أسلم - مرسل

مالك ، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة ، فقال رجل : يا رسول الله ، لا تخبرنا ، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال مثل مقالته الأولى ، فقال له الرجل : لا تخبرنا يا رسول الله ، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك أيضا ، فقال الرجل : لا تخبرنا يا رسول الله ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك - أيضا - ثم ذهب الرجل يقول مثل مقالته الأولى فأسكته رجل إلى جنبه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من وقاه الله شر اثنتين ، ولج الجنة [ ص: 61 ] ما بين لحييه ، وما بين رجليه ، ما بين لحييه ، وما بين رجليه ، ما بين لحييه ، وما بين رجليه .


هكذا قال يحيى في هذا الحديث : لا تخبرنا على لفظ النهي ثلاث مرات ، وأعاد الكلام أربع مرات ، وتابعه ابن القاسم ، وغيره على لفظ لا تخبرنا على النهي إلا أن إعادة الكلام عنده ثلاث مرات .

وقال القعنبي : ألا تخبرنا على لفظ العرض ، والإغراء ، والحث ، والقصة عنده معادة ثلاث مرات - أيضا - وكلهم ، قال : ما بين لحييه ، وما بين رجليه ثلاث مرات .

وأما ابن بكير فليس عنده هذا الحديث في الموطإ ، ولا عنده من الأربعة الأبواب المتصلة إلا باب ما يكره من الكلام ، فيه أورد أحاديث الأبواب الأربعة إلا هذا الحديث .

ولا أعلم عن مالك خلافا في إرسال هذا الحديث ، وقد روي معناه متصلا من طرق حسان ، عن جابر ، وعن سهل بن سعد [ ص: 62 ] وعن أبي موسى ، وعن أبي هريرة إلا أن لفظ أبي هريرة إن أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان البطن ، والفرج .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي قال : حدثنا عمر بن علي عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من يتكفل لي بما بين لحييه ، وما بين رجليه ، وأضمن له الجنة .

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا الوليد بن شجاع قال : حدثني المغيرة بن سقلاب قال : أخبرنا معقل - يعني ابن عبيد الله العبسي - ، عن عمرو بن دينار عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من ضمن لي ما بين لحييه ، ورجليه ضمنت له الجنة .

[ ص: 63 ] وحدثنا أبو القاسم خلف بن القاسم الحافظ قراءة مني عليه ، قال : حدثنا محمد بن جعفر بن سليمان غندر قال : حدثنا أحمد بن علي بن المثنى قال : حدثنا عاصم بن علي بن عمر بن علي مقدم ، قال : حدثني أبي ، عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من ضمن لي ما بين لحييه ، ورجليه ضمنت له الجنة .

وحدثني أبو القاسم قال : أخبرنا محمد بن جعفر بن سليمان بن دران غندر قال : حدثنا أحمد بن علي ومحمد بن أبي بكر بن سليمان قالا : حدثنا الوليد بن شجاع قال : حدثنا المغيرة بن سقلاب قال : حدثنا معقل بن عبيد الله عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من ضمن لي ما بين لحييه ، ورجليه ضمنت له الجنة .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا أحمد [ ص: 64 ] بن إسحاق الحضرمي قال : حدثنا خالد بن الحارث قال : حدثنا محمد بن عجلان عن أبي حازم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من وقاه الله شر اثنتين دخل الجنة : شر ما بين لحييه ، وشر ما بين رجليه .

حدثنا أحمد بن قاسم وأحمد بن محمد قالا : حدثنا أحمد بن الفضل قال : حدثنا الحسن بن علي العدوي قال : حدثني خراش بن عبد الله قال : حدثني مولاي أنس بن مالك قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه فقال : من ضمن لي اثنتين ضمنت له الجنة ، قال أبو هريرة : فداك أبي وأمي يا رسول الله ، أنا أضمنها [ ص: 65 ] ما هما ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من ضمن لي ما بين لحييه ، وما بين رجليه ضمنت له الجنة .

قال أبو عمر :

معلوم أنه أراد بقوله ما بين لحييه اللسان ، وما بين رجليه الفرج ، - والله أعلم - .

ولذلك أردف مالك حديثه في هذا الباب بحديثه ، عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب دخل على أبي بكر الصديق ، وهو يجبذ لسانه فقال له عمر : مه - غفر الله لك - فقال أبو بكر : إن هذا أوردني الموارد . وفي اللسان في معنى هذا الباب آثار كثيرة منها مرفوعة ، ومنها من قول السلف ، وقد ذكر ابن المبارك ، وغيره في ذلك أبوابا .

وجدت في أصل سماع أبي بخطه - رحمه الله - أن محمد بن أحمد بن قاسم بن هلال حدثهم ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان الأعناقي قال : حدثنا نصر بن مرزوق قال : أخبرنا أسد بن موسى قال : حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل أنه سأل رسول الله [ ص: 66 ] - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، أي الأعمال أفضل ؟ : الصلاة بعد الصلاة المفروضة ؟ قال : لا ، ونعم ما هي ، قال : فالصوم بعد صوم رمضان ؟ قال : لا ، ونعم ما هو ، قال : فالصدقة بعد الصدقة المفروضة ؟ قال : لا ، ونعم ما هي ، قال : يا رسول الله ، فأي الأعمال أفضل ؟ قال : فأخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسانه ، ثم وضع عليه إصبعه فاسترجع معاذ ، وقال : يا رسول الله ، أنؤاخذ بما نقول كله ، ويكتب علينا ؟ قال : فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منكب معاذ ، وقال : ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم .

ومن أحسن ما قيل في هذا المعنى من النظم المحكم قول نصر بن أحمد :


لسان الفتى حتف الفتى حين يجهل وكل امرئ ما بين فكيه مقتل     وكم فاتح أبواب شر لنفسه
إذا لم يكن قفل على فيه مقفل



في أبيات قد ذكرتها في كتاب العلم في بابها .

[ ص: 67 ] وسيأتي في باب سعيد المقبري عند قوله - صلى الله عليه وسلم - : من كان يؤمن بالله ، واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ما فيه كفاية في فضل الصمت إن شاء الله .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا مسلم قال : حدثنا جرير بن حازم عن الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم قال : أيمن امرئ ، وأشأمه ما بين لحييه ، وقال ابن مسعود : أعظم الخطايا اللسان الكذوب .

وفي هذا الحديث من الفقه أن الكبائر أكثر ما تكون ، - والله أعلم - من الفم ، والفرج ، ووجدنا الكفر ، وشرب الخمر ، وأكل الربا ، وقذف المحصنات ، وأكل مال اليتيم ظلما من الفم ، واللسان ، ووجدنا الزنا من الفرج .

وأحسب أن المراد من الحديث أنه من اتقى لسانه ، وما يأتي من القذف ، والغيبة ، والسب كان أحرى أن يتقي القتل ، ومن اتقى شرب الخمر كان حريا باتقاء بيعها ، ومن اتقى أكل الربا لم يعمل به ; لأن البغية من العمل به التصرف في أكله فهذا وجه في تخصيص الجارحتين المذكورتين في هذا [ ص: 68 ] الحديث ، وضمان الجنة لمن وقي شرهما ، وهذا التأويل على نحو قول عمر - رضي الله عنه - في الصلاة ، ومن ضيعها كان لما سواها أضيع ، ومن حفظها حفظ دينه فكان قوله - صلى الله عليه وسلم - : من اتقى الغيبة ، وقول الزور ، واتقى الزنا مع غلبة شهوة النساء على القلوب كان للقتل أهيب ، وأشد توقيا - والله أعلم - .

ويحتمل أن يكون ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - خطابا لقوم بأعيانهم اتقى عليهم من اللسان ، والفرج ما لم يتق عليهم من سائر الجوارح .

ويحتمل أيضا أن يكون قوله ذلك معه كلام الناقل كأنه قال : من عافاه الله ، ووقاه كذا ، وكذا ، وشر ما بين لحييه ، ورجليه ، ولج الجنة فسمع الناقل بعض الحديث ، ولم يسمع بعضا فنقل ما سمع .

وإنما حملنا على تخريج هذه الوجوه لإجماع الأمة أن من أحصن فرجه عن الزنا ، ومنع لسانه من كل سوء ، ولم يتق [ ص: 69 ] ما سوى ذلك من القتل ، والظلم أنه لا يضمن له الجنة ، وهو إن مات عندنا في مشيئة الله - تعالى - إن شاء غفر له ، وإن شاء عذبه إذا مات مسلما .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : اتقوا الموبقات المهلكات يعني الكبائر أعم من هذا الحديث قال الله - عز وجل - : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما والمدخل الكريم : الجنة .

وقد اختلف العلماء في الكبائر فأما ما أتى منها في الأحاديث المرفوعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو المفزع عند التنازع ، فحدثنا أحمد بن قاسم بن عيسى قال : حدثنا عبيد الله بن محمد بن حبابة البغدادي قال : حدثنا عبد الله بن محمد البغوي قال : حدثنا علي بن الجعد قال : حدثنا أيوب بن عتبة قال : حدثني طيلسة بن علي قال : أتيت ابن عمر عشية عرفة ، وهو تحت ظل أراك ، وهو يصب على رأسه الماء فسألته عن الكبائر فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : هن تسع ، قلت : وما هن ؟ قال : الإشراك بالله ، وقذف المحصنة ، قال : قلت قبل الدم ؟ قال : نعم ، وقتل النفس المؤمنة ، والفرار من الزحف ، والسحر [ ص: 70 ] وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين ، والإلحاد بالبيت الحرم قبلتكم أحياء ، وأمواتا .

قال أبو عمر :

طيلسة هذا يعرف بطيلسة بن مياس ، ومياس لقب ، وهو طيلسة بن علي الحنفي يقال فيه : طيلسة ، وطيسلة ، وقد روى هذا الحديث يحيى بن أبي كثير وزياد بن مخراق عن طيلسة عن ابن عمر مرفوعا فهذا حديث ابن عمر .

وروى ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل : أي الكبائر أعظم ؟ فقال : أن تشرك بالله ، وهو خلقك ، وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك ، وأن تزاني حليلة جارك .

[ ص: 71 ] وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وأنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الكبائر الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله ، وعقوق الوالدين ولفظ حديث أنس : أكبر الكبائر .

وروى أبو بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك ، وزاد : وشهادة الزور . وروى الشعبي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما الكبائر يا رسول الله ؟ قال : الإشراك بالله ، قال : ثم ماذا ؟ قال : ثم عقوق الوالدين ، قال : ثم ماذا ؟ قال : ثم اليمين الغموس ، قال : وما اليمين الغموس ؟ قال : الذي يقتطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها كاذب .

[ ص: 72 ] وعن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : شرب الخمر من الكبائر .

وعنه - أيضا - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من الكبائر أن يسب الرجل والديه يعني يستسب لهما ، وهو يدخل في باب العقوق .

وحديث عمران بن حصين قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما تعدون الكبائر فيكم ؟ قلنا الشرك بالله ، والزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، قال : هن كبائر ، وفيهن عقوبات ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى ، قال : شهادة الزور .

وفي حديث خريم بن فاتك قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح يوما فلما انصرف قام قائما فقال : عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله ثلاث مرات ثم تلا فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور [ ص: 73 ] وروى ابن المبارك عن سفيان عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول عدلت شهادة الزور بالشرك بالله ، ثم قرأ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور .

وروي عن محارب بن دثار قال : سمعت ابن عمر يقول سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : شاهد الزور لا تزول قدماه حتى تجب له النار .

قال أبو عمر :

الفرار من الزحف مذكور في حديث ابن عمر المذكور ، وفي حديث ابن عباس ، وفي حديث أبي أيوب الأنصاري ، وفي حديث عبد الله بن أنيس الجهني كلها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي حديث أبي أيوب : ومنع ابن السبيل [ ص: 74 ] ولا أحفظه في غيره . وذكر ابن وهب قال : أخبرني سليمان بن بلال عن كثير بن زيد ، عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اتقوا السبع الموبقات ، قلنا : وما هي ؟ قال : الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والزنا ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وشهادة الزور ، وقذف المحصنات .

وحديث عبد الله بن أنيس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله في السبع الكبائر إلا أنه ذكر فيهن العقوق ، ولم يذكر قذف المحصنات .

فهذا ما في الآثار المرفوعة من الكبائر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو يخرج في التفسير المرفوع ، وهي مشهورة عند أهل العلم بالحديث تركت ذكر أسانيدها خشية الإطالة ، وأجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمد ذلك عالما به رويت في ذلك آثار شديدة عن السلف ، وقال الله - عز وجل - : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، والظالمون ، والفاسقون ، [ ص: 75 ] نزلت في أهل الكتاب ، قال حذيفة وابن عباس : وهي عامة فينا ، قالوا : ليس بكفر ينقل عن الملة إذا فعل ذلك رجل من أهل هذه الأمة حتى يكفر بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر .

روي هذا المعنى عن جماعة من العلماء بتأويل القرآن منهم ابن عباس وطاوس وعطاء ، وقال الله - عز وجل : - وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ، والقاسط الظالم الجائر فالذي حصل في الآثار المذكورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذكر الكبائر ستة عشر ذنبا : الإشراك بالله ، وقتل النفس المؤمنة بغير الحق ، وعقوق الوالدين المسلمين ، وقذف المحصنة ، وشهادة الزور ، والسحر ، والفرار من الزحف ، والزنى ، وأكل الربا ، وشرب الخمر ، والسرقة ، واليمين الغموس ، وأكل مال اليتيم ظلما ، والإلحاد بالبيت الحرام ، ومنع ابن السبيل ، والجور في الحكم عمدا ، ومن جعل الاستسباب للأبوين من باب العقوق كانت سبعة عشر عصمنا الله من جميعها برحمته .

[ ص: 76 ] وقد روى عمر بن المغيرة ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الضرار في الوصية من الكبائر هكذا رواه عمر بن المغيرة مرفوعا ، ورواه الثوري ، وزهير بن معاوية ، وأبو معاوية ، ومندل بن علي ، وعبيدة بن حميد كلهم ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس موقوفا ، قال : الضرار في الوصية من الكبائر ، ثم قرأ : " وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله " الآية .

ومن حديث بريدة الأسلمي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أكبر الكبائر الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، ومنع فضل الماء ، ومنع الفحل ، وهذا حديث ليس بالقوي ، ذكره البزار عن عمرو بن مالك عن عمر بن علي [ ص: 77 ] المقدمي عن صالح بن حيان عن عبد الله بن بريدة عن أبيه ، وليس له غير هذا الإسناد ، وليس مما يحتج به .

وقد روى حنش بن قيس الرحبي عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر ، ومن شهد شهادة فاجتاح بها مال مسلم فقد تبوأ مقعده من النار ، ومن شرب شرابا حتى يذهب الذي رزقه الله فقد أتى بابا من أبواب الكبائر .

وهذا حديث ، وإن كان في إسناده من لا يحتج بمثله أيضا من أجل حنش هذا فإن معناه صحيح من وجوه .

وقد روى شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا ، قال : يا رسول الله ، ما الكبائر ؟ قال : الشرك بالله ، والإياس من روح الله ، والقنوط من رحمة اللهفهذه الكبائر من وقاه الله إياها ، وعصمه منها ضمنت له الجنة [ ص: 78 ] ما أدى فرائضه فإنهن الحسنات المذهبات للسيئات ; ألا ترى أن من اجتنب كبائر ما نهي عنه كفرت سيئاته الصغائر بالوضوء ، والصلاة ، والصيام ، ومن مات على هذا زحزح عن النار ، وأدخل الجنة وفاز ، مضمون له ذلك ، ومن أتى كبيرة من الكبائر ، ثم تاب عنها بالندم عليها ، والاستغفار منها وترك العودة إليها كان كمن لم يأتها قط ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له .

على هذا الترتيب في الصغائر ، والكبائر ، وكفارة الذنوب جاء معنى كتاب الله ، وسنة رسوله عند جماعة العلماء بالكتاب ، والسنة ، ومن أتى كبيرة ، ومات على غير توبة ( منها ) فأمره إلى الله إن شاء غفر له ، وإن شاء عذبه .

فعلى ما ذكرنا ، ووصفنا خرج قولنا أن الأحاديث في اجتناب الكبائر أعم من حديث هذا الباب في قوله : من وقي ما بين لحييه ، ورجليه دخل الجنة والله الموفق للصواب لا شريك له .

وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تكفل بالجنة لمن جاء بخصال ست ذكرها : أخبرنا خلف بن أحمد قال : حدثنا أحمد بن مطرف حدثنا سعيد بن عثمان حدثنا يونس [ ص: 79 ] بن عبد الأعلى حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن يسار عن أنس بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : تكفلوا لي ستا أتكفل لكم بالجنة ، قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : إذا حدث أحدكم فلا يكذب ، وإذا وعد فلا يخلف ، وإذا اؤتمن فلا يخن ، وغضوا أبصاركم ، واحفظوا فروجكم ، وكفوا أيديكم .

وأما رواية من روى في حديث مالك هذا لا تخبرنا على لفظ النهي فيحتمل عندي وجهين : أحدهما : أن يكون قائل ذلك قاله على معنى استنباطها ، واستخراجها أن يتركهم ، وذلك على وجه التعليم ، والإدراك بالفكرة لها ، أو يكون رجلا منافقا ، قال ذلك القول زهادة في سماع ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ورغبة عنه ، وكانوا قوما قد نهاه الله عن قتلهم بما أظهروه من الإيمان ، - والله أعلم - أي ذلك كان ، وكيف كان ؟ .

[ ص: 80 ] وأما رواية من روى ( ألا تخبرنا ) فهي بينة في الاستفهام على وجه العرض ، والإغراء ، والحث كأنها لا التي للتبرئة دخل عليها ألف الاستفهام فصار معناها ما ذكرنا .

وأما تكريره - صلى الله عليه وسلم - قوله : ما بين لحييه ، وما بين رجليه ثلاث مرات فيحتمل أن يكون جوابا لتكرير قوله : ( من وقاه الله شر اثنتين ) ، قال ذلك ثلاثا - أيضا - ويحتمل أن يكون على ما روي عنه أنه كان إذا تكلم بكلمة كررها ثلاثا ، وفي هذا رخصة لمن كرر الكلام يريد به التأكيد ، والبيان ، ولا أريد لأحد إذا كرر كلمة يريد تأكيدها أن يكررها أكثر من ثلاث ، وبالله التوفيق .

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى قال : حدثنا محمد بن القاسم بن شعبان ، وحدثناه خلف بن القاسم قال : حدثنا الحسن بن رشيق قالا : حدثنا علي بن سعيد بن بشير حدثنا عبد [ ص: 81 ] الواحد بن غياث قال : حدثنا فضال بن جبير قال : سمعت أبا أمامة الباهلي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأثر حديثا سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول : أكفلوا لي بست خصال أكفل لكم بالجنة : إذا حدث أحدكم ، فلا يكذب ، وإذا وعد ، فلا يخلف ، وإذا اؤتمن ، فلا يخن ، واملكوا ألسنتكم ، وكفوا أيديكم ، واحفظوا فروجكم ، واللفظ لحديث خلف .

التالي السابق


الخدمات العلمية