التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1882 [ ص: 82 ] حديث رابع وثلاثون لزيد بن أسلم - مرسل

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى عمر بن الخطاب بعطاء فرده ( عمر ) فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لم رددته ؟ فقال : يا رسول الله ، أليس أخبرتنا أن خيرا لأحدنا أن لا يأخذ من أحد شيئا ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما ذلك عن المسألة فأما ما كان عن غير مسألة فإنما هو رزق يرزقكه الله فقال عمر بن الخطاب : أما والذي نفسي بيده لا أسأل أحدا شيئا ، ولا يأتيني شيء من غير مسألة إلا أخذته .


قال أبو عمر :

لا خلاف علمته بين رواة الموطإ عن مالك في إرسال هذا [ ص: 83 ] الحديث هكذا ، وهو حديث يتصل من وجوه ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث زيد بن أسلم عن أبيه ، عن عمر ومن غير ما وجه عن عمر .

وفيه أن يهدي الكبير إلى الصغير ، والجليل إلى من هو دونه ، وأن يهدي القليل المال إلى من هو أكثر منه مالا ، وفيه أنه لا ينبغي لأحد أن يرد الهدية إذا علم طيب مكسبها ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : لعمر لم رددته ؟ كان إنكارا منه لفعله ، وفيه استعمال العموم في الأخبار ، والأوامر ألا ترى أن عمر استعمل ما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : خير لأحدكم أن لا يأخذ من أحد شيئا على عمومه ولم توجب عنده اللغة في الخطاب غير ذلك ، ولم ينكر ذلك عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل بين له مراده منه ، وفيه أن العموم جائز عليه التخصيص ، وفيه كراهية السؤال على كل حال .

وقد قدمنا ذكر الآثار فيمن تحل له المسألة ، ومن لا تحل له في كتابنا هذا فأغنى ذلك ، عن إعادته ههنا .

[ ص: 84 ] وقد يحتمل أن يكون قوله : في هذا الحديث : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمر بعطاء . أي مما كان يقسمه من الفيء على سبيل الأعطية ، وهو بعيد ; لأن أول من فرض الأعطية عمر بن الخطاب ، ويستحيل أيضا أن يرد نصيبه من الفيء ، ويقول فيه ذلك القول لمن تدبره .

والوجه عندي أنها عطية على وجه الهبة ، والهدية ، والصلة ، والله - تعالى - أعلم .

وفي الحديث أيضا أن الواجب قبول كل رزق يسوقه الله - عز وجل - إلى العبد على أي حال كان ما لم يكن حراما بينا : حدثنا عبد الرحمن بن يحيى حدثنا علي بن محمد حدثنا أحمد بن داود حدثنا سحنون بن سعيد حدثنا ابن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعطي عمر بن الخطاب العطاء فيقول له عمر : أعطه يا رسول الله من هو أفقر إليه مني ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خذه فتموله ، أو تصدق [ ص: 85 ] به ، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ، ولا سائل فخذه ، وما لا ، فلا تتبعه نفسك . قال سالم : فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحدا شيئا ، ولا يرد شيئا أعطيه .

وفيه ما كان عليه عمر - رحمه الله - من البدار إلى طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي فيها طاعة الله ألا ترى إلى قوله : والله لا أسأل أحدا ، ولا يأتيني شيء من غير مسألة إلا أخذته ، وهكذا يلزم من جهل شيئا الانقياد إلى العلم ، واستعماله :

حدثني سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عبد الله بن نمير قال : حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه ، قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : أرسل إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمال فرددته فلما جئته ، قال : ما حملك على أن ترد ما أرسلت به إليك ؟ قال : قلت : يا رسول الله ، قلت لي : إن خيرا لك أن لا تأخذ من الناس ، قال : إنما ذلك أن تسأل الناس ، وما جاءك من غير مسألة فإنما هو رزق رزقكه الله .

[ ص: 86 ] وحدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : حدثنا عمرو بن منصور قال : حدثنا الحكم بن نافع قال : حدثنا شعيب عن الزهري قال : حدثني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيني العطاء فأقول : أعطه أفقر إليه مني حتى أعطاني مرة مالا ، فقلت : أعطه أفقر إليه مني ، فقال : خذه فتموله ، وتصدق به ، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ، ولا سائل فخذه ، وما لا ، فلا تتبعه نفسك .

أخبرني عبد الله بن محمد قال : حدثنا عبد الحميد بن أحمد الوراق قال : حدثنا الخضر بن داود قال : حدثنا أبو بكر الأثرم قال : حدثنا القعنبي قال : حدثنا البهلول بن راشد عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه ، قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيني العطاء فأقول : أعطه من هو أفقر إليه مني حتى أعطاني مرة [ ص: 87 ] مالا فقلت : أعطه من هو أفقر إليه مني ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خذه ، وما جاءك من هذا المال من غير مسألة ، ولا إشراف فخذه .

وعند ابن شهاب في هذا الحديث إسناد آخر عن السائب بن يزيد عن حويطب بن عبد العزيز عن عبد الله بن السعدي عن عمر بن الخطاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء .

روى هذا الحديث بهذا الإسناد عنه جماعة من أصحابه منهم الزبيدي ومعمر وابن عيينة وشعيب بن أبي حمزة ، ويقولون : إن ابن عيينة إنما سمعه من معمر ، وعنه يرويه ، وقيل لمالك : الحديث الذي أتى : ما جاءك من غير مسألة فإنما هو رزق رزقكه الله أفيه رخصة ، قال : نعم ، قيل : فمن أعطي شيئا ، ووصل به ؟ [ ص: 88 ] قال : تركه أحب إلي ، وأفضل إن كان له عنه غنى إلا أن يخاف على نفسه الجوع ، وهو محتاج ، فلا أرى به بأسا .

وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة قال : ما أحد من الناس يهدي إلي هدية إلا قبلتها .

وأما أن أسأل فلم أكن لأسأل .

أخبرني عبد الله بن محمد قال : حدثنا عبد الحميد بن أحمد قال : حدثنا الخضر بن داود قال : حدثنا أبو بكر قال : سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - يسأل عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما أتاك من غير مسألة ، ولا إشراف ، أي الإشراف أراد ؟ فقال : أن تستشرفه ، وتقول : لعله يبعث إلي بقلبك ، قيل له : وإن لم يتعرض ، قال : نعم ، إنما هو بالقلب ، قيل له : هذا شديد ، قال : وإن كان شديدا فهو هكذا . قيل له : فإن كان رجل لم يعودني أن يرسل إلي شيئا إلا أنه قد عرض بقلبي ؟ فقلت : عسى أن يبعث إلي شيئا ، فقال : هذا إشراف فأما إذا جاءك أن تحسبه ، ولا خطر على قلبك فهذا الآن ليس فيه إشراف [ ص: 89 ] قلت له : فلو عرض بقلبه لو بعث إليه ، فبعث إليه أيلزمه أن يرده ، قال : لا أدري ما يلزمه ، ولكن له حينئذ أن يرده ، قلت له : وليس عليه واجب أن يرده ، قال : لا ، ثم قال : إن الشأن أنه إذا جاءه من غير مسألة ، ولا إشراف كان عليه أن يأخذ بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فليقبله ، قال : فحينئذ ينبغي له أن يأخذ ، ويضيق عليه إذا كان عن غير إشراف ، ولا مسألة أن يرد فإذا كان فيه إشراف فله أن يرد ، ولا يلزمه أن يأخذ ، وإن أخذه فهو جائز ، ولو سأل لم يكن له أن يأخذ ، وضاق عليه ذلك بالمسألة إذا لم تحل له .

قال أبو عمر :

الإشراف في اللغة رفع الرأس إلى المطموع عنده ، والمطموع فيه ، وأن يهش الإنسان ، ويتعرض .

وما قاله أحمد بن حنبل - رحمه الله - في تأويل الإشراف تضييق ، وتشديد ، وهو عندي بعيد ; لأن الله - تبارك وتعالى - تجاوز لهذه الأمة عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان ، أو تعمله جارحة ، وما اعتقده القلب من المعاصي [ ص: 90 ] ما خلا الكفر فليس بشيء حتى يعمل به ، وخطرات النفوس متجاوز عنها بإجماع ، والحمد لله .

حدثنا خلف بن القاسم الحافظ ، أخبرنا سعيد بن عثمان بن السكن الحافظ ، حدثنا عبد الوهاب بن سعد الحمراوي حدثنا أحمد بن أبي يحيى الحضرمي حدثنا صالح بن محمد السلولي حدثنا خالد بن نجيح عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الهدية رزق من رزق الله فمن أهدي له فليقبله ، ولا يرده ، وليعطه خيرا منه ، وليكافئ .

قال أبو عمر :

المكافأة الاستواء ، والاعتدال ، ومنه قوله : شاتان مكافئتان أي معتدلتان أو مثلان ، - والله أعلم - .

[ ص: 91 ] أخبرنا عبد الرحمن بن مروان قال : حدثنا أحمد بن سليمان الحريري قال : حدثنا إسماعيل بن موسى الحاسب قال : حدثنا محمود بن غيلان قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال : حدثنا همام عن قتادة عن عبد الملك عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من عرض له شيء من الرزق من غير أن يسأله فليقبله فإنما هو رزق ساقه الله إليه .

أخبرنا عبد الله بن محمد قال : أخبرنا عبد الحميد بن أحمد قال : حدثنا الخضر بن داود قال : حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ قال : حدثنا أحمد بن الحجاج قال : حدثنا عبد الله بن المبارك قال : أخبرني معقل بن عبيد الله قال : حدثني عطاء بن أبي رباح قال : قال أبو الدرداء : إذا أخوك أعطاك شيئا فاقبله منه فإن كانت لك فيه حاجة فاستمتع به ، وإن كنت غنيا عنه فتصدق به ، ولا تنفس على أخيك أن يأجره الله فيه .

[ ص: 92 ] قال أبو بكر : وأخبرنا سعيد بن عفير قال : حدثنا ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن زياد بن نعيم أنه حدثه عن ابن أبي شريح عن عبد الله بن عمرو قال : ما يمنع أحدكم إذا أتاه الله برزق ، ولم يستشرف له أن يقبله إن كان غنيا أجر في أخيه ، وإن كان محتاجا كان رزقا قسمه الله له .

قال : وحدثنا علي بن بحر قال : حدثنا عيسى بن يونس قال : حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عثمان بن حيان قال : سمعت أبا الدرداء يقول : إن أحدكم يقول : اللهم ارزقني ، وقد علم أن الله لا يخلق له دينارا ، ولا درهما ; وإنما يرزق بعضكم من بعض فإذا أعطي أحدكم شيئا فليقبله فإن كان عنه غنيا فليضعه في [ ص: 93 ] أهل الحاجة من إخوانه ، وإن كان إليه فقيرا فليستعن به على حاجته ، ولا يرد على الله رزقه الذي رزقه .

قرأت على خلف بن أحمد أن أحمد بن مطرف حدثهم ، قال : حدثنا محمد بن عمر بن لبابة وأيوب بن سليمان أبو صالح قالا : حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم قال : حدثنا عبد الله بن يزيد المقري قال : حدثنا سعيد بن أبي أيوب عن أبي الأسود عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن بسر بن سعيد عن خالد بن عدي الجهني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من جاءه من أخيه معروف من غير سؤال ، ولا إشراف نفس فليقبله فإنما هو رزق ساقه الله إليه .

وأخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا عبد الله بن يزيد أبو عبد الرحمن قال : حدثنا سعيد بن أيوب وحيوة بن شريح عن أبي الأسود أنه أخبرهما أن بكير بن الأشج أخبره أن بسر بن سعيد أخبره ، عن خالد بن عدي الجهني [ ص: 94 ] قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من جاءه من أخيه معروف من غير إشراف ، ولا مسألة فليقبله ، ولا يرده فإنما هو رزق ساقه الله إليه .

وروى الليث بن سعد هذا الحديث عن بكير بن الأشج عن بسر بن سعيد عن ابن الساعدي . ورواية أبي الأسود أصح - إن شاء الله - ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية