التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
604 [ ص: 95 ] حديث خامس وثلاثون لزيد بن أسلم - مرسل

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغاز في سبيل الله ، أو لعامل عليها ، أو لغارم ، أو لرجل اشتراها بماله ، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني .


هكذا رواه مالك مرسلا ، وتابعه على إرساله ابن عيينة وإسماعيل بن أمية .

ورواه الثوري عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال : حدثني الليث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فذكره .

ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 96 ] فأما رواية ابن عيينة فحدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا أحمد بن مطرف قال : حدثنا سعيد بن عثمان قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل الأيلي قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : رجل اشتراها بماله ، أو رجل أهديت له ، أو لعامل عليها ، أو لغارم ، أو لغاز في سبيل الله .

وأما رواية إسماعيل بن أمية فرواها ابن علية عن إسماعيل بن أمية عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ حديث مالك حرفا بحرف .

وأما رواية معمر فحدثنا عبد الوارث بن سفيان ويعيش بن سعيد قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن غالب قال : أخبرني أحمد بن عبد الله بن صالح يعني الكوفي قال : حدثني أحمد بن صالح يعني المصري قال : حدثنا عبد الرزاق بن همام بن نافع قال : حدثنا معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن [ ص: 97 ] يسار عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لعامل عليها ، أو لرجل اشتراها بماله ، أو غارم ، أو غاز في سبيل الله ، أو مسكين تصدق عليه فأهدى منها لغني .

وحدثنا خلف بن سعيد قال : حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا أحمد بن خالد قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال : أخبرنا عبد الرزاق ، فذكر بإسناده مثله سواء .

وفي هذا الحديث من الفقه ما يدخل في تفسير قول الله - عز وجل - إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية ، وتفسير لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوي ، وقوله هذا عموم مخصوص بقوله في هذا الحديث : إلا لخمسة .

وأجمع العلماء أن الصدقة المفروضة لا تحل لأحد من الأغنياء ، غير من ذكر في هذا الحديث من الخمسة الموصوفين فيه ، وكان ابن القاسم يقول : لا يجوز لغني أن يأخذ من الصدقة ما يستعين به على الجهاد ، وينفقه في سبيل الله ; وإنما يجوز ذلك للفقير ، قال : وكذلك الغارم لا يجوز له أن يأخذ [ ص: 98 ] من الصدقة ما يفي بها ماله ، ويؤدي منها دينه ، وهو عنها غني ، قال وإذا احتاج الغازي في غزوته ، وهو غني له مال غائب عنه لم يأخذ من الصدقة شيئا ، واستقرض فإذا بلغ بلده أدى ذلك من ماله .

هذا كله ذكره ابن حبيب عن ابن القاسم وزعم أن ابن نافع ، وغيره خالفه في ذلك .

وذكر ابن أبي زيد ، وغيره . عن ابن القاسم أنه قال في الزكاة : يعطى منها الغازي ، وإن كان معه في غزاته ما يكفيه من ماله ، وهو غني في بلده .

روى ابن وهب عن مالك أنه يعطى منها الغزاة ، ومن لزم مواضع الرباط فقراء كانوا ، أو أغنياء ، وذكر عيسى بن دينار في تفسير هذا الحديث ، قال : تحل الصدقة لغاز في سبيل الله قد احتاج في غزوته ، وغاب عنه غناه ، ووفره ، قال : ولا تحل لمن كان معه ماله من الغزاة إنما تحل لمن كان ماله غائبا عنه منهم ، قال عيسى : وتحل لعامل عليها ، وهو الذي يجمعها للمساكين من عند أرباب المواشي ، والأموال فهذا يعطى منها على قدر سعيه لا على قدر ما جمع [ ص: 99 ] من الصدقات ، والعشور ، ولا ينظر إلى الثمن ، وليس الثمن بفريضة ; وإنما له قدر اجتهاده ، وعمله ، قال : وتحل لغارم غرما قد فدحه ، وذهب بماله إذا لم يكن غرمه في فساد ، ولا دينه في فساد ، مثل أن يستدين في نكاح ، أو حج ، أو غير ذلك من وجوه الصلاح ، والمباح ، قال : وأما غارم لم يفدحه الغرم ، ولم يحتج ، وقد بقي له من ماله ما يكفيه فإنه لا حق له في الصدقات ، قال : وتحل لرجل اشتراها بماله ، ولرجل له جار مسكين تصدق عليه فأهدى المسكين للغني .

وأما الشافعي ، وأصحابه وأحمد بن حنبل ، وسائر أهل العلم فيما علمت فإنهم ، قالوا : جائز للغازي في سبيل الله إذا ذهبت نفقته ، وماله غائب عنه أن يأخذ من الصدقة ما يبلغه ، قالوا : والمحتمل بحمالة في صلاح وبر ، والمتدائن في غير فساد كلاهما يجوز له أداء دينه من الصدقة ، وإن كان الحميل غنيا فإنه جائز له أخذ الصدقة إذا وجب عليه أداء ما تحمل به ، وكان ذلك يجحف بماله .

واحتج من ذهب إلى هذا الحديث بحديث قبيصة بن المخارق ، وبظاهر حديث زيد بن أسلم هذا .

[ ص: 100 ] فأما حديث قبيصة فحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد بن مسرهد قال : حدثنا حماد بن زيد عن هارون بن رئاب قال : حدثني كنانة بن نعيم عن قبيصة بن المخارق قال : تحملت بحمالة فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أسأله فيها فقال : أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة ، فنأمر لك بها ، ثم قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ، ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ، أو سدادا من عيش ، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه أصابت فلانا الفاقة [ ص: 101 ] فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ، أو سدادا من عيش فما سواهن يا قبيصة من المسألة فسحت .

فقوله : رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يؤديها ، ثم يمسك " دليل على أنه غني ; لأن الفقير ليس عليه أن يمسك ، عن السؤال مع فقره ، ودليل آخر ، وهو عطفه ذكر الذي ذهب ماله ، وذكر الفقير ذي الفاقة على ذكر صاحب الحمالة فدل على أنه لم يذهب ماله ، ولم تصبه فاقة ، - والله أعلم - .

وأجمع العلماء على أن الصدقة تحل لمن عمل عليها ، وإن كان غنيا ، وكذلك المشتري لها بماله ، والذي تهدى إليه على ما جاء في هذا الحديث ، وكذلك سائر من ذكر فيه ، - والله أعلم - .

وظاهر هذا الخبر يقتضي أن الصدقة تحل لهؤلاء الخمسة في حال غناهم ، ولو لم يجز لهم أخذها إلا مع الحاجة ، والفقر لما كان للاستثناء وجه ; لأن الله قد أباحها للفقراء ، والمساكين إباحة مطلقة ، وحق الاستثناء أن يكون مخرجا من الجملة ما دخل في عمومها هذا هو الوجه ، - والله أعلم - .

[ ص: 102 ] روينا عن عبد الرحمن بن أبي نعم أنه قال : كنت جالسا عند عبد الله بن عمر فجاءته امرأة ، فقالت : يا أبا عبد الرحمن إن زوجي توفي ، وأوصى بمال في سبيل الله ، قال : هو في سبيل الله كما قال : قلت : إنك لم تزدها إلا غما قد سألتك فأخبرها ، فأقبل علي فقال : يا ابن أبي نعم أتأمرني أن آمرها أن تدفعه إلى هذه الجيوش الذين يخرجون فيفسدون في الأرض ، ويقطعون السبيل ، قال : فقلت : فتأمرها بماذا ؟ قال : آمرها أن تنفقه على أهل الخير ، وعلى حجاج بيت الله ، أولئك وفد الرحمن ليسوا كوفد الشيطان يكررها ثلاثا ، قلت : وما وفد الشيطان ؟ قال : قوم يأتون هؤلاء الأمراء فيمشون إليهم بالنميمة ، والكذب فيعطون عليها العطايا ، ويجازون عليها بالجوائز .

[ ص: 103 ] وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن من جاز له أخذ الصدقة ، وحلت له أنه يتصرف فيها ، ويملكها ، ويصنع فيها ما شاء من بيع وهبة ، وغير ذلك مما أحب ، ولذلك ما يطيب أكلها لمن أهديت إليه ، وقد تقدم القول في معنى هدية المسكين من الصدقة للغني في باب ربيعة في قصة لحم بريرة إذ ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هو عليها صدقة ، وهو لنا هدية .

حدثنا أحمد بن عمر قال : حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن فطيس قال : حدثنا محمد بن إسحاق بن شبويه السجستي قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها فقال : أعندك شيء ؟ فقالت : لا ، إلا رجل شاة تصدق به على امرأة فأهدته لنا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : قربيه فقد بلغت محلها [ ص: 104 ] ومعنى قوله هذا ، - والله أعلم - أي قد بلغت حالا تحل لنا فيها إذ هي هدية أهداها من يملكها ، وإن كان أصلها صدقة ، فلا تضر ; لأنها ليست بصدقة من المهدى .

ويحتمل أن يكون أراد بلغت موضعها الذي قدر الله أن تؤكل فيه فهو محلها ، وهو من الوجه الأول أنها بلغت حالا حل له فيها أكلها .

ويحتمل أن يكون أراد قد بلغت الحاجة محلها فنحن نأكل الرجل ، وغير الرجل لحاجتنا إلى ذلك - والله أعلم - بما أراد بقوله ذلك .

حدثني محمد بن إبراهيم قال : حدثنا أحمد بن مطرف قال : حدثنا سعيد بن عثمان قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل الأيلي قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد بن السباق عن جويرية بنت الحارث ، قالت : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 105 ] ذات يوم فقال : هل عندكن شيء ؟ قلت : لا ، إلا عظم أعطيته مولاة لنا من الصدقة ، قال : قربيه فقد بلغت محلها .

وروى ابن علية عن خالد الحذاء عن حفصة بنت سيرين ، عن أم عطية ، قالت بعث إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - شاة من الصدقة ، فبعثت إلى عائشة منها بشيء فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عائشة ، قال : هل عندكم من شيء ؟ قالت : لا ، إلا أن أم عطية بعثت إلينا من شاتها التي بعثتم بها إليها فقال : إنها قد بلغت محلها . كذا قال ابن علية ، وخالفه أبو شهاب فقال فيه : عن أم عطية ، قالت : بعثت إلى نسيبة الأنصارية بشاة ، وذكره .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أحمد بن عبد الله عن أبي شهاب عن [ ص: 106 ] خالد الحذاء عن حفصة بنت سيرين ، عن أم عطية ، قالت بعثت إلى نسيبة الأنصارية بشاة فأرسلت إلى عائشة منها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل عندكم شيء ؟ فقالت : لا ، إلا ما أرسلت به نسيبة من تلك الشاة ، قال : هات فقد بلغت محلها .

التالي السابق


الخدمات العلمية