التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1314 [ ص: 126 ] حديث سابع وثلاثون لزيد بن أسلم - مرسل يتصل من وجوه ثابتة .

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : التمر بالتمر مثلا بمثل فقيل له : إن عاملك على خيبر يأخذ الصاع بالصاعين ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ادعوه لي ، فدعي له ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أتأخذ الصاع بالصاعين ؟ فقال : يا رسول الله لا يبيعونني الجنيب بالجمع صاعا بصاع ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا .


[ ص: 127 ] هكذا رواه في الموطإ مرسلا ، ومعناه عند مالك متصل من حديثه ، عن عبد المجيد بن سهيل عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة جميعا ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والحديث ثابت محفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة وأبي سعيد .

[ ص: 128 ] ومن حديث بلال - أيضا - وغيرهم ، وقد رواه داود بن قيس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وفيه من الفقه أن التمر كله جنس واحد رديئه ، وطيبه ، ورفيعه ، ووضيعه لا يجوز التفاضل في شيء منه في معنى التمر بالتمر كل ما كان في معناه ، وكذلك التفاضل لا يجوز في الجنس الواحد من المأكولات المدخرات ، وهذا ، ومثله أصل في الربا .

وقد ذكرنا أصول الفقهاء في ذلك فيما تقدم من كتابنا هذا فأغنى عن الإعادة ههنا .

فالجنس الواحد من المأكولات يدخله الربا من وجهين لا يجوز بعضه ببعض متفاضلا ، ولا بعضه ببعض نسيئة هذا إذا كان مأكولا مدخرا عند مالك ، وأصحابه ، وعند الشافعي سواء .

كان المأكول مدخرا ، أو لا يدخر ، مثله القول فيه ما ذكرنا ، فأما النسيئة في بعض ذلك ببعض فمجتمع ، والتمر ، والبر دخل في معناهما كل ما يؤكل مما كان مثلهما ، وقد لخصنا هذا في غير هذا الموضع .

[ ص: 129 ] وسيأتي ذكر أصول الفقهاء فيما يدخله الربا مجودا في باب ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان - إن شاء الله - .

وفيه أن من لم يعلم بتحريم الشيء فلا حرج عليه حتى يعلم إذا كان الشيء مما يعذر الإنسان بجهله من علم الخاصة ، قال - عز وجل - : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ، والبيع إذا وقع محرما ، أو على ما لا يجوز فمفسوخ مردود ، وإن جهله فاعله ، قال - صلى الله عليه وسلم - : من عمل عملا على غير أمرنا فهو رد أي مردود فإن أدرك المبيع بعينه رد ، وإن فات رد مثله في المكيل ، والموزون ، ويفسخ البيع بين المتبايعين فيه ، وإن لم يكن مكيلا ، ولا موزونا فالقيمة فيه عند مالك أعدل ، وعند الشافعي وأبي حنيفة المثل أيضا في كل شيء إلا أن يعدم فينصرف فيه إلى القيمة .

وفي اتفاق الفقهاء على أن البيع إذا وقع بالربا مفسوخ أبدا ، دليل واضح على أن بيع عامل رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 130 ] وسلم - الصاعين بالصاع في هذا الحديث كان قبل نزول آية الربا ، وقبل أن يتقدم إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن التفاضل في ذلك ، ولهذا سأله عن فعله ليعلمه بما أحدث إليه فيه من حكمه ، ولذلك لم يأمر بفسخ ما لم تتقدم العبارة فيه ، - والله أعلم - .

وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر برد هذا البيع ، وذلك محفوظ من حديث بلال ، ومن حديث أبي سعيد الخدري أيضا روى منصور وقيس بن الربيع عن أبي حمزة عن سعيد بن المسيب عن بلال قال : كان عندي مزود من تمر دون قد تغير فابتعت تمرا أجود منه في السوق بنصف كيله بعته صاعين بصاع ، وأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : من أين لك ؟ هذا فحدثته بما صنعت ، فقال : هذا الربا بعينه ، انطلق فرده على صاحبه ، وخذ تمرك ، وبعه بحنطة ، أو شعير ، ثم اشتر من هذا التمر ، ثم ائتني به ففعلت ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : التمر بالتمر مثلا بمثل ، والحنطة بالحنطة مثلا بمثل ، والذهب بالذهب ، وزنا بوزن ، والفضة بالفضة ، وزنا بوزن فما كان من فضل فهو [ ص: 131 ] الربا فإذا اختلف فخذوا واحدا بعشرة .

وفيه تثبيت الوكالة ; لأن خيبر كان الأمر فيها إليه ، وعامله إنما تصرف في ذلك بالوكالة ، ويوضح لك ذلك حديث بلال المذكور في هذا الباب ، وحديث أبي سعيد ، وغيره .

حدثني سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا إبراهيم بن حمزة قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة وأبا سعيد حدثاه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أخا بني عدي بن النجار إلى خيبر فقدم عليه بتمر جنيب يعني طيبا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أكل تمر خيبر هكذا قال : لا يا رسول الله ، إنا لنشتري الصاع بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة من الجمع فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تفعل ، ولكن بع هذا [ ص: 132 ] واشتر من ثمنه هذا وكذلك الميزان .

وبإسناده عن عبد العزيز بن محمد عن عبد المجيد بن سهيل عن أبي صالح عن أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

أخبرني أحمد بن محمد بن أحمد قال : حدثنا وهب بن مسرة قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : قسم فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاما من التمر مختلفا ، بعضه أفضل من بعض ، قال : فذهبنا نتزايد فيه بيننا فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك إلا كيلا بكيل ، يدا بيد .

وحدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال : حدثنا الميمون بن حمزة الحسيني قال : حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال : [ ص: 133 ] حدثنا المزني قال : حدثنا الشافعي قال : حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل بصاع من تمر ، وأنا شاهد عنده ، فقال : من أين لك هذا ؟ هذا أطيب من تمرنا ، قال : أعطيت صاعين ، وأخذت صاعا من هذا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أربيت ، ولكن بع من تمرك بسلعة ، ثم ابتع بها ما شئت من التمر .

وحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا محمد بن سابق قال : حدثنا شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري قال : كنا نرزق تمر الجميع على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنا نبتاع صاعا بصاعين فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : لا صاعي تمر بصاع ، ولا صاعي حنطة [ ص: 134 ] بصاع ، ولا درهما بدرهمين .

حدثني عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا عبيد بن عبد الواحد البزار أبو محمد قال : حدثنا عثمان بن عمر قال : حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن مسروق عن بلال قال : كان عندي مد من تمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدت تمرا خيرا منه فاشتريت صاعا بصاعين فقال : رده ، ورد علينا تمرنا .

قال أبو عمر :

الحكم فيما يوزن إذا كان مما يؤكل ، أو يشرب كالحكم فيما يكال مما يؤكل ، أو يشرب سواء لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وأبي سعيد المذكور في هذا الباب ، ( وكذلك الميزان ) ، وهو أمر مجتمع عليه لا حاجة بنا إلى الكلام فيه فما ، وزن من [ ص: 135 ] المأكولات كلها جرى الربا فيها إذا كانت من جنس واحد في وجهي التفاضل والنسيئة ، فالتفاضل في الموزون الازدياد في الوزن كما أن التفاضل في المكيل الازدياد في الكيل ، وإذا اختلفت الأجناس ، وكانت موزونة مأكولة مطعومة فلا ربا فيها إلا في النسيئة كالذهب ، والورق ، والبر ، والفول ، وما كان مثل ذلك كله سواء . إلا عند من جعل العلة في الربا الكيل ، والوزن ( على ما قدمنا من اختلاف العلماء فيما سلف من كتابنا هذا ) ، وعلى ما يأتي من ذكر اختلافهم فيما يذكر في موضعه - إن شاء الله - تعالى - .

التالي السابق


الخدمات العلمية