التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1850 [ ص: 169 ] حديث حاد وأربعون لزيد بن أسلم - مرسل

يستند ، ويتصل من وجوه ثابتة من حديث مالك وغيره .

مالك عن زيد بن أسلم أنه قال : قدم رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن من البيان لسحرا ، أو إن بعض البيان لسحر .


هكذا رواه يحيى عن مالك عن زيد بن أسلم - مرسلا ، وما أظن أرسله عن مالك غيره ; وقد وصله جماعة عن مالك منهم القعنبي وابن وهب وابن القاسم وابن بكير وابن نافع ومطرف والتنيسي رووه كلهم عن مالك عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الصواب ، وسماع زيد بن أسلم من ابن عمر [ ص: 170 ] صحيح ، وقد تقدم القول في ذلك في كتابنا هذا في أول باب زيد بن أسلم .

حدثنا أبو محمد بن عبد الله بن محمد الجهني قال : حدثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان بن السكن الحافظ قال : حدثنا محمد بن يوسف قال : حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري قال : حدثنا عبد الله بن يوسف قال : أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال : قدم رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن من البيان لسحرا ، أو إن بعض البيان لسحر .

ورواه القطان - أيضا - عن مالك هكذا مسندا : حدثني عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى بن سعيد عن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال : قدم رجلان فخطبا فعجب الناس من بيانهما فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن من البيان لسحرا .

وهكذا رواه الثوري وابن عيينة وزهير بن محمد عن زيد بن أسلم عن ابن عمر إلا أن في روايتهم : فخطبا ، أو خطب أحدهما ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 171 ] وسلم قوله : إن من البيان لسحرا من وجوه غير هذا من حديث عمار ، وغيره . واختلف في المعنى المقصود إليه بهذا الخبر فقيل قصد به إلى ذم البلاغة إذ شبهت بالسحر ، والسحر محرم مذموم ، وذلك لما فيها من تصوير الباطل في صورة الحق ، والتفيهق ، والتشدق ، وقد جاء في الثرثارين المتفيهقين ما جاء من الذم ، وإلى هذا المعنى ذهب طائفة من أصحاب مالك ، واستدلوا على ذلك بإدخال مالك له في موطئه في باب ما يكره من الكلام ، ( وأبى جمهور أهل الأدب ، والعلم بلسان العرب إلا أن يجعلوا قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن من البيان لسحرا مدحا ، وثناء ، وتفضيلا للبيان ، وإطراء ، وهو الذي تدل عليه سياقة الخبر ولفظه على ما نورده في هذا الباب - إن شاء الله - .

روى علي بن حرب الموصلي ، عن أبي سعيد الهيثم بن محفوظ ، عن أبي المقوم يحيى بن ثعلبة الأنصاري ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : اجتمع عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قيس بن عاصم ، والزبرقان بن بدر ، وعمرو بن الأهتم ففخر الزبرقان فقال : يا رسول الله أنا [ ص: 172 ] سيد تميم المطاع فيهم ، والمجاب منهم ; آخذ لهم بحقوقهم ، وأمنعهم من الظلم ، وهذا يعلم ذلك - يعني عمرو بن الأهتم - فقال عمرو : وإنه لشديد العارضة ، مانع لجانبه ، مطاع في أدانيه ، فقال الزبرقان : والله لقد كذب يا رسول الله ، وما يمنعه أن يتكلم إلا الحسد فقال عمرو : أنا أحسدك فوالله لبئيس الخال ، حديث المال ، أحمق الوالد ، مبغض في العشيرة ، والله يا رسول الله ما كذبت فيما قلت أولا ، ولقد صدقت فيما قلت آخرا رضيت فقلت أحسن ما علمت ، وغضبت فقلت أقبح ما وجدت ، ولقد صدقت في الأمرين جميعا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن من البيان لسحرا .

( وروى حماد بن زيد ، عن محمد بن الزبير ، قال : قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزبرقان بن بدر ، وعمرو بن الأهتم ، وقيس بن عاصم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو : أخبرني عن الزبرقان فقال : هو مطاع في ناديه ، شديد العارضة ، مانع لما وراء ظهره ، قال الزبرقان : هو والله يا رسول الله يعلم أني أفضل منه ، فقال عمرو : [ ص: 173 ] إنه لزمر المروءة ضيق العطن ، أحمق الأب ، لئيم الخال يا رسول الله ، صدقته الأولى وما كذبته في الأخرى ، أرضاني فقلت أحسن ما علمت ، وأسخطني فقلت أسوأ ما علمت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن من البيان لسحرا .

وذكر جماعة من أهل الأخبار منهم المدائني ، وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعمرو بن الأهتم : أخبرني عن الزبرقان بن بدر فقال : هو مطاع في أدانيه ، شديد العارضة ، مانع لما وراء ظهره ، فقال الزبرقان : يا رسول الله إنه ليعلم مني أكثر من هذا ، ولكنه حسدني فقال عمرو : أما والله يا رسول الله إنه لزمر المروءة ، ضيق العطن ، أحمق ، لئيم الخال ، ما كذبت في الأولى ، ولقد صدقت في الآخرة ، رضيت فقلت أحسن ما علمت ، وسخطت فقلت أسوأ ما علمت ، فقال : رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 174 ] وسلم - إن من البيان لسحرا وفي هذا دليل على مدح البيان ، وفضل البلاغة ، والتعجب بما يسمع من فصاحة أهلها ، وفيه المجاز ، والاستعارة الحسنة ; لأن البيان ليس بسحر على الحقيقة .

وفيه الإفراط في المدح ; لأنه لا شيء في الإعجاب ، والأخذ بالقلوب يبلغ مبلغ السحر ، وأصل لفظة السحر عند العرب الاستمالة ، وكل من استمالك فقد سحرك ، وقد ذهب هذا القول منه - صلى الله عليه وسلم - مثلا سائرا في الناس إذا سمعوا كلاما يعجبهم ، قالوا إن من البيان لسحرا ، ويقولون في مثل هذا أيضا هذا السحر الحلال ، ونحو ذلك قد صار هذا مثلا - أيضا - وروي أن سائلا سأل عمر بن عبد العزيز حاجة بكلام أعجبه فقال عمر : هذا والله السحر الحلال ، وقال ابن الرومي عفا الله عنه في هذا المعنى فأحسن :

[ ص: 175 ]

وحديثها السحر الحلال لو أنها لم تجن قتل المسلم المتحرز     إن طال لم يملل وإن هي أوجزت
ود المحدث أنها لم توجز     شرك العقول ونزهة ما مثلها
للسامعين وعقلة المستوفز



ومن هذا ما أنشدني يوسف بن هارون في قصيدة له :


نطقت بسحر بعدها غير أنه     من السحر ما لم يختلف في حلاله
كذاك ابن سيرين بنفثة يوسف     تكلم في الرؤيا بمثل مقاله



وفي هذا الحديث ما يدل على أن التعجب من الإحسان والبيان ، موجود في طباع ذوي العقول والبلاغة ، وكان - صلى الله عليه [ ص: 176 ] وسلم - قد أوتي جوامع الكلم إلا أنه بإنصافه كان يعرف لكل ذي فضل فضله .

وفي هذا ما يدل على أن أبصر الناس بالشيء أشدهم فرحا بالجيد منه ما لم يكن حسودا ; وإنما يحمد العلماء البلاغة ، واللسانة ما لم يخرج إلى حد الإسهاب ، والإطناب ، والتفيهق ، فقد روي في الثرثارين المتفيهقين أنهم أبغض الناس إلى الله ، ورسوله .

وهذا - والله أعلم - إذا كان ممن يحاول تزيين الباطل ، وتحسينه بلفظه ، ويريد إقامته في صورة الحق ، فهذا هو المكروه الذي ورد فيه التغليظ .

وأما قول الحق فحسن جميل على كل حال ، كان فيه إطناب أو لم يكن ، إذا لم يتجاوز الحق ، وإن كنت أحب أوساط الأمور فإن ذلك أعدلها ، والذي اتفق العلماء باللغة في مدحه من البلاغة ، والإيجاز ، والاختصار ، وإدراك المعاني الجسيمة بالألفاظ اليسيرة ، ويقال : إن الرجلين اللذين خطبا ، أو أحدهما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المذكورين في هذا الحديث عمرو بن الأهتم ، والزبرقان بن بدر .

[ ص: 177 ] قال أبو عمر :

أما قوله : لزمر : فالزمر القليل أراد قليل المروءة ، والعطن الفناء ، وقوله : ضيق العطن كناية عن البخل .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا محمد بن يزيد ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن مالك بن مغول ، قال : كان زيد بن إياس يقول للشعبي : يا مبطل الحاجات يعني أنه يشغل جلساءه عن حوائجهم بحسن حديثه .

حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد ، قال : حدثنا أحمد بن سعيد ، قال : حدثنا أبو الحسن : محمد بن عبد الله بن سعيد المهراني ، قال : حدثنا يزيد بن محمد المهلبي ، قال : حدثنا العتبي عمن حدثه ، قال : كان الشعبي إذا سمع حديثا ، ورده فكأنه زاد فيه من تحسينه للفظه فسمع يوما حديثا ، وقد سمعه معه جليس له يقال له : رزين فرده الشعبي ، وحسنه فقال له رزين : اتق الله يا أبا عمرو ليس هكذا الحديث فقال ( له ) الشعبي : يا رزين ما كان أحوجك إلى محدرج شديد [ ص: 178 ] الجلد لين المهزة عظيم الثمرة أخذ ما بين مغرز عنق إلى عجب ذنب يوضع منك في مثل ذلك فتكثر له رقصاتك من غير جذل ، فلم يدر ما قال له فقال : وما ذاك ؟ قال : شيء لنا فيه أرب ، ولك فيه أدب .

ومن أحسن ما قيل في مدح البلاغة من النظم ، قول حسان بن ثابت في ابن عباس :


صموت إذا ما الصمت زين أهله     وفتاق أبكار الكلام المختم
وعى ما وعى القرآن من كل حكمة     ونيطت له الآداب باللحم والدم



وقال ثعلب : لا أعرف في حسن صفة الكلام أحسن من هذين البيتين ، وهما لعدي بن الحارث التيمي :

[ ص: 179 ]

كأن كلام الناس جمع عنده     فيأخذ من أطرافه يتخير
فلم يرض إلا كل بكر ثقيلة     تكاد بيانا من دم الجوف تقطر



قال أبو عمر :

البيتان اللذان قبلهما خير منهما ، ولحسان أيضا في ابن عباس - رضي الله عنه - ويروى للحطيئة :


إذا قال لم يترك مقالا لقائل     بمنتظمات لا ترى بينها فصلا
يقول مقالا لا يقولون مثله     كنحت الصفا لم يبق في غاية فضلا
وشفى ما في النفوس فلم يدع     لذي إربة في القول جدا ولا هزلا



- في أبيات له .

[ ص: 180 ] ولغيره فيه أيضا :


إذا قال لم يترك صوابا ولم يقف     بعي ولم يثن اللسان على هجر



وقال بكر بن سوادة في خالد بن صفوان :


عليم بتنزيل الكلام ملقن     ذكور لما سداه أول أولا
ترى خطباء الناس يوم ارتجاله     كأنهم الكروان عاين أجدلا



أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ، قال : حدثنا سعيد بن محمد ، قال : حدثنا أبو تميلة ، قال : حدثنا أبو جعفر النحوي عبد الله بن ثابت ، قال : حدثني صخر بن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، عن جده ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن من البيان سحرا ، وإن من العلم جهلا ، وإن من الشعر حكما [ ص: 181 ] وإن من القول عيالا . فقال صعصعة بن صوحان : صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما قوله : إن من البيان سحرا فالرجل يكون عليه الحق فهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق .

وأما قوله : إن من العلم جهلا فتكلف العالم إلى علمه ما لا يعمله فيجهله ذلك .

وأما قوله : إن من الشعر حكما ، فهي هذه المواعظ التي يتعظ بها الناس .

وأما قوله : إن من القول عيالا فعرضك كلامك ، وحديثك على من ليس من شأنه ، ولا يريده
.

قال أبو عمر :

قوله - صلى الله عليه وسلم - إن من الشعر حكما أراد حكمة ، وذلك نحو قوله : - عز وجل - أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة يعني الحكمة ، والنبوة ، وهذا أعرف ، وأشهر من أن يحتاج إلى شاهد ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية