التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1788 [ ص: 287 ] حديث سادس وأربعون لزيد بن أسلم - مرسل

مالك ، عن زيد بن أسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يسلم الراكب على الماشي ، وإذا سلم من القوم واحد أجزأ عنهم .


لا خلاف بين رواة الموطأ في إرسال هذا الحديث هكذا .

( وفي هذا الباب حديث علي بن أبي طالب مسند ، وسنذكره فيه - إن شاء الله - ) ، وزعم البزار أن فيه عن أبي هريرة ، وهو حديث بين المعنى ، مستغن عن التأويل إلا أن الفقهاء اختلفوا في القول به فقال مالك والشافعي ، وأصحابهما ، وهو قول أهل المدينة : إذا سلم رجل على جماعة من الرجال فرد عليه واحد منهم أجزأ عنهم ، وشبهه الشافعي - رحمه الله - بصلاة الجماعة ، والتفقه في دين الله ، وغسل الموتى ، [ ص: 288 ] ودفنهم ، والصلاة عليهم ، وبالسفر إلى أرض العدو لقتالهم ، قال : هذه كلها فروض على الكفاية ، إذا قام بشيء منها بعض القوم أجزأ عن غيرهم .

قال أبو عمر :

الحجة في فرض رد السلام قول الله - عز وجل - : وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ، والحجة في أن هذا الفرض لا يتعين في هذه المسألة ، حديث زيد بن أسلم هذا ، وقال أبو جعفر الأزدي الطحاوي : حدثنا سليمان بن شعيب ، عن أبيه ، عن أبي يوسف أنه كان ينكر الحديث الذي روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ( قال ) : إذا رد السلام بعض القوم أجزأ عن الجميع ، وقال : لا يجزئ إلا أن يردوا جميعا . قال أبو جعفر : ولا نعلم في هذا الباب شيئا روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير حديث مالك عن زيد بن أسلم ، وشيء روي فيه عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وكلا الوجهين لا يحتج به ، قال : وحديث زيد بن أسلم إنما فيه إذا سلم من القوم واحد أجزأ عنهم ، قال : وإنما هو ابتداء السلام ، وابتداء [ ص: 289 ] السلام خلاف رد السلام ; لأن السلام المبتدأ تطوع ، ورده فريضة ، قال : وليس هو من الفروض التي على الكفاية ; لأنه لو كان مع القوم نصراني دون أحد من المسلمين لم يسقط ذلك عنهم فرض السلام ، فدل على أن فرض السلام من الفروض المتعينة التي تلزم كل إنسان بنفسه .

قال أبو عمر :

أما قوله : إن حديث زيد بن أسلم هذا معناه الابتداء ، فغير مسلم له ما ادعاه من ذلك ، وظاهر الحديث يدل على خلاف ما تأول فيه ، وذلك قوله : أجزأ عنهم ; لأنه لا يقال : أجزأ عنهم إلا فيما قد وجب عليهم ، والابتداء بالسلام ليس بواجب عند الجميع ، ولكنه سنة ، وخير ، وأدب ، والرد واجب عند جميعهم ، فاستبان بقوله : أجزأ عنهم أنه أراد بالحديث الرد ، - والله أعلم - .

هذا وجه الحديث فبطل ما تأول الطحاوي ، وصح ما ذهب إليه فقهاء الحجاز .

وأما قوله : فإنه لا يروى في هذا غير حديث زيد بن أسلم ، وحديث أبي النضر ، وهما منقطعان فليس كما قال عندنا ، وقد روينا [ ص: 290 ] بإسناد متصل من حديث علي بن أبي طالب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى ما ذهب إليه مالك ، والشافعي ، ومن قال بقولهم : حدثنا خلف بن القاسم الحافظ ، قال : حدثنا الحسن بن رشيق ، قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس ، قال : حدثنا عبد الأعلى بن حماد ، قال : حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي ، قال : حدثنا سعيد بن خالد ، قال : حدثني عبد الله بن الفضل ، عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي بن أبي طالب ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يجزئ من الجماعة إذا مرت أن يسلم أحدهم ، ويجزئ عن القعود أن يرد أحدهم .

ففي هذا الحديث بيان موضع الخلاف ، وقطع التنازع ; لأنه سوى بين الابتداء ، والرد ، وجعل ذلك على الكفاية ، وهو حديث حسن لا معارض له ، وسعيد بن خالد هذا هو سعيد بن خالد الخزاعي مدني ليس به بأس عند بعضهم ، وقد ضعفه جماعة منهم أبو زرعة ، وأبو حاتم ، ويعقوب بن شيبة ، وجعلوا حديثه هذا منكرا ; لأنه انفرد فيه بهذا الإسناد على أن عبد الله بن الفضل لم يسمع من عبيد الله بن أبي رافع ، بينهما الأعرج في غير ما حديث ، [ ص: 291 ] فالله أعلم ، وسائر الإسناد أشهر من أن يحتاج إلى ذكرهم . وذكر أبو داود هذا الخبر عن الحسن الحلواني ، عن عبد الملك بن إبراهيم الجدي ، عن سعيد بن خالد الخزاعي بإسناده مثله .

وقد روى ابن جريج هذا الخبر عن زيد بن أسلم بهذا المعنى مكشوفا : حدثنيه عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا يوسف بن عدي ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن ابن جريج ، عن زيد بن أسلم ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا مر القوم على المجلس فسلم منهم رجل ، أجزأ ذلك عنهم ، وإذا رد من أهل المجلس رجل أجزأ ذلك عنهم .

قال أبو عمر :

روي في هذا الباب عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يصح بهذا المعنى فيه شيء غير ما ذكرنا ، - والله أعلم - حدثنا أحمد بن قاسم ، وعبد الوارث ، قالا : حدثنا قاسم ، حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا ابن جريج ، قال : [ ص: 292 ] حدثنا الوليد أنه سمع جابر بن عبد الله يقول ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يسلم الراكب على الماشي ، والماشي على القاعد ، والماشيان أيهما بدأ بالسلام فهو أفضل ، وبهذا الإسناد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني زياد أن مولى عبد الرحمن بن زيد أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يسلم الراكب على الماشي ، والماشي على القاعد ، والقليل على الكثير .

ومعنى قوله : أجزأ في الابتداء أي أجزأ في السنة المندوب إليها ، كما يقال : من أتى الوليمة أجزأه التبريك والدعاء إذا كان صائما ; وإنما قلنا هذا بدليل إجماعهم على أن الابتداء بالسلام سنة ، وأن الرد فرض على ما ذكرنا من اختلافهم في تعيينه وكفايته ، والابتداء ليس كذلك عند جميعهم : أخبرنا عبد الرحمن ، حدثنا علي ، حدثنا أحمد ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب ، قال : حدثني جرير بن حازم ، عن سليمان بن مهران ، عن زيد بن وهب ، عن ابن مسعود ، قال : السلام اسم من أسماء الله - عز وجل - وضعه في الأرض فافشوه بينكم ، فإن الرجل إذا سلم على القوم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة ; لأنه ذكرهم ، فإن لم يردوا عليه رد [ ص: 293 ] عليه من هو خير منهم وأطيب . قال : وأخبرني أسامة بن زيد ، عن نافع ، قال : كنت أساير رجلا من فقهاء الشام يقال له : عبد الله بن أبي زكرياء فحبستني دابتي تبول ، ثم أدركته ، ولم أسلم ، فقال : ألا تسلم ؟ فقلت : إنما كنت معك آنفا ، فقال : وإن ، لقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتسايرون فتفرق بينهم الشجرة فإذا التقوا سلم بعضهم على بعض ، وقال ابن عباس ، وابن عمر : انتهى السلام إلى البركة كما ذكر الله - عز وجل - عن صالح عباده رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ، وكانا يكرهان أن يزيد أحد في السلام على قوله : وبركاته ، والله الموفق للصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية