التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1747 [ ص: 233 ] حديث أول لابن شهاب عن أبي أمامة متصل

مالك عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه قال : رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف يغتسل فقال : ما رأيت كاليوم ، ولا جلد مخبأة ، فلبط بسهل ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل : يا رسول الله ، هل لك في سهل بن حنيف والله ما يرفع رأسه . فقال : هل تتهمون له أحدا ؟ قالوا : نتهم عامر بن ربيعة قال : فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامر ( بن ربيعة ) فتغيظ عليه ، وقال : علام يقتل أحدكم أخاه ؟ ألا بركت ؟ اغتسل له . فغسل عامر وجهه ( ويديه ) ومرفقيه [ ص: 234 ] وركبتيه ، وأطراف رجليه ، وداخلة إزاره في قدح ، ثم صب عليه فراح سهل مع الناس ليس به بأس .


قال أبو عمر :

ليس في حديث مالك هذا في غسل العائن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من قوله : اغتسل له .

وفيه كيفية الغسل من فعل عامر بن ربيعة ورواه معمر عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال : رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف وهو يغتسل فتعجب منه فقال : تالله إن رأيت كاليوم ، ولا جلد مخبأة في خدرها ، أو قال : جلد فتاة في خدرها ، قال : فلبط حتى ما يرفع رأسه ، قال : فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : هل تتهمون أحدا ، قالوا : لا يا رسول الله ، إلا أن عامر بن ربيعة قال له كذا وكذا ، فدعا عامرا فقال : سبحان الله‍‍‍ ، علام يقتل أحدكم أخاه ؟ إذا رأى منه شيئا يعجبه فليدع له بالبركة ، قال : ثم أمره فغسل وجهه وظهر عقبيه ومرفقيه وغسل صدره وداخلة إزاره وركبتيه وأطراف قدميه ظاهرهما في الإناء ، ثم أمره فصب على رأسه وكفأ [ ص: 235 ] الإناء من خلفه ، قال : وأمره فحسا منه حسوات ، قال : فقام فراح مع الركب ، قال جعفر بن برقان للزهري ما كنا نعد هذا حقا ، قال : بل هي السنة .

قال أبو عمر :

أما غريب هذا الحديث ، فالمخبأة ، مهموز من : خبأت الشيء : إذا سترته ، وهي المخدرة المكنونة التي لا تراها العيون ، ولا تبرز للشمس فتغيرها يقول : إن جلد سهل كجلد الجارية المخدرة ؛ إعجابا بحسنه ، قالعبد الله بن قيس الرقيات :


ذكرتني المخبآت لدى الحجر ينازعنني سجوف الحجال



وقال إبراهيم بن هرمة :


يا لك من خلة مباعدة     تكتم أسرارها وتخبؤها



ولبط : صرع وسقط . تقول منه : لبط به يلبط لبطا فهو [ ص: 236 ] ملبوط ، وقال ابن وهب : لبط : وعك ، قال الأخفش : يقال : لبط به ولبج به : إذا سقط إلى الأرض من خبل أو سكر أو إعياء أو غير ذلك ، وقال ابن وهب في قوله : داخلة إزاره : هو الحقو يجعل من تحت الإزار في حقوه ، وهو طرف الإزار ( الذي تعطفه إلى يمينك ) ثم تشد عليه الأزرة ، قال : وهذا قول مالك وفسره ابن حبيب بنحو ذلك أيضا ، قال : داخلة الإزار هو الطرف المتدلي الذي يضعه المؤتزر أولا على حقوه الأيمن ، وقالالأخفش : داخلة إزاره : الجانب الأيسر من الإزار الذي تعطفه إلى يمينك ، ثم تشد الإزار ، وقال أبو عبيد : طرف إزاره : الداخل الذي يلي جسده ، وهو يلي الجانب الأيمن من الرجل ، لأن المؤتزر إنما يبدأ بجانبه الأيمن فذلك الطرف يباشر جسده فهو الذي يغسل .

قال أبو عمر :

الإزار هو المئزر عندنا فما التصق منه بخصره [ ص: 237 ] وسرته فهو داخلة إزاره . وأما ما في هذا الحديث من المعنى ، ففيه الاغتسال بالعراء في السفر ، وذلك بين في غير هذه الرواية في هذا الحديث ، وفيه أن النظر إلى المغتسل مباح إذا لم ينظر منه إلى عورة ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل لعامر لم نظرت إليه . وإنما عاتبه على ترك التبريك ، وقد يستحب العلماء أن لا ينظر الإنسان إلى المغتسل خوفا أن تقع عين الناظر منه على عورة ، وليس بمحرم النظر منه إلى غير عورة ، وفيه ما يدل على أن في طباع البشر الإعجاب بالشيء الحسن ، والحسد عليه ، وهذا لا يملكه المرء من نفسه ، فلذلك لم يعاتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ، وإنما عاتبه على ترك التبريك الذي كان في وسعه وطاقته . وفيه أن العين حق ، وأنها تصرع وتردي وتقتل ، وقد روي في حديث سهل هذا أن العين حق من حديث مالك عن محمد بن أبي أمامة عن أبيه . وروي من غير حديث مالك أيضا :

حدثنا قاسم بن محمد قال : حدثنا خالد بن سعد قال : حدثنا أحمد بن عمرو قال : حدثنا محمد بن سنجر قال : حدثنا يحيى بن عبد الحميد قال : حدثنا عبد الرحمن [ ص: 238 ] بن سليمان بن الغسيل قال : حدثنا مسلمة بن خالد الأنماري قال : سمعت أبا أمامة بن سهل بن حنيف يقول : حدثني أبي سهل بن حنيف أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : علام يقتل أحدكم أخاه ، وهو عن قتله غني ؟ إن العين حق ، فإذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه ، أو من ماله ، فليبرك عليه ، فإن العين حق ، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - علام يقتل أحدكم أخاه دليل ( على ) أن العين ربما قتلت وكانت سببا من أسباب المنية .

أخبرنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني حدثنا محمد بن بشار حدثنا مؤزر حدثنا سفيان حدثنا حصين عن هلال بن يساف عن سحيم بن نوفل قال : كنا عند عبد الله نعرض المصاحف فجاءت جارية أعرابية إلى رجل منا فقالت [ ص: 239 ] إن فلانا قد لقع مهرك بعينه وهو يدور في فلك لا يأكل ولا يشرب ولا يبول ولا يروث ، فالتمس له راقيا فقال عبد الله : لا تلتمس له راقيا ، ولكن ائته ، فانفخ في منخره الأيمن أربعا ، وفي الأيسر ثلاثا وقل لا بأس ، أذهب الباس رب الناس اشف أنت الشافي , لا يكشف الضر إلا أنت فقام الرجل فانطلق فما برحنا حتى رجع فقال لعبد الله فعلت الذي أمرتني به فما برحت حتى أكل وشرب ( وبال ) وراث .

وحكى المدائني عن الأصمعي قال : حج هشام بن عبد الملك فأتى المدينة فدخل عليه سالم بن عبد الله بن عمر فلما خرج من عنده ، قال هشام : ما رأيت ابن سبعين أحسن كدنة منه ، فلما صار سالم في منزله حم فقال : أترون الأحول لقعني بعينيه ؟ فما خرج هشام من المدينة حتى صلى عليه ، وقد ذكرت في باب محمد بن أبي أمامة من هذا الكتاب زيادة في هذا المعنى وشرحا ، والحمد لله .

وفي تغيظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عامر بن ربيعة دليل على أن تأنيب كل من كان منه أو بسببه سوء وتوبيخه مباح وإن كان الناس كلهم يجرون [ ص: 240 ] تحت القدر , ألا ترى أن القاتل يقتل ، وإن كان المقتول يموت بأجله . وذكر الحسن بن علي الحلواني قال : حدثنا عبد الصمد قال : حدثنا أبو هاشم صاحب الزعفراني قال : قلت للحسن رجل قتل رجلا أبأجله قتله ؟ قال : قتله بأجله وعصى ربه .

قال أبو عمر :

وكذلك يوبخ كل من كان منه أو بسببه سوء ، وإن كان القدر قد سبق له بذلك ، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - في غير هذا الحديث : لو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين دليل على أن المرء لا يصيبه إلا ما قدر له وأن العين لا تسبق القدر ، ولكنها من القدر ، وفي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا بركت ؟ دليل على أن العين لا تضر ولا تعدو إذا برك العائن ، وأنها إنما تعدو إذا لم يبرك ، فواجب على كل من أعجبه شيء أن يبرك فإنه إذا دعا بالبركة صرف [ ص: 241 ] المحذور لا محالة ، والله أعلم .

والتبريك أن يقول : تبارك الله أحسن الخالقين ، اللهم بارك فيه .

وفيه أن العائن يؤمر بالاغتسال للذي عانه ، ويجبر ( عندي ) على ذلك إن أباه ، لأن الأمر حقيقته الوجوب ، ولا ينبغي لأحد أن يمنع أخاه ما ينتفع به ولا يضره هو ، لا سيما إذا كان بسببه وكان الجاني عليه ، فواجب على العائن الغسل عندي ، والله أعلم .

وفيه إباحة النشرة وإباحة عملها ، وقد قال الزهري في ذلك : إن هذا من العلم ، وإذا كانت مباحة فجائز أخذ البدل عليها ، وهذا إنما يكون إذا صح الانتفاع بها فكل ما لا ينتفع به بيقين فأكل المال عليه باطل ( محرم ) وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالنشرة للمعين ، وجاء ذلك عن جماعة من أصحابه ، منهم سعد بن أبي وقاص خرج يوما وهو أمير الكوفة ، فنظرت إليه امرأة فقالت إن أميركم هذا لأهضم الكشحين ( فعانته ) فرجع إلى منزله فوعك ، ثم إنه بلغه ما قالت ، فأرسل إليها فغسلت له أطرافها ثم اغتسل ( به ) فذهب ( ذلك ) عنه . وأحسن شيء في تفسير الاغتسال [ ص: 242 ] للمعين ما وصفه الزهري وهو راوي الحديث ، ذكر ذلك عنه ابن أبي ذئب وغيره : حدثنا أبو عثمان سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا شبابة عن ابن أبي ذئب ( عن الزهري ) عن أبي أمامة بن سهل عن أبيه أن عامرا مر به ، وهو يغتسل فقال : ما رأيت كاليوم ، ولا جلد مخبأة ، قال : فلبط به حتى ما يعقل لشدة الوجع . فأخبر بذلك , النبي - صلى الله عليه وسلم - فتغيظ عليه فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : قتلته , علام يقتل أحدكم أخاه ؟ ألا بركت ؟ فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال : اغسلوه ، فاغتسل فخرج مع الركب ، قال : وقال الزهري : إن هذا من العلم , يغتسل له الذي عانه يؤتى بقدح من ماء فيدخل يده في القدح فيمضمض ويمجه في القدح ويغسل وجهه في القدح ، ثم يصب بيده اليسرى على كفه اليمنى ، ثم بكفه اليمنى على كفه اليسرى ، ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على مرفق يده اليمنى ، ثم بيده اليمنى على مرفق [ ص: 243 ] يده اليسرى ، ثم يغسل قدمه اليمنى ، ثم يدخل اليمنى فيغسل قدمه اليسرى ، ثم يدخل يده اليمنى فيغسل الركبتين ، ثم يأخذ داخلة إزاره فيصب على رأسه صبة واحدة ، ولا يضع القدح حتى يفرغ . وزاد ابن حبيب في قول الزهري هذا حكاه عن الحنفي عن ابن أبي ذئب عن الزهري يصب من خلفه صبة واحدة يجري على جسده ، ولا يوضع القدح في الأرض ، قال : ويغسل أطرافه المذكورة ( كلها ) وداخلة إزاره في القدح .

حدثني عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا عبد الحميد بن أحمد الوراق ببغداد ، قال : حدثنا الخضر بن داود قال : حدثنا أبو بكر الأثرم قال : سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يسأل عن رجل يزعم أنه يحل السحر , يؤتى بالمسحور فيحل عنه . فقال : قد رخص فيه بعض الناس ، وما أدري ما هذا ؟ [ ص: 244 ] قال الأثرم : حدثنا حفص بن عمر النمري قال : حدثنا هشام عن قتادة عن سعيد بن المسيب في الرجل يؤخذ عن امرأته فيلتمس من يداويه ، قال : إنما نهى الله عما يضر ، ولم ينه عما ينفع . قوله : يؤخذ عن امرأته أي النساء ( قال ) : والأخذة رقية تأخذ العين .

أخبرنا محمد بن إبراهيم حدثنا أحمد بن مطرف حدثنا سعيد بن عثمان حدثنا نصر بن مرزوق حدثنا يحيى بن حسان قال : حدثنا عبد الله بن لهيعة عن أبي الزبير المكي قال : سألت جابر بن عبد الله عن الرجل يأبق له العبد أيؤخذ ، قال : نعم ، أو قال : لا بأس ( به ) . قال : وحدثنا يحيى بن حسان حدثنا محمد بن دينار عن محمد بن سيف أبي رجاء قال : سمعت محمد بن سيرين يحدث عن ابن عمر قال : الأخذة ( هي ) السحر ، قال : حدثنا يحيى بن حسان قال : حدثنا محمد بن دينار عن أبي رجاء محمد بن سيف قال : سألت الحسن عن الأخذة ففزع ، وقال لعلك صنعت من ذلك شيئا ؟ قلت : لا ، قال : حدثنا يحيى بن حسان قال : حدثنا محمد بن دينار عن عمرو بن عوف عن إبراهيم [ ص: 245 ] عن الأسود قال : سألت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النشرة ( فقالت ) ما تصنعون بالنشرة ، والفرات إلى جانبكم ينغمس فيه ( أحدكم ) سبع انغماسات إلى جانب الجرية ؟ قال : حدثنا يحيى بن حسان قال : حدثنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب أنه سئل عن الرجل يأبق له العبد أيؤخذه ؟ فقال سعيد بن المسيب : قد وخذنا فما رد علينا شيء ، أو : رد علينا شيئا .

وأخبرنا عبد الرحمن حدثنا علي حدثنا أحمد حدثنا سحنون حدثنا ابن وهب قال : أخبرني محمد بن عمرو عن ابن جريج قال : سألت عطاء بن أبي رباح عن النشرة فكره نشرة الأطباء ، وقال : لا أدري ما يصنعون فيها ، وأما شيء تصنعه أنت فلا بأس به ، قال ابن وهب : وأخبرني يحيى بن أيوب أنه سمع يحيى بن سعيد يقول : ليس بالنشرة التي يجمع فيها من الشجر والطيب ويغتسل به الإنسان بأس ، وذكر سنيد [ ص: 246 ] قال : حدثنا أبو سفيان عن معمر . وذكره عبد الرزاق عن معمر قال : سمعت عبد الله بن طاوس يحدث عن أبيه ، قال : العين حق ، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين ، وإذا استغسل أحدكم فليغتسل . أخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال : حدثنا أحمد بن إبراهيم بن جامع قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا وهيب قال : حدثنا طاوس عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : العين حق ، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين ، وإذا استغسلتم فاغتسلوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية