التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1805 [ ص: 247 ] حديث ثان لابن شهاب عن أبي أمامة متصل

مالك عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عبد الله بن عباس عن خالد بن الوليد أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت ميمونة ( زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ) فأتي ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) بضب محنوذ ، فأهوى إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( بيده ) فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة : أخبروا رسول الله بما يريد أن يأكل منه . فقالوا : هو ضب ( يا رسول الله ) فرفع ( رسول الله ) يده ، فقلت : أحرام هو يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه ، قال خالد : فاجتررته ، فأكلته ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر


[ ص: 248 ] هكذا قال يحيى بن يحيى : عن ابن عباس عن خالد بن الوليد وتابعه القعنبي وابن القاسم وجماعة من أصحاب مالك وقال ابن بكير : عن ابن عباس وخالد بن الوليد أنهما دخلا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت ميمونة وتابعه قوم ، وكذلك رواه معمر عن الزهري أن ابن عباس وخالدا شهدا هذه القصة بنحو رواية ابن بكير ولم تختلف نسخ الموطإ في إسناد هذا الحديث عن مالك عن ابن شهاب ( عن أبي أمامة عن ابن عباس ورواه عثمان بن عمر فأخطأ في إسناده جعله عن مالك عن ابن شهاب ) عن عبيد الله عن ابن عباس : حدثنا خلف بن قاسم حدثنا علي بن حسن بن علان ومحمد بن عبد الله القاضي قالا : حدثنا عبد الله بن سليمان حدثنا عباد بن زياد الساجي حدثنا عثمان بن عمر أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد بن عتبة عن ابن عباس قال : دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت ميمونة ، ومعه خالد بن الوليد فأتي بضب ، فأهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ، فقال بعض النسوة : إنه ضب ، فرفع يده [ ص: 249 ] فقيل ( له ) : أحرام هو يا رسول الله ؟ قال لا ، ولكنه لم يكن بأرض قومي ، فأجدني أعافه ، قال : فأما خالد فأكله ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر . ( وذكره الدارقطني عن محمد بن سليمان المالكي القاضي بالبصرة ، عن بندار عن عثمان بن عمر ) وذكره الدارقطني أيضا عن إسماعيل بن محمد الصفار عن أبي داود السجستاني عن عباد بن زياد عن عثمان بن عمر ( مثله ) سواء . والضب دويبة معروفة بأرض اليمن ، وليس موجودا بمكة لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لم يكن بأرض قومي وأظنه بالحجاز كله غير مأكول أيضا عندهم ، ولا موجودا . ألا ترى إلى ما نقله جماعة أهل الأخبار أن مدنيا سأل أعرابيا فقال : أتأكلون الضب ؟ فقال : نعم ، قال : واليربوع ؟ قال : نعم ، قال : والقنفذ ؟ قال : نعم [ ص: 250 ] قال : والورل ؟ قال : نعم ، قال : فتأكلون أم حبين ؟ قال : لا ، قال : فليهنئ أم حبين العافية . ومما يدلك على أن الضب لا يوجد إلا في بعض أرض العرب قول بعض بني تميم :

لكسرى كان أعقل من تميم ليالي فر من أرض الضباب

وقال غيره :

بلاد تكون الخيم أظلال أهلها     إذا حضروا بالقيظ والضب نونها

وقد ذكرنا صفته بما لا يشكل من كلام العرب وأشعارها في باب عبد الله بن دينار من هذا الكتاب ، وذكرنا هناك أيضا من الآثار المنقولة في مسخه ما فيه كفاية وبيان ، والحمد لله . [ ص: 251 ] والمحنوذ المشوي في الأرض ، وذلك أن العرب كانت تحفر حفرة وتوقد فيها النار ، فإذا حميت وضع ذلك الشيء الذي يشوى في الحفيرة ودفن فهو الحنيذ عندهم ، وقد قيل : إنما يوضع في التنور إذا غطي وطين عليه حنيذ أيضا . يقال : حنيذ ومحنوذ مثل قتيل ومقتول . وفي هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يواكل أصحابه فجائز للرئيس أن يواكل أصحابه وحسن جميل به ذلك . وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأكل اللحم ، وفيه أنه كان - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب ، وإنما كان يعلم منه ما يظهره الله عليه ، وفيه أن النفوس تعاف ما لم تعهد ، وفيه أن أكل الضب حلال ، وأن من الحلال ما تعافه النفوس . وفيه دليل على أن التحليل والتحريم ليس مردودا إلى الطباع ، ولا إلى ما يقع في النفس ، وإنما الحرام ما حرمه الكتاب والسنة ، أو يكون في معنى ما حرمه أحدهما ونص عليه . وفيه دليل على خطأ من روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الضب ( لست بمحله ولا بمحرمه ) . [ ص: 252 ] وهذا ليس بشيء ، وقد رده ابن عباس رضي الله عنه . وقال لم يبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا آمرا ، أو ناهيا ، أو محلا ، أو محرما ، ولو كان حراما لم يؤكل على مائدته . ( وأما دخول خالد بن الوليد ، وعبد الله بن عباس بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه ميمونة مع النسوة اللاتي قال بعضهن : أخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يريد أن يأكل منه ، فإنما كان ذلك قبل نزول الحجاب - والله أعلم - ) . وليس الضب ذا ناب - والله أعلم - للفرق الذي ورد بين حكمه وحكم كل ذي ناب في الأكل ، وبالله التوفيق . وقد سلف القول منا في أكل ( كل ) ذي ناب في باب إسماعيل بن أبي حكيم من كتابنا هذا مستوعبا كاملا ، فأغنى عن إعادته هاهنا . وسيأتي من ذكر الآثار في الضب بما فيه شفاء في باب عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر من كتابنا هذا إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية