التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1646 [ ص: 309 ] حديث أول لابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب متصل

مالك ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال : لو رأيت الظباء بالمدينة ترتع ما ذعرتها ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما بين لابتيها حرام .


( لم يختلف رواة الموطأ في إسناده ولا متنه ) .

وفي هذا الحديث من الفقه تحريم المدينة ، وإذا كانت حراما لم يجز فيها الاصطياد ، ولا قطع الشجر كهيئة مكة إلا أنه لا جزاء فيه عند العلماء ، كذلك قال مالك ، والشافعي ، وأصحابهما ، وقال أبو حنيفة : صيد المدينة غير محرم ، وكذلك قطع شجرها ، وهذا الحديث حجة عليه مع سائر ما في [ ص: 310 ] ( تحريم ) المدينة من الآثار ، واحتج لأبي حنيفة بعض من ذهب مذهبه بحديث سعد بن أبي وقاص ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من وجدتموه يصيد في حدود المدينة ، أو يقطع من شجرها فخذوا سلبه ، وأخذ سعد سلب من فعل ذلك ، قال : وقد اتفق الفقهاء على أنه لا يؤخذ سلب من صاد في المدينة فدل ذلك على أنه منسوخ ، قال : وقد يحتمل أن يكون معنى النهي عن صيد المدينة وقطع شجرها ، لأن الهجرة كانت إليها فكان بقاء الصيد والشجر مما يزيد في زينتها ، ويدعو إلى ألفتها كما روي عن نافع ، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هدم آطام المدينة ، فإنها من زينة المدينة .

قال أبو عمر :

ليس في هذا كله حجة ، لأن حديث سعد ليس بالقوي ، ولو صح لم يكن في نسخ أخذ السلب ما يسقط ما صح [ ص: 311 ] من تحريم المدينة ، وما تأوله في زينة المدينة ، فليس بشيء ، لأن الصحابة تلقوا تحريم ( المدينة ) بغير هذا التأويل ( وسعد قد عمل بما روى ، فأي نسخ هاهنا ؟ ) وفي قول أبي هريرة ( ما ذعرتها ) دليل على أنه لا يجوز ترويع الصيد في حرم المدينة كما لا يجوز ترويعه في الحرم ، والله أعلم .

وكذلك نزع زيد بن ثابت من يد الرجل النهس ، وهو طائر كان صاده بالمدينة دليل على أن الصحابة فهموا مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تحريمه صيد المدينة ، فلم يجيزوا فيها الاصطياد ، ولا تملك ما يصطاد ولذلك نزع زيد النهس وسرحه من يد صائده . يقال : إن ذلك الرجل شرحبيل بن سعيد ، وقال ابن مهدي ( عن مالك ) حرم المدينة بريد في بريد يعني ( من الشجر ) قال : واللابتان هما الحرتان ، وقال ابن حبيب : اللابة : الحرة وهي الأرض التي ألبست الحجارة السود الجرد وجمع اللابة لابات ، فإذا كثرت جدا فهي لوب . [ ص: 312 ] قال : وتحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما بين لابتي ( المدينة ) إنما يعني في الصيد ، فأما في قطع الشجر ، فبريد في بريد في دور المدينة كلها محرم كذلك ، أخبرني مطرف عن مالك ، وعمر بن عبد العزيز فقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما بين لابتيها يعني حرتيها الشرقية والغربية وهي حرار أربع لكن القبلية ، والجوفية متصلتان بها ، وقد ردها حسان بن ثابت إلى حرة واحدة لاتصالها فقال :


لنا حرة مأطورة بجبالها بنى العز فيها بيته فتأثلا



قال : وقوله : مأطورة بجبالها . يعني : معطوفة بجبالها لاستدارة الجبال بها ، وإنما جبالها تلك الحجارة السود التي تسمى الحرار .

قال أبو عمر :

وكذلك فسر ابن وهب ما بين لابتيها ( قال ) : ما بين حرتيها ، قال : وهو قول مالك ، قال ابن وهب : وهذا الذي حرمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها إنما هو في قتل الصيد . قيل لابن وهب : فما حرمه فيها في قطع الشجر ؟ [ ص: 313 ] قال : حد ذلك بريد في بريد بلغني ذلك عن عمر بن عبد العزيز ، وقال ابن نافع : اللابتان هما الحرتان إحداهما التي ينزل بها الحاج إذا رجعوا من مكة وهي بغربي المدينة ، والأخرى مما يليها من شرقي المدينة ، قال : فما بين هاتين الحرتين حرام أن يصاد فيها طير ، أو صيد ، قال ابن نافع : وحرة أخرى مما يلي قبلة المدينة وحرة رابعة من جهة الجوف ، فما بين هذه الحرار كلها في الدور محرم أن يصاد فيها ، ومن فعل ذلك أثم ، ولم يكن عليه جزاء ما صاده كما يكون عليه في حرم مكة إذا صاد فيه . وجملة مذهب مالك ، والشافعي في صيد المدينة وقطع شجرها أن ذلك مكروه لا جزاء فيه ( وقال مالك : لا يقتل الجراد في حرم المدينة ) وكان يكره أكل ما قتل الحلال من الصيد في حرم المدينة ) وقال أبو حنيفة وأصحابه : صيد المدينة غير محرم ، وكذلك ( قطع ) شجرها ، واحتج الطحاوي لهم بحديث أنس : يا أبا عمير ما فعل النغير ، قال : فلم ينكر صيده وإمساكه .

[ ص: 314 ] قال أبو عمر :

( هذا ) قد يجوز أن يكون صيدا في غير حرم المدينة ، فلا حجة فيه ، واحتج أيضا بحديث يونس بن أبي إسحاق ، عن مجاهد ، عن عائشة كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحش ، فإذا خرج لعب واشتد وأقبل وأدبر ، فإذا أحس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربض ، فلم يترمرم كراهية أن يؤذيه ، والقول عندي في هذا الحديث كالقول في حديث النغير ، والله أعلم .

قال إسماعيل بن إسحاق بعد أن ذكر الآثار في تحريم ما بين لابتي المدينة : إني لأعجب ممن رد هذه الأحاديث بحديث أنس : يا أبا عمير ما فعل النغير ؟ .

قال أبو عمر :

قد زدنا هذا الباب بيانا عند ذكر قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث مالك ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن أنس ، اللهم إن إبراهيم حرم مكة ، وإني أحرم ما بين لابتيها ، وليس في سقوط الجزاء عمن اصطاد بالمدينة دليل على سقوط تحريم صيدها . ألا ترى إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 315 ] إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة .

قال إسماعيل ، وغيره : لم يبلغنا أنه كان في شريعة إبراهيم جزاء صيد ، وظاهر الآية يدل على أنه أمر شرعه الله لهذه الأمة بقوله ياأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم إلى قوله لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ، قال إسماعيل : حدثنا محمد بن أبي بكر ، قال : حدثنا الفضيل بن سليمان ، قال : حدثنا محمد بن أبي يحيى ، عن أبي إسحاق ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بين لابتي المدينة حرام كما حرم إبراهيم مكة ، اللهم اجعل البركة فيها بركتين وبارك لهم في صاعهم ومدهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية