التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
260 [ ص: 191 ] حديث رابع لإسماعيل بن أبي حكيم مرسل

مالك ، عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع امرأة تصلي من الليل ، فقال : من هذه ؟ فقيل : الحولاء بنت تويت لا تنام الليل ، فكره ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى عرفنا الكراهة في وجهه ثم قال : إن الله لا يمل حتى تملوا ، اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة .


قال أبو عمر : هذا حديث منقطع من رواية إسماعيل بن أبي حكيم ، وقد يتصل معنى ولفظا ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث مالك وغيره من طرق صحاح ثابتة ، والحولاء هذه امرأة من قريش من بني أسد بن عبد العزى ، وهي الحولاء بنت تويت بن حبيب بن أسد بن عبد العزى بن قصي .

حدثني أبو القاسم خلف بن القاسم الحافظ رحمه الله ، قال : أخبرني ابن أبي العقب ، وأبو الميمون البجلي جميعا بدمشق ، قالا : حدثنا أبو زرعة ، قال : حدثنا الحكم بن نافع أبو اليمان ، قال : أخبرنا شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، قال : قال عروة : أخبرتني عائشة أن الحولاء بنت تويت بن أسد بن عبد العزى مرت بها ، وعندها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : فقلت يا رسول الله هذه الحولاء بنت تويت ، قالوا إنها لا تنام الليل ، فقال رسول [ ص: 192 ] الله - صلى الله عليه وسلم - لا تنام الليل ! خذوا من العمل ما تطيقون ، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا .

وذكره البزار ، قال : حدثنا زيد بن أخزم الطائي ، قال : حدثنا عثمان بن عمر ، قال : حدثنا يونس ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة مثله بمعناه ، وأما حديث مالك في ذلك فرواه القعنبي ، عن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت : كانت عندي امرأة من بني أسد بن عبد العزى ، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : من هذه ؟ فقلت له : هذه فلانة لا تنام الليل ، تذكر من صلاتها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مه عليكم بما تطيقون من الأعمال ، فوالله لا يمل الله حتى تملوا .

حدثناه عبد الرحمن بن يحيى ، قال : حدثنا الحسن بن الخضر ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : حدثنا عبد الملك بن عبد الحميد ، قال : حدثنا القعنبي ، عن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، فذكره ، وبه عن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : كان أحب الأعمال إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يدوم عليه صاحبه ، وروى الأوزاعي ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : خذوا من العمل ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا هكذا حدث به عبد الحميد بن حبيب ، عن الأوزاعي ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، وهو عندي حديث آخر ليس حديث الزهري ، عن عروة ، عن عائشة إلا أنه اختلف فيه على الأوزاعي [ ص: 193 ] حدثنيه محمد بن عبد الله ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا إسحاق بن أبي حسان ، قال : حدثنا هشام بن عمار ، قال : حدثنا عبد الحميد بن حبيب ، قال : حدثنا الأوزاعي ، قال : حدثنا الزهري ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، عن عائشة ، فذكر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه قالت عائشة : كان أحب الصلاة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ديم عليها ، وإن قلت ، قالت : وكان إذا صلى صلاة داوم عليها ، قال أبو سلمة : إن الله يقول : الذين هم على صلاتهم دائمون .

أخبرنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن الفضل ، حدثنا أبو الدحداح أحمد بن محمد بن إسماعيل التميمي ، قال : أخبرنا أبو علي محمود بن خالد الدمشقي السلمي ، قال : حدثنا محمد بن يوسف الفريابي ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خذوا من العمل قدر ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا قالت : وكان أحب الصلاة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما داوم عليه العبد وإن قلت ، قالت : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى صلاة داوم عليها ، ثم قرأ أبو سلمة الذين هم على صلاتهم دائمون .

وقد روي حديث الحولاء هذا متصلا مسندا من حديث إسماعيل بن أبي حكيم ذكره العقيلي أبو جعفر رحمه الله ، قال : حدثنا أحمد بن إبراهيم [ ص: 194 ] البغدادي ، قال : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، قال : أخبرنا حميد بن الأسود ، عن الضحاك بن عثمان ، عن إسماعيل بن أبي حكيم ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ما تصورت في هذه الليلة إلا سمعت صوتا ، قلت : يا رسول الله تلك الحولاء بنت تويت لا تنام إذا نام الناس ، قال : عليكم من العمل ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا أخبرناه عبد الله بن محمد بن يوسف إجازة ، قال : أخبرنا يوسف بن أحمد إجازة ، عن العقيلي أبي جعفر محمد بن عمرو بن موسى المكي .

قال أبو عمر : قوله إن الله لا يمل حتى تملوا ، معناه عند أهل العلم : إن الله لا يمل من الثواب والعطاء على العمل حتى تملوا أنتم ، ولا يسأم من أفضاله عليكم إلا بسآمتكم عن العمل له ، وأنتم متى تكلفتم من العبادة ما لا تطيقون لحقكم الملل ، وأدرككم الضعف والسآمة ، وانقطع عملكم ، فانقطع عنكم الثواب لانقطاع العمل ، يحضهم - صلى الله عليه وسلم - على القليل الدائم ، ويخبرهم أن النفوس لا تحتمل الإسراف عليها ، وأن الملل سبب إلى قطع العمل .

[ ص: 195 ] ومن هذا حديث ابن مسعود ، قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا ، ومنه قوله عليه السلام لا تشادوا الدين ، فإنه من يغالب الدين يغلبه الدين ومنه الحديث إن هذا الدين متين ، فأوغل فيه برفق ، فإن المنبت لا يقطع أرضا ، ولا يبقي ظهرا وقال - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو - وكان يصوم النهار ويقوم الليل - : لا تفعل ، فإنك إذا فعلت ذلك نفهت نفسك ، يعني أعيت وكلت ، يقال للمعي منفه ونافه ، وجمع نافه نفه ، كذلك فسره أبو عبيد ، عن أبي عبيدة ، وأبي عمرو قال : وقال الأصمعي : الإيغال السير الشديد ، وأما الوخول فهو الدخول ، وقد جعل مطرف بن عبد الله بن الشخير رحمه الله الغلو في أعمال البر سيئة ، والتقصير سيئة ، فقال : الحسنة بين سيئتين ، وأما لفظه في قوله : إن الله لا يمل حتى تملوا ، فلفظ مخرج على مثال لفظ ، ومعلوم أن الله عز وجل لا يمل سواء مل الناس أو لم يملوا ، ولا يدخله ملال في شيء من الأشياء جل وتعالى علوا كبيرا ، وإنما جاء لفظ هذا الحديث على المعروف من لغة العرب بأنهم كانوا إذا وضعوا لفظا بإزاء لفظ وقبالته جوابا له وجزاء ، ذكروه بمثل لفظه ، وإن كان مخالفا له في معناه ، ألا ترى إلى قوله عز وجل : وجزاء سيئة سيئة مثلها ، وقوله : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، والجزاء لا يكون سيئة ، والقصاص لا يكون اعتداء لأنه حق وجب ، ومثل ذلك قول الله تبارك وتعالى : ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ، وقوله إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ، وقوله : إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا ، وليس من الله عز وجل هزؤ ، ولا مكر ، ولا كيد ، إنما هو جزاء لمكرهم ، واستهزائهم ، وجزاء كيدهم ، فذكر الجزاء بمثل لفظ الابتداء لما وضع بحذائه ، وكذلك [ ص: 196 ] قوله - صلى الله عليه وسلم - إن الله لا يمل حتى تملوا أي إن من مل من عمل يعمله قطع عنه جزاؤه ، فأخرج لفظ قطع الجزاء بلفظ الملال إذ كان بحذائه وجوابا له ، روي عن ابن عباس أنه قال : إياكم والغلو في الدين ، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين ، حدثنا خلف بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن خالد ، قال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : أخبرنا شعبة ، عن حصين ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لكل عامل فترة ، ولكل فترة شرة ، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح وحدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن حصين ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لكل عمل شرة ، ولكل شرة فترة ، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك هكذا قال ، جعل في موضع الفترة الشرة فقلب ، والأول أولى على ما في حديث شعبة ، والله أعلم .

وكلا الوجهين خارج معناه ، والشرة الحرص ، والشره والشرهان الحريص ، حدثنا أحمد بن عمر ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن علي ، قال : حدثنا محمد بن فطيس ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق السجسجي ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه أنه قال : أفضل العبادة أخفها .

قال أبو عمر : يريد أخفها على القلوب ، وأحبها إلى النفوس ، فإن ذلك أحرى أن يدوم عليه صاحبه حتى يصير له عادة وخلقا .

[ ص: 197 ] وقد كان بعض العلماء يروي هذا الحديث أفضل العيادة ، أخفها يريد عيادة المرضى ، فمن رواه على هذا الوجه ، فلا مدخل له في هذا الباب ، ولا خلاف بين العلماء والحكماء أن السنة في العيادة التخفيف إلا أن يكون المريض يدعو الصديق إلى الأنس به ، وسيأتي ذكر العيادة والقول فيها في باب بلاغات مالك إن شاء الله عز وجل .

التالي السابق


الخدمات العلمية