التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
168 [ ص: 79 ] حديث ثان لابن شهاب عن أبي سلمة متصل صحيح

مالك عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة كان يصلي لهم فيكبر كلما خفض ورفع فلما انصرف قال : والله إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم


لم يختلف عن مالك رواة الموطأ في هذا الحديث ، ورواه محمد بن مصعب القرقساني عن مالك بإسناده هذا عن الزهري عن أبي سلمة قال : صلى لنا أبو هريرة فكان يرفع يديه في كل خفض ورفع ثم قال : إني لأعلمكم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هكذا قال : كان يصلي ويرفع يديه في كل خفض ورفع حتى يفرغ من صلاته ذكره الدارقطني عن [ ص: 80 ] القاضي أبي عمر محمد بن يوسف بن يعقوب ، عن أحمد بن ملاعب ، عن محمد بن مصعب قال الدارقطني : قال لنا القاضي أبو عمر هكذا قال محمد بن مصعب ، وإنما هو كان يكبر في كل خفض ورفع ، وقال فيه إبراهيم بن طهمان عن مالك ، وعباد بن إسحاق ، ويحيى بن سعيد عن أبي سلمة أن أبا هريرة كان يصلي لهم فيكبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود وليس في الموطأ عند رواته : وقيام وقعود .

وفي هذا الحديث من الفقه أن حكم الصلاة أن يكبر في كل خفض ورفع منها ، وأن ذلك سنتها ، وهذا قول مجمل ; لأن رفع الرأس من الركوع ليس فيه تكبير ، إنما هو التحميد بإجماع ، فتفسير ذلك أنه كان يكبر كلما خفض ورفع إلا في رفعه رأسه من الركوع ; لأنه لا خلاف في ذلك ، وفيه أن الناس لم يكونوا كلهم يفعلون ذلك ، ولذلك قال : أنا أشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومما يدلك على ذلك ما ذكره ابن أبي ذئب في موطئه عن سعيد بن سمعان أنه قال : ثلاث كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعلهن ، تركهن الناس : كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدا ، وكان يقف قبل القراءة هنية يسأل الله من فضله ، وكان يكبر كلما خفض ورفع ، وقد أوضحنا هذا المعنى في باب ابن شهاب عن علي بن حسين والحمد لله ، وقد قال قوم من أهل العلم : إن التكبير إنما [ ص: 81 ] هو إذن بحركات الإمام وشعار للصلاة وليس بسنة إلا في الجماعة ، وأما من صلى وحده ; فلا بأس عليه أن لا يكبر ، ولهذا ما ذكر مالك هذا الحديث عن ابن شهاب عن علي بن حسين قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع ، فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله ، وحديث ابن عمر وجابر أنهما كانا يكبران كلما خفضا ورفعا في الصلاة وكان جابر يعلمهم ذلك ; فذكر مالك الأحاديث كلها ليبين لك أن التكبير من سنن الصلاة ، وقال ابن القاسم فيمن نسي ثلاث تكبيرات من صلاته وحده ; أنه يسجد قبل السلام فإن لم يفعل أعاد الصلاة ، وإن نسي واحدة أو اثنتين سجد أيضا قبل السلام ; فإن لم يفعل فلا شيء عليه ، وقد روي عنه أن التكبيرة الواحدة ليس على من نسيها سجود ولا شيء وخالفه أصبغ وعبد الله بن عبد الحكم في رأيه فقالا : لا إعادة على من نسي التكبير كله في صلاة إذا كان قد كبر لإحرامه ، وإنما عليه سجدتا السهو ، وإن لم يسجدهما فلا حرج ، وعلى هذا القول فقهاء الأمصار ، وأئمة الفتوى ، وهو الذي ذهب إليه أبو بكر الأبهري قال الأبهري : رحمه الله على مذهب مالك : الفرائض في الصلاة خمس عشرة فريضة : أولها النية ثم الطهارة ، وستر العورة ، والقيام إلى الصلاة ، ومعرفة دخول الوقت ، والتوجه إلى القبلة ، وتكبيرة الإحرام ، وقراءة أم القرآن ، والركوع ، ورفع الرأس منه ، والسجود ، ورفع الرأس منه ، والقعود الآخر ، والسلام ، وقطع الكلام .

[ ص: 82 ] قال أبو عمر :

فذكر الأبهري في فرائض الصلاة تكبيرة الإحرام وحدها دون سائر التكبير ، وقال الأبهري : والسنن في الصلاة : خمس عشرة سنة أولها : الأذان ، والإقامة ، ورفع اليدين ، والسورة مع أم القرآن ، والتكبير كله سوى تكبيرة الإحرام ، وسمع الله لمن حمده ، والاستواء من الركوع ، والاستواء من السجود ، والتسبيح في الركوع ، والتسبيح في السجود ، والتشهد ، والجهر في صلاة الليل ، والسر في صلاة النهار ، وأخذ الرداء ، ورد السلام على الإمام ; إذا سلم من الصلاة ; فذكر في سنن الصلاة التكبير كله سوى الإحرام ، وهذا هو الصواب ، وعليه جمهور فقهاء الأمصار

قال أبو عمر :

إنما اختلفت الأئمة في الإحرام ، وأما فيما سواها من التكبير فلا أعلم فيه ما ذكرت ، وسنذكر اختلاف العلماء في الإحرام وغيرها من معاني هذا الباب بأتم من هذا المعنى في باب ابن شهاب عن علي بن حسين من كتابنا هذا إن شاء الله ، وقد روي عن عمر بن الخطاب ، وعمر بن عبد العزيز ، وقتادة وغيرهم أنهم كانوا لا يتمون التكبير حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا إسحاق بن أبي حسان قال : حدثنا هشام بن عمار قال : حدثنا عبد الحميد قال : حدثنا الأوزاعي قال : حدثنا يحيى بن أبي كثير قال : حدثني أبو سلمة قال : رأيت أبا هريرة يكبر هذا التكبير الذي ترك الناس فقلت : يا أبا هريرة ما هذا التكبير فقال : إنها لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا يدلك على أن [ ص: 83 ] التكبير في كل خفض ورفع كان الناس قد تركوه على ما قدمنا إلى عهد أبي سلمة ، وفي ترك الناس له من غير نكير من واحد منهم ما يدل على أن الأمر عندهم محمول على الإباحة ، وأن ترك التكبير لا تفسد به الصلاة في غير الإحرام ، وروى ابن وهب قال : أخبرني عياض بن عبد الله الفهري أن عبد الله بن عمر كان يقول : لكل شيء زينة ، وزينة الصلاة التكبير ، ورفع الأيدي فيها ، وهذا أيضا يدل على أن التكبير ليس من صلب الصلاة عند ابن عمر ; لأنه شبهه برفع اليدين وقال : هو من زينة الصلاة ، وكان عبد الله بن عمر يكبر في كل خفض ورفع ، وهذا يدل على ما قلنا أنه سنة وفضل وزينة للصلاة لا ينبغي تركه ، وكذلك يقول جماعة فقهاء الأمصار أبو حنيفة فيمن اتبعه ، والشافعي فيمن سلك مذهبه ، والثوري والأوزاعي ، وأحمد بن حنبل وداود والطبري ، وسائر أهل الحديث وأهل الظاهر كلهم يأمرون به ويفعلونه فإن تركه تارك عندهم بعد أن يحرم لم تفسد صلاته ; لأنه ليس عندهم من فرائض الصلاة ، وقد روي عن ابن عمر أنه كان لا يكبر إذا صلى وحده قال إسحاق بن منصور : سمعت أحمد بن حنبل يقول : يروى عن ابن عمر أنه كان لا يكبر إذا صلى وحده قال أحمد : وأحب إلي أن يكبر إذا صلى وحده في الفرائض وأما في التطوع فلا [ ص: 84 ]

قال أبو عمر :

لا يحكي أحمد عن ابن عمر إلا ما صح عنده ، وأما روايته عن مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع فيدل ظاهرها على أنه كذلك كان يفعل إماما أو غير إمام والله أعلم ، وقال إسحاق : قلت لأحمد بن حنبل ما الذي نقصوا من التكبير ؟ قال : إذا انحط إلى السجود من الركوع ، وإذا أراد أن يسجد السجدة الثانية من كل ركعة : حدثنيه أحمد بن محمد بن أحمد قال : حدثنا الحسن بن سلمة قال : حدثنا ابن الجارود قال : حدثنا إسحاق بن منصور فذكره وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن عبد السلام قال : حدثنا بندار قال : حدثنا أبو داود عن شعبة عن الحسن بن عمران قال : سمعت سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى يحدث عن أبيه أنه صلى خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن يتم التكبير كان لا يكبر إذا خفض حدثني خلف بن [ ص: 85 ] سعيد قال : حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا أحمد بن خالد قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا معلى بن أسد قال : حدثنا عبد العزيز يعني ابن المختار عن عبد الله الداناج قال : حدثني عكرمة قال : صليت مع أبي هريرة قال : فكان يكبر إذا رفع وإذا وضع ( فأخبرت ابن عباس ) فقال : لا أم لك أوليست تلك سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وسنذكر بعضها في باب ابن شهاب عن علي بن الحسين من كتابنا هذا إن شاء الله ، وفيما ذكرنا كفاية شافية لمن ساعده الفهم والتوفيق ، ومما يدل على أن التكبير في الصلاة ليس منه شيء واجب إلا التكبيرة الأولى حديث أبي هريرة ورفاعة بن رافع جميعا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى رجلا قد دخل المسجد فصلى ثم جاء فسلم فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ارجع فصل ; فإنك لم تصل ، فرجع فصلى ; ثم جاء فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ارجع فصل ; فإنك لم تصل فعل ذلك مرتين أو ثلاثا فلما كان في الثانية أو الثالثة قال له : يا رسول الله : قد أجهدت نفسي فعلمني فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ وأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم كبر ثم اقرأ ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى [ ص: 86 ] تطمئن رافعا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها حتى تتمها : حدثناه محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أنبأنا محمد بن المثنى قال : أنبأنا يحيى قال : أخبرني عبيد الله بن عمر قال : حدثنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة ، وأخبرناه عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا سفيان بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثني يحيى عن ابن عجلان : حدثني علي بن يحيى بن خلاد بن رافع الزرقي عن أبيه عن رفاعة بن رافع دخل حديث بعضهم في بعض ، والمعنى واحد ففي هذا الحديث القصد إلى فرائض الصلاة الواجبة فيها ، وقد جاء فيه التكبيرة الأولى للإحرام دون غيرها من التكبير ففيما ذكرنا من الآثار في هذا الباب ما يدل أن التكبير كله ما عدا الإحرام سنة حسنة ، وليس بواجب ، والله أعلم فإن قيل : إن التسليم لم يذكر في هذا الحديث ، وأنتم توجبونه لقيامه من غير هذا الحديث ، فغير نكير أن يقوم وجوب جملة التكبير من غير حديث هذا الباب وإن لم يكن في حديث [ ص: 87 ] رفاعة هذا ، وما كان مثله قيل له : إن التسليم قد قام دليله ، وثبت النص فيه بقوله - صلى الله عليه وسلم - : تحليلها التسليم ، وبأنه كان - صلى الله عليه وسلم - يسلم من صلاته طول حياته فثبت التسليم قولا وعملا ، وأما التكبير فيما عدا الإحرام ; فقد كان تركه الصدر الأول ; فلذلك قال لهم أبو هريرة : أنا أشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعب بعضهم على بعض تركه ; بل جعلوه من باب الكمال والتمام فلذلك قلنا : إن التكبير فيما عدا الإحرام سنة يحسن العمل بها ، وليس بواجب ; وعلى هذا جمهور الفقهاء ; فإن قيل : إن الجلسة الوسطى سنة ، ومن تركها بطلت صلاته ، فكذلك من ترك جملة التكبير المسنون قيل لقائل ذلك : وضعت التمثيل في غير موضعه ; لأن من ترك الجلسة الوسطى عامدا بطلت صلاته ، وأنت ترى السلف ، والعمل الأول ، والأمر القديم قد ترك فيه التكبير ، ولم يعب بعضهم على بعض ، ولم يجز [ ص: 88 ] واحد منهم ترك الجلسة الوسطى عامدا ، ولا تركها ، وحسبك بهذا فرقا يخص به الجلسة الوسطى من بين سائر السنن ، وسائر أعمال البدن في الصلاة والتكبير فيما عدا تكبير الإحرام المخصوص بالوجوب أشبه بالتسبيح في الركوع والسجود ، وسورة مع أم القرآن ، ورفع اليدين منه بالجلسة الوسطى والله المستعان .

ولو كان التكبير من فروض الصلاة التي تعاد منه إذا سها عنه لكانت ، كل في ذلك سواء في وجوبها ، ولما افترق حكم الواحدة والاثنتين والثلاث ، والأكثر في ذلك ألا ترى أن السجدة في كل ركعة لا تنوب عن غيرها ، وأنها فرض في نفسها ; فلو كانت التكبيرات واجبات كانت كذلك ، ولا حجة لمن فرق بين ذلك وبالله التوفيق ، وقد ذكرنا اختلاف العلماء في تكبيرة الإحرام ، وفي معاني من تكبير الإمام والمأموم في باب ابن شهاب عن علي بن حسين من هذا الكتاب والحمد لله

التالي السابق


الخدمات العلمية