التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
64 حديث ثان لإسحاق عن أنس مسند

مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك أنه قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحانت صلاة العصر ، فالتمس الناس وضوءا فلم يجدوه ، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوضوء في إناء ، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الإناء يده ثم أمر الناس يتوضئون منه ، قال أنس : فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه ، فتوضأ الناس حتى توضئوا من عند آخرهم .


[ ص: 218 ] في هذا الحديث تسمية الشيء باسم ما قرب منه ، وذلك أنه سمى الماء وضوءا لأنه يقوم به الوضوء ، ألا ترى إلى قوله فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوضوء في إناء ، والوضوء - بفتح الواو - فعل المتوضئ ، ومصدر فعله ، وبضمها الماء .

وفيه إباحة الوضوء من إناء واحد للجماعة يغترفون منه في حين واحد ، وفيه أنه لا بأس بفضل ، وضوء الرجل المسلم يتوضأ به ، وهذا كله في فضل طهور الرجال إجماع من العلماء ، والحمد لله .

وفيه العلم العظيم من أعلام نبوته صلى الله عليه ، وهو نبع الماء من بين أصابعه ، وكم له من هذه صلوات الله وسلامه ورضوانه عليه .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال : حدثنا عفان قال : حدثنا حماد بن سلمة قال : حدثنا ثابت ، عن أنس قال : حضرت الصلاة ، فقام جيران المسجد يتوضئون ، وبقي ما بين السبعين إلى الثمانين ، وكانت منازلهم بعيدة ، فدعا النبي عليه السلام بمخضب فيه ماء ما هو بملآن ، فوضع أصابعه فيه وجعل يصب عليهم ويقول توضئوا حتى توضئوا كلهم ، وبقي في المخضب مما كان فيه ، وهم نحو من السبعين إلى الثمانين ، ورواه معمر فزاد فيه ذكر التسمية ، حدثنا عبد الرحمن بن مروان قال : حدثنا [ ص: 219 ] الحسن بن علي قال : حدثنا محمد بن زبان قال : حدثنا سلمة بن شبيب قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن ثابت ، وقتادة ، عن أنس قال نظر بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءا فلم يجدوا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - هاهنا ماء ، قال : فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده في الإناء الذي فيه الماء ثم قال : توضئوا بسم الله ، قال : فرأيت الماء يفور من بين أصابعه ، والقوم يتوضئون حتى توضئوا من آخرهم .

قال ثابت : قلت لأنس : كم تراهم كانوا ؟ قال : نحوا من سبعين ، وقد روى ابن مسعود هذا المعنى بأتم من هذا وأحسن ، حدثنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبيد الله بن موسى أخبرنا إسرائيل ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : كنا أصحاب محمد نعد الآيات بركة ، وأنتم تعدونها تخويفا ، إنا بينا نحن مع رسول الله - صلى الله عليه - وليس معنا ماء ، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اطلبوا من معه فضل ماء ، فأتي بماء ، فصبه في إناء ثم وضع كفه ، فجعل الماء يخرج من بين أصابعه ثم قال : حي على الطهور المبارك ، والبركة من الله ، قال : فشربنا ، وقال عبد الله : وكنا نسمع تسبيح الطعام ونحن نأكل .

[ ص: 220 ] وروى جابر في ذلك مثل رواية أنس في أكثر من هذا العدد وفي غير المسجد وذلك مرة أخرى عام الحديبية .

أخبرنا محمد بن إبراهيم بن سعيد قال : أخبرنا محمد بن أحمد بن يحيى قال : أخبرنا محمد بن أيوب الرقي قال : حدثنا أحمد بن عمرو البزار قال : حدثنا عمر بن علي قال : حدثنا محمد بن جعفر وأبو داود قالا : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن سالم بن أبي الجعد قال : قلت لجابر بن عبد الله كم كنتم يوم الشجرة ؟ قال : فذكر عطشا فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتور فيه ماء ، فوضع أصابعه فيه ، وجعل الماء ينبع من بين أصابعه كأنها العيون ، فشربنا وسقينا وكفانا ، قال : قلت لجابر كم كنتم يومئذ ؟ قال : ألف وخمسمائة ، ولو كنا مائة ألف لكفانا .

وقال جرير ، عن الأعمش ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن جابر قال : قلت كم كنتم يومئذ ؟ قال : ألف وأربعمائة .

قال أبو عمر : الذي أوتى النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه الآية المعجزة أوضح في آيات الأنبياء وأعلامهم مما أعطي موسى عليه السلام إذ ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، وذلك أن من [ ص: 221 ] الحجارة ما يشاهد انفجار الماء منها ، ولم يشاهد قط أحد من الآدميين يخرج من بين أصابعه الماء غير نبينا صلى الله عليه وسلم .

وقد نزع بنحو ما قلت المزني وغيره ، ومن ذلك حديث أنس وغيره في الطعام الذي أكل من القصعة الواحدة ثمانون رجلا وبقيت بهيأتها .

وحدثنا النعمان بن مقرن إذ زودوا من التمر وهم أربعمائة راكب ، قال : ثم نظرت فإذا به كأنه لم يفقد منه شيء ، والأحاديث في أعلام نبوته أكثر من أن تحصى ، وقد جمع قوم كثير كثيرا منها ، والحمد لله .

ومن أحسنها - وكلها حسن - ما حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا موسى بن معاوية قال : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن يعلى بن مرة الثقفي ، عن أبيه ، قال : خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر حتى أتينا منزلا ، فقال النبي عليه السلام - يأمره - ائت تلك الأشاتين ، فقل لهما إن رسول الله يأمركما أن تجتمعا ، ففعلت ، فأتت كل واحدة منهما إلى صاحبتها ، قال : فخرج فاستتر بهما ، فقضى حاجته ثم قال : ارجع إليهما فقل لهما يرجعا إلى مكانهما ففعلت ففعلتا .

[ ص: 222 ] وروي عن يعلى من وجوه ، وحدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا عبد الله بن جعفر بن الورد قال : حدثنا يوسف بن يزيد قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل قال : حدثنا أبو حزرة يعقوب بن مجاهد ، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ، عن جابر بن عبد الله قال : سرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسير له حتى نزلنا واديا أفيح ، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته ، واتبعته فلم ير شيئا يستتر به ، فنظر ، فإذا في شاطئ الوادي شجرتان ، فانطلق إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها ، فقال : انقادي علي بإذن الله ، فانقادت معه كالبعير المحسوس الذي يصانع قائده ، ثم أتى الشجرة الأخرى ، فأخذ بغصن من أغصانها فقال : انقادي علي بإذن الله ، فانقادت معه كذلك حتى إذا كان في المنصف مما بينهما لأم بينهما ، فقال : التئما علي بإذن الله ، قال : فالتأمتا ، قالجابر : فخرجت أسرع مخافة أن يحس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقربي ، فتبعدت ، قال : فجلست أحدث نفسي ثم حانت مني لفتة ، فإذا أنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقبلا ، وإذا الشجرتان قد افترقتا ، فقامت كل واحدة منهما على ساق ، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه - وقف وقفة فقال برأسه هكذا عن يمينه ، ثم قال برأسه هكذا عن يساره ثم أقبل .

[ ص: 223 ] حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، أخبرنا إسماعيل بن عبد الملك ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأتي البراز حتى يبعد فلا يرى ، فنزلنا بفلاة من الأرض ليس فيها شجر ولا علم ، فقال : يا جابر اجعل في إداوتك ماء ، ثم انطلق بنا ، قال : فانطلقنا حتى لا نرى ، فإذا هو بشجرتين بينهما أربع أدرع ، فقال : يا جابر انطلق إلى هذه الشجرة ، فقل لها يقول لك رسول الله - صلى الله عليه - الحقي بصاحبتك حتى أجلس خلفكما ، قال : ففعلت فرجعت إليها ، فجلس رسول الله - صلى الله عليه - خلفهما ثم رجعتا إلى مكانهما ، فركبنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله بيننا كأنما على رءوسنا الطير تظلنا ، فعرضت لنا امرأة معها صبي لها ، فقالت : يا رسول الله إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم مرارا ، فوقف لها ثم تناول الصبي ، فجعله بينه وبين مقدم الرحل ، ثم قال : اخسأ عدو الله أنا رسول الله ، اخسأ عدو الله أنا رسول الله ، ثلاثا ، ثم دفعه إليها ، فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان فعرضت لنا امرأة معها صبيها ، ومعها كبشان تسوقهما ، فقالت : يا رسول الله اقبل مني هذين ، فوالذي بعثك بالحق ما عاد إليه بعد ، فقال رسول الله - صلى الله عليه - : خذوا منها أحدهما ، وردوا عليها الآخر ، ثم سرنا ورسول الله - صلى الله عليه - كأنما على رءوسنا الطير تظلنا ، فإذا جمل ناد [ ص: 224 ] حتى إذا كان بين السماطين خر ساجدا ، فحبس رسول الله - صلى الله عليه - على الناس ، وقال : من صاحب هذا الجمل ؟ فإذا فتية من الأنصار ، قالوا : هو لنا يا رسول الله ، قال : فما شأنه ، فقالوا : استنينا عليه منذ عشرين سنة ، وكانت به شجيمة ، فأردنا أن ننحره ، فنقسمه بين غلماننا ، فانفلت منا ، فقال : أتبيعوننيه ؟ قالوا : لا بل هو لك يا رسول الله ، قال : أما لا ، فأحسنوا إليه حتى يأتيه أجله ، قال المسلمون عند ذلك : نحن أحق يا رسول الله بالسجود لك من البهائم ، قال : لا ينبغي لشيء أن يسجد لشيء ، ولو كان ذلك كان النساء يسجدن لأزواجهن .

وروى ابن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن عتبة بن أبي عتبة ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العمرة ، فقال عمر : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك في قيظ شديد ، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى إن كان الرجل ليذهب فيلتمس الماء ، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع ، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه ، فيشربه ، ويجعل ما بقي على كبده ، فقال أبو بكر الصديق : يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا ، فادع لنا ، قال : نعم ، [ ص: 225 ] فرفع يديه ، فلم يرجعهما حتى قالت السماء ، فأظلت ثم أسكبت ، فملئوا ما معهم ، ثم ذهبنا ننظر ، فلم نجدها جازت العسكر .

وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة ذكرنا منها في باب شريك بن أبي نمر في الاستسقاء ما فيه شفاء ، والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية