التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
666 [ ص: 203 ] حديث رابع لابن شهاب عن حميد مسند :

مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان يوم عاشوراء عام حج وهو على المنبر يقول : يا أهل المدينة أين علماؤكم ؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لهذا اليوم هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه ، وأنا صائم فمن شاء فليصم ، ومن شاء فليفطر .


قال أبو عمر :

لا يختلف العلماء أن يوم عاشوراء ليس بفرض صيامه ، ولا فرض إلا صوم رمضان ، وفي هذا الحديث دليل على فضل صوم عاشوراء ؛ لأنه لم يخصه بقوله - صلى الله عليه وسلم - وأنا صائم إلا لفضل فيه وفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأسوة الحسنة ، حدثنا سعيد بن نصر قال : ثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا حامد بن يحيى قال : حدثنا سفيان عن عبيد الله بن يزيد قال : سمعت ابن عباس يقول : ما علمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام يوما يتحرى فضله على [ ص: 204 ] الأيام إلا هذا اليوم : يعني يوم عاشوراء ، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - فمن شاء فليصمه ، ومن شاء فليفطره ؛ فإن هذه إباحة وردت بعد وجوب ، وذلك أن طائفة من العلماء قالوا : إن صوم يوم عاشوراء كان فرضا ثم نسخ بشهر رمضان ؛ فلهذا ما أخبرهم بهذا الكلام ، واحتجوا بحديث الزهري عن عروة عن عائشة قالت : كان صيام عاشوراء قبل أن ينزل رمضان : الحديث رواه ابن عيينة ، وجماعة عن ابن شهاب ، وقد ذكرنا عن ابن شهاب في باب حديثه عن عروة في المواقيت أنه كان قد فرض الصيام بالمدينة قبل بدر يعني : صيام شهر رمضان حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن الجهم قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا محمد بن أبي حفصة عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت : كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يفرض رمضان ، وكان يوما تستر فيه الكعبة ؛ فلما فرض الله رمضان قال رسول [ ص: 205 ] الله - صلى الله عليه وسلم - من شاء أن يصومه فليصمه ، ومن شاء أن يتركه [ ص: 206 ] فليتركه ورواه ابن أبي ذئب عن ابن شهاب فقال فيه : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم يوم عاشوراء ، ويأمر بصيامه ، وقد روى شيخ يسمى محمد بن عبد الله بن قوهي عن معن بن عيسى عن مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم عاشوراء ، ويأمر بصيامه ، ورواه عبد الكريم أيضا عن أبي علي الحنفي عن مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة مثله محفوظ عن مالك بهذا الإسناد ، وأما حديث ابن أبي ذئب عن الزهري عن عروة عن عائشة فمحفوظ ، ولا يصح فيه عن مالك عن الزهري إلا إسناد الموطأ ، وسائر ذلك عنه خطأ ، ولكن هذا الحديث رواه عن عروة ابن شهاب وهشام بن عروة ، وعراك بن مالك وغيرهم [ ص: 207 ] قال أبو عمر :

لما فرض رمضان صامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجه التبرك والتبرر ، وأمر بصيامه على ذلك ، وأخبر بفضل صومه ، وفعل ذلك بعده أصحابه ألا ترى أن عمر بن الخطاب كتب إلى الحارث بن هشام : أن غدا يوم عاشوراء فصم ، وأمر أهلك أن يصوموا ، وعن علي بن أبي طالب مثل ذلك حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا يوسف بن عدي قال : حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي أنه كان يأمر بصوم يوم عاشوراء ، وقد روى عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك مثل رواية عائشة رواه عبيد الله بن عمر ، وأيوب عن نافع عن ابن عمر : أنه قال في صوم عاشوراء : صامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بصومه فلما فرض رمضان ترك فكان عبد الله لا يصومه من أجل حديثه هذا ، وخفي عليه ما ندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صيامه وصومه له - صلى الله عليه وسلم - حدثنا عبد الوارث بن سفيان : حدثنا قاسم بن أصبغ : حدثنا محمد بن عبد السلام [ ص: 208 ] حدثنا محمد بن بشار : حدثنا يحيى القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : كان عاشوراء يوما تصومه أهل الجاهلية ؛ فلما نزل رمضان سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يوم من أيام الله ، فمن شاء صامه ، ومن شاء تركه ، وحدثنا عبد الوارث : حدثنا قاسم : حدثنا أحمد بن زهير : حدثنا القاسم بن سلام : أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : صامه رسول الله وأمر بصيامه ؛ فلما فرض رمضان ترك فكان ابن عمر لا يصومه إلا أن يأتي على صومه يعني : يوم عاشوراء .

قال أبو عمر :

وكان طاوس لا يصومه ؛ لأنه والله أعلم لم يبلغه ما جاء فيه من الفضل ، وليس فيما خفي عليه على ما علمه غيره حجة ، ومعلوم أن قوله عز وجل فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض لا تدفع هذه الإباحة فضل انتظار الصلاة في المسجد وعملها ، والله تعالى أعلم وعلى هذا يحمل حديث معاوية المذكور في هذا الباب أن تخييره إنما كان لسقوط وجوب صيامه لا أنه لا معنى لصومه ، ولما سقط وجوبه صيم على جهة الفضل ، والآثار تدل على ذلك ، وهذا عندي مثل قيام الليل كان في أول الإسلام فريضة حولا كاملا ؛ فلما فرضت الصلاة الخمس صار قيام الليل فضيلة بعد فريضة .

وأخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قالا : أنبأ زياد بن أيوب قال : حدثنا هشيم قال : أنبأ [ ص: 209 ] أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء فسئلوا عن ذلك فقالوا : هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون ، ونحن نصومه تعظيما له فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نحن أولى بموسى منكم ، وأمر بصيامه فهذا دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يصمه أيضا إلا تعظيما له ، وقد روينا عن طارق بن شهاب أنه قال : كان يوم عاشوراء لأهل يثرب يلبس فيه النساء شارتهن فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالفوهم فصوموه ، وروينا عن ابن مسعود ، وجابر بن سمرة ، وقيس بن سعد قالوا : كنا نؤمر بصوم [ ص: 210 ] عاشوراء فلما نزل رمضان ؛ لم نؤمر به ، ولم ننه عنه ، ونحن نفعله ، وقال علقمة : أتيت ابن مسعود فيما بين رمضان إلى رمضان ما من يوم إلا أتيته فيه ، فما رأيته في يوم صائما إلا يوم عاشوراء .

قال أبو عمر :

قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاوية المذكور في هذا الباب : يا أهل المدينة سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : هذا يوم عاشوراء ، ولم يفرض الله عليكم صيامه ، وأنا صائم : الحديث دليل على أن له فضلا قال الله عز وجل لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وقد جاء بهذا اللفظ في هذا الحديث قوله : وأنا صائم عن جماعة من الحفاظ منهم مالك وابن عيينة ثم ما جاء عن عمر ، وعلي وابن مسعود ، وغيرهم من الصحابة ، وما جاء في ذلك عن التابعين أكثر من أن يحصى ، مع ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : صيام يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية رواه أبو قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ : حدثنا محمد [ ص: 211 ] بن إسماعيل ، وأحمد بن زهير قالا : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا داود بن شابور عن أبي قزعة عن أبي الخليل عن أبي حرملة عن أبي قتادة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال صيام يوم عرفة يكفر هذه السنة ، والتي تليها ، وصيام يوم عاشوراء يكفر سنة حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا ابن أبي دليم ، وقاسم بن أصبغ قالا : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا محمد بن مسعود قال : حدثنا يحيى القطان عن يزيد بن أبي عبيد ، وحدثنا عبد الوارث ، وسعيد قالا : حدثنا قاسم : حدثنا ابن وضاح : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا : شبابة حدثنا : شعبة حدثنا : غيلان بن جرير المعولي عن عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومما يدل على فضله ، والترغيب في صيامه ما روي عن النبي صلى الله [ ص: 212 ] عليه وسلم : أنه أمر قوما قد طعموا يوم عاشوراء أن يكفوا عن الطعام ، ويصوموا باقي يومهم حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا ابن أبي دليم ، وقاسم بن أصبغ قالا : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا محمد بن مسعود قال : حدثنا يحيى القطان عن يزيد بن أبي عبيد قال : حدثنا سلمة بن الأكوع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل : أذن في قومك يوم عاشوراء من أكل فليصم بقية يومه ، ومن لم يأكل فليتم صيامه وروي من حديث أسماء بن حارثة ، وغيره عن النبي - صلى الله [ ص: 213 ] عليه وسلم - مثله ، واختلف العلماء في يوم عاشوراء فقالت طائفة : هو اليوم العاشر من المحرم وممن روي ذلك عنه سعيد بن المسيب ، والحسن بن أبي الحسن البصري ، وقال آخرون : هو اليوم التاسع منه ، واحتجوا بحديث الحكم بن الأعرج قال : أتيت ابن عباس في المسجد الحرام فسألته عن يوم عاشوراء فقال : اعدد فإذا أصبحت يوم التاسع فأصبح صائما قلت : كذلك كان محمد يصوم قال : نعم - صلى الله عليه وسلم - وقد روي عن ابن عباس القولان جميعا ، وقال قوم من أهل العلم : من أحب صوم عاشوراء صام يومين التاسع والعاشر ، وأظن ذلك احتياطا منهم ، والله أعلم ، وممن روي عنه ذلك ابن عباس أيضا ، وأبو رافع صاحب أبي هريرة ، وابن سيرين ، وقاله الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق وروى يحيى القطان عن ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس قال : كان ابن عباس يصوم عاشوراء في السفر ، ويوالي بين اليومين مخافة أن يفوته ، وروى ابن عون عن محمد بن سيرين أنه كان يصوم العاشر فبلغه أن ابن عباس كان يصوم التاسع والعاشر ؛ فكان ابن سيرين يصوم التاسع والعاشر ، وذكر عبد الرزاق قال : أنبأ ابن جريج : أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول : خالفوا اليهود ، وصوموا التاسع ، وفي اختلاف العلماء في يوم عاشوراء [ ص: 214 ] واهتبالهم بذلك دليل على فضله والله أعلم حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إبراهيم بن إسحاق النيسابوري قال : حدثنا محمد بن جعفر الوركاني قال : حدثنا سلام بن سالم الطويل عن زيد العمي عن معاوية بن قرة عن معقل بن يسار وابن عباس أنهما قالا : يوم عاشوراء اليوم التاسع ولكن اسمه العاشوراء ، وروى وكيع عن ابن أبي ذئب عن القاسم بن غنام عن عبد الله بن عمير مولى ابن عباس عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لئن بقيت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع ذكره ابن أبي شيبة وغيره عن وكيع ، وروى ابن وهب عن يحيى بن أيوب أن إسماعيل بن أمية حدثه أنه سمع أبا غطفان يقول : سمعت عبد الله بن عباس يقول : حين صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا : يا رسول الله إنه يوم يعظمه اليهود فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فإذا كان العام المقبل صمنا التاسع فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكره أبو داود عن سليمان بن داود المهري [ ص: 215 ] عن ابن وهب ، وفي هذا دليل على أنه كان يصوم العاشر إلى أن مات ، ولم يزل يصومه حتى قدم المدينة ، وذلك محفوظ من حديث ابن عباس ، وفي مواظبته على صيامه دليل على فضله ، والله أعلم والآثار عن ابن عباس في هذا الباب مضطربة مختلفة ، ولكن ما ذكره ابن وهب ووكيع أصح من حديث زيد العمي ، ومن حديث الحكم بن الأعرج ، والله أعلم ، ومن صام يومين كان على يقين من صيام عاشوراء وقال صاحب العين : عاشوراء اليوم العاشر من المحرم قال ويقال : التاسع حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ : حدثنا ابن وضاح حدثنا : ابن مقلاص عن ابن وهب قال : حدثني معاوية قال : حدثنا أبو خليفة قال : كنا مع ابن شهاب يوم عاشوراء في سفر ، وكان يأمر بفطر رمضان في السفر قال في يوم عاشوراء : فقلت : يا أبا بكر تصوم يوم عاشوراء في السفر وأنت تفطر في رمضان في السفر فقال : إن رمضان له عدة من أيام أخر وعاشوراء يفوت

التالي السابق


الخدمات العلمية