التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
959 مالك عن ابن شهاب عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله عن عبد الله بن عمرو قال : وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس في حجة الوداع بمنى يسألونه فجاء رجل فقال : يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح ؟ فقال رسول الله : " اذبح ولا حرج " فجاء رجل آخر فقال : يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي ؟ فقال : " ارم ولا حرج " قال : فما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قدم ولا أخر إلا قال : " افعل ولا حرج


هذا حديث صحيح لا يختلف في إسناده ، ولا أعلم عن مالك اختلافا في ألفاظه إلا ما رواه يحيى بن سلام عن مالك ذكره الدارقطني عن الحسن بن رشيق عن يوسف بن عبد الأحد عن سليمان بن شعيب عن أبي سلام عن مالك عن الزهري عن عيسى بن طلحة عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف للناس في حجة الوداع فقال رجل : يا رسول الله حلقت قبل أن أذبح ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اذبح ولا حرج " قال آخر : يا رسول الله ذبحت قبل أن أرمي ؟ قال : " ارم ولا حرج " قال آخر : يا رسول الله طفت بالبيت قبل أن أذبح ؟ قال : " اذبح ولا حرج " [ ص: 265 ] قال فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال : لا حرج لا حرج ، ولم يقل أحد في هذا الحديث : طفت بالبيت قبل أن أذبح إلا يحيى بن سلام ، ولم يتابع عليه ، وهكذا رواه جمهور أصحاب ابن شهاب كما رواه مالك في موطئه ، وزاد فيه صالح بن أبي الأخضر عن ابن شهاب : وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ناقته ولهذا مع ما [ ص: 266 ] روي عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث جابر ما استحب العلماء والله أعلم أن يرمي الرجل جمرة العقبة راكبا ، وممن استحب ذلك مالك والشافعي وجماعة قال مالك رحمه الله : يرمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا ، وفي غير يوم النحر ماشيا .

وفي هذا الحديث من الفقه وجوه كثيرة من أحكام الحج منها ما أجمعوا عليه ، ومنها ما اختلفوا فيه فأما قوله : فحلقت قبل أن أذبح فإن العلماء مجمعون كافة عن كافة أن واجبا على المحرم أن لا يأخذ من شعره شيئا من حين يحرم بالحج إلى أن يرمي جمرة العقبة في وقت رميها فإن اضطر إلى حلق شعره لضرورة لازمة فالحكم فيه ما نص الله في كتابه ، وبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث كعب بن عجرة ، وقد شرحنا ذلك فيما تقدم من كتابنا هذا ، وأجمعوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلق رأسه في حجته بعد ما رمى جمرة العقبة يوم النحر بعد أن نحر ، وقال : اللهم اغفر للمحلقين وأجمعوا أن [ ص: 267 ] التقصير يجزي عن الحلق لمن لم يلبد ، ولم يعقص ولم يضفر ، وأجمعوا أن الحلاق أفضل من التقصير ، وأنليس على النساء حلق وأن سنتهن التقصير ، وروى أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمى جمرة العقبة يوم النحر ، ونحر بدنة أو أمر بها فنحرت ، وقال للحلاق : دونك فحلق شقه الأيمن ثم شقه الأيسر ، وناول شعر أحد الشقين أبا طلحة ، وقسم الآخر بين من يليه الشعرة والشعرتين ، وهذا الحديث رواه هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك ، وعلى العمل به جماعة المسلمين إلا ما كان من قسم الشعر فإن ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة تبركا به ، وجعل أبو بكر بن أبي شيبة عن حفص بن غياث عن هشام في هذا الحديث موضع أبي طلحة أم سليم زوجته ، وسائر من رواه يقولون : إنه حلق شقه الأيمن ، وأعطاه أبا طلحة ، وربما قال بعضهم : إن الذي حلق من شعر رأسه الأيسر هو الذي أعطاه أبا طلحة فلا خلاف بين العلماء أن سنة الحاج أن يرمي جمرة العقبة يوم النحر ثم ينحر هديا إن كان معه ثم يحلق رأسه فمن قدم شيئا من ذلك عن موضعه أو أخره فللعلماء في ذلك ما نذكره بعون الله وحوله إن شاء الله ، ووقت رمي جمرة العقبة يوم النحر ضحى بعد [ ص: 268 ] طلوع الشمس إلى الغروب ، وأجمع علماء المسلمين على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما رماها ضحى ذلك اليوم ، وأجمعوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يرم من الجمرات يوم النحر غير جمرة العقبة ، وأجمعوا على أن من رماها من طلوع الشمس إلى الزوال يوم النحر فقد أصاب سنتها ووقتها المختار ، وأجمعوا أن من رماها يوم النحر قبل المغيب فقد رماها في وقت لها ، وإن لم يكن ذلك مستحسنا له ، واختلفوا فيمن أخر رميها حتى غربت الشمس من يوم النحر : فذكر ابن القاسم أن مالكا رحمه الله كان يقول مرة : عليه دم ومرة : لا يرى عليه شيئا قال : وقد تأخرت صفية امرأة ابن عمر على ابنة أخيها حتى أتت منى بعد ما غابت الشمس فرمت يوم النحر ، ولم يبلغنا أن ابن عمر أمرها بشيء ذكر ذلك أبو ثابت عن ابن القاسم ، وقال الثوري : من أخرها عامدا إلى الليل فعليه دم ، وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي : يرميها من الغد ، ولا شيء عليه إن كان تركها عامدا ، والناسي لا شيء عليه ، وقد قيل على العامد لذلك دم ، واختلفوا فيمن رمى جمرة العقبة في غير وقتها قبل أو بعد فأما اختلافهم فيمن رماها قبل طلوع الفجر يوم النحر فأكثر العلماء على أن ذلك لا يجزئ وعلى من [ ص: 269 ] فعله الإعادة ، وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة وأصحابه ، وأبي ثور وأحمد بن حنبل ، وإسحاق قال مالك في الموطأ : إنه سمع بعض أهل العلم يكره رمي الجمرة حتى يطلع الفجر من يوم النحر قال : فإن رمى قبل الفجر فقد حل له النحر قال مالك : ولم يبلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرخص لأحد برمي قبل الفجر فمن رماها فقد حل له الحلق ، وقال عطاء بن أبي رباح ، وابن أبي مليكة ، وعكرمة بن خالد ، وجماعة المكيين في الذي يرمي جمرة العقبة قبل طلوع الفجر إن ذلك يجزئ ولا إعادة على من فعل ذلك ، وبه قال الشافعي ، وأصحابه إذا كان الرمي بعد نصف الليل قال الشافعي : وكذلك إن نحر بعد نصف الليل ، وقبل الفجر أجزأه ، وروي عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت ترمي الجمار بالليل ، واحتج الشافعي بحديث أم سلمة وقال : أنبأ داود بن داود بن عبد الرحمن ، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي عن هشام بن عروة عن أبيه قال : دار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أم سلمة يوم النحر ، وأمرها أن تعجل الإفاضة من جمع حتى ترمي الجمرة وتوافي صلاة الصبح بمكة ، وكان يومها وأحب أن توافيه قال : وأنبأ الثقة عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله قال الشافعي : وهذا لا يكون إلا وقد رمت الجمرة قبل الفجر بساعة [ ص: 270 ] قال أبو عمر :

كان أحمد بن حنبل يدفع حديث أم سلمة هذا ويضعه ، وأما اختلافهم في رمي جمرة العقبة بعد طلوع الفجر ، وقبل طلوع الشمس فإن أكثر الفقهاء يجيزون ذلك ، وممن أجازها مالك والشافعي ، وأبو حنيفة ومن قال بقولهم ، و من رماها ، وكان عليه الإعادة ، وإن أجمعوا سلمنا للإجماع ، وحجته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رماها بعد طلوع الشمس ، ومن رماها قبل طلوع الشمس كان مخالفا للسنة ، ولزمه إعادتها في وقتها ؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل لها وقتا فمن تقدمه لم يجزه ، وزعم ابن المنذر : أنه لا يعلم خلافا فيمن رماها قبل طلوع الشمس ، وبعد طلوع الفجر : أنه يجزيه قال : ولو علمت في ذلك خلافا لأوجبت على فاعل ذلك الإعادة ، ولم يعرف قول أبي ثور الذي حكيناه .

وقد ذكره الطحاوي عن الثوري ، وذكره ابن خواز منداد أيضا فهذا حكم جمرة العقبة التي ترمى يوم النحر ، ولا يرمى من الجمار يوم النحر غيرها ، وهي ركن من أركان الحج لو وطئ المحرم قبل رميها لفسد حجه عند مالك وأصحابه فإن وطئ بعد رمي جمرة العقبة وقبل الإفاضة فعليه عندهم : أن يعتمر ويهدي ، وإنما أمروه بالعمرة ليكون طوافه للإفاضة في إحرام صحيح ، وهذا هو المشهور من مذهب مالك عند [ ص: 271 ] أصحابه وذكر ابن أبي حازم أن مالكا رجع عن هذا القول إلى أن قال : من وطئ بعد رمي جمرة العقبة وقبل الإفاضة فعليه هدي بدنة لا غير ، ومن وطئ قبل جمرة العقبة ، وبعد الوقوف بعرفة اعتمر وأهدى ، وأجزأ عنه هذه رواية ابن أبي حازم عن مالك ، وهي رواية شاذة عند المالكيين لا يعرفونها ، والمعروف عندهم ما قدمنا ذكره ، وعلى رواية ابن أبي حازم عن مالك جماعة من العلماء منهم الشافعي ، وأبو حنيفة والثوري ، وقد روى مالك عن أبي الزبير عن عطاء عن ابن عباس في الذي يطأ أهله بعد رمي جمرة العقبة ، وقبل أن يفيض أنه ينحر بدنة ويجزيه ، وروي عن ثور بن زيد عن عكرمة أظنه عن ابن عباس أنه يعتمر ويهدي ، ورواية ثور عن عكرمة في هذا كمال ؛ لأن أيوب روى عن عكرمة أنه قال : ما أفتيت برأي قط إلا في ثلاث مسائل : إحداهن في الذي يصيب أهله قبل أن يطوف للإفاضة يعتمر ويهدي ، وقال مالك وجمهور أصحابه في الذي يطأ أهله بعد يوم النحر قبل رمي جمرة العقبة : أنه يرمي الجمرة ، ويطوف للإفاضة ، وعليه أن يعتمر ويهدي ليس ذلك ، وإنما يفسد حجه عندهم إذا وطئها يوم النحر قبل أن يرمي الجمرة ، وأما إن وطئها بعد يوم النحر فإن عليه أن [ ص: 272 ] يعتمر ويهدي وسواء وطئها قبل رمي جمرة العقبة أو بعد إذا كان قد وقف ليلا بعرفة ، وكان وطؤه بعد يوم النحر ، وقد ذكر ابن حبيب عن مالك وأصحابه فيمن وطئ قبل رمي جمرة العقبة أنه يفسد حجه ، وإن كان بعد يوم النحر ، وهذا غير معروف في مذهب مالك وأصحابه ، والمعروف ما ذكرت لك فهذه أحكام جمرة يوم النحر فيمن وطئ قبلها أو بعدها ، وليس لشيء من الجمار حكمها ، وأما الجمار التي ترمى في أيام منى بعد يوم النحر فأجمع علماء المسلمين أن وقت الرمي يوم النحر بعد زوال الشمس ، وقال مالك والثوري والأوزاعي ، والشافعي وأبو يوسف : لا يجزئ الرمي يوم النحر إلا بعد الزوال ، وقال أبو حنيفة : إن فعله أحد قبل الزوال أجزأه ، وعن عطاء وطاوس وعكرمة مثل قول أبي حنيفة إلا أن طاوسا قال : إن شاء رمى من أول النهار ونفر ، وقال عكرمة : إن رمى أول النهار لم ينفر حتى تزول الشمس ، وعن عمر وابن عباس وابن عمر وجماعة التابعين مثل قول مالك في ذلك .

أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرمي يوم النحر ضحى فأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس ، وكان يرميها على راحلته ويقول لنا : " خذوا عني مناسككم فلعلي لا أحج بعد حجتي هذه " وقال مالك في الموطأ : السنة الثابتة التي لا اختلاف فيها عندنا [ ص: 273 ] أن أحدا لا يحلق رأسه ، ولا يأخذ من شعره حتى ينحر هديا إن كان معه ، وذلك أن الله عز وجل يقول في كتابه ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله وقال مالك : الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا : أن من قرن بين الحج والعمرة لم يأخذ من شعره شيئا حتى ينحر هديا إن كان معه ، ولا يحل من شيء كان حرم عليه حتى يحل يوم النحر بمنى ، وسئل مالك عن الرجل ينسى الحلاق في الحج بمنى أواسع له أن يحلق بمكة ؟ قال : ذلك واسع والحلاق بمنى أحب إلي قال أبو ثابت : قلت لابن القاسم : ما قول مالك فيمن حلق قبل أن يرمي جمرة العقبة ؟ فقال : قال مالك : عليه الفدية قيل له : فما قول مالك فيمن حلق قبل أن يذبح ؟ قال : لا شيء عليه ، وهو يجزئه قيل له : فما قول مالك إن ذبح قبل أن يرمي ؟ قال : يجزئه ، ولا شيء عليه .

قال أبو عمر :

لم يختلف قول مالك وأصحابه فيمن حلق قبل أن يرمي جمرة العقبة أن عليه الفدية ، ويمر بعد ذلك الموسى على رأسه ، وذكر ابن عبد الحكم فيمن طاف طواف الإفاضة قبل أن يرمي جمرة العقبة يوم النحر أنه يرمي ثم يحلق رأسه ثم يعيد الطواف للإفاضة قال : ومن طاف للإفاضة قبل الحلاق إلا أنه قد رمى جمرة العقبة فإنه يحلق رأسه ثم يعيد طواف الإفاضة فإن لم يعد الطواف فلا شيء عليه ؛ لأنه قد طاف ، وقال إسماعيل القاضي : من حلق قبل أن يذبح لم يكن عليه شيء ؛ لأن الظاهر يدل على أنه من رمى جمرة العقبة ثم حلق قبل أن يذبح فلا شيء عليه ، وقد كان ينبغي له أن يذبح ثم يحلق بعد الذبح فلما بدأ بالحلاق كان قد أخطأ ، ولم يكن عليه شيء لأن الرمي يحل به [ ص: 274 ] الحلق ألا ترى أن رجلا لو لم يكن معه هدي ثم رمى جمرة العقبة حل له الحلق ، ولبس الثياب ، وما أشبه ذلك ؛ فلهذا المعنى لم يكن على من بدأ بالحلق قبل الذبح شيء .

قال إسماعيل : وإذا نحر قبل أن يرمي لم يكن أيضا عليه شيء ؛ لأن الهدي قد بلغ محله ألا ترى أن معتمرا لو ساق معه هديا فنحره حين بلغ مكة قبل أن يطوف ويسعى لكان قد أخطأ ، ولم يكن عليه إبدال الهدي ، وإنما كان ينبغي له أن لا ينحر الهدي حتى يخلو من طوافه وسعيه فينحر الهدي ثم يحلق فلما أخطأ لم يكن عليه الإبدال ؛ لأن الهدي قد بلغ محله ، ولم يكن في شيء من ذلك انتقاص لعمرته ؛ لأن الرجل قد يعتمر ولا يسوق هديا فتكون عمرته تامة ، ولو نحر هديه قبل أن يبلغ محله في الحج لم يكن إبدال الهدي خاصة ، ولا يكون عليه في ذلك انتقاص لشيء من أمر الحج قال إسماعيل : وهاتان الخلتان هما المبتغتان في حديث الزهري عن عيسى بن طلحة عن عبد الله بن عمرو قال إسماعيل : والذي رواه هشام بن حسان عن عطاء عن ابن عباس مثله في المعنى ، والذي رواه وهيب عن ابن طاوس أنه لا يبين فيه خلاف حديث الزهري ، والذي رواه خالد عن عكرمة عن ابن عباس ذكر فيه أنه رمى بعدما أمسى ، وهذا أيضا ليس فيه انتقاص للحج ، وإنما كان ينبغي له أن يرمي جمرة العقبة في ذلك اليوم قبل الزوال فلما أخطأ وأخرها إلى بعد الزوال لم [ ص: 275 ] يكن عليه شيء ؛ لأن مالكا قال : إذا رمى جمرة العقبة يوم النحر في بقية النهار لم يكن عليه شيء ، وإن أخرها إلى الليل فإن أبا ثابت حكى عن ابن القاسم قال : كان مالك مرة يقول : عليه دم ومرة لا يراه عليه قال : وقد تأخرت صفية امرأة ابن عمر عن ابنة أخيها حتى أتت منى بعد ما غابت الشمس يوم النحر فرمت ، ولم يبلغنا أن ابن عمر أمرها بشيء .

قال أبو عمر :

قد روى سحنون عن ابن القاسم أن مالكا لم يأخذ برخصة ابن عمر لصفية في أن من أخر رمي جمرة العقبة حتى الليل ، ورماها بالليل عليه لذلك دم ، والذي رواه أبو ثابت عن ابن القاسم أتم وأكثر العلماء على أنه ليس في ذلك دم ، وقد ذكرنا هذه المسألة ، وما للعلماء فيها من الأقوال فيما تقدم من هذا الباب ، والحمد لله قال إسماعيل : وحديث عكرمة يدل على أن الرجل رمى بالعشي ؛ لأنه حكى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل يومئذ فعلم أن المسألة كانت في اليوم قال : والظاهر أيضا في قوله بعدما أمسيت يدل على العشي ؛ لأنه الغالب في كلام الناس فهذا هو النص القوي في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأما ما يزاد في الأحاديث الضعيفة فهو شيء لا يدرى كيف صحته ؟ والله أعلم به قال أبو عمر :

اللفظ الذي أنكره إسماعيل في هذا الحديث على من ذكره وزاده وأتى به هو قوله حلقت قبل أن أرمي ، وهو محفوظ في الأحاديث ثم [ ص: 276 ] ذكر إسماعيل حديث ابن شهاب فقال : حدثنا علي بن المديني قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل يومئذ فيقول : " لا حرج " فسأله رجل فقال : حلقت قبل أن أذبح فقال : " لا حرج " فقال : رميت بعد ما أمسيت قال : لا حرج قال إسماعيل : وثنا نصر بن علي عن يزيد بن زريع مثله قال : وحدثنا إبراهيم بن الحجاج قال : حدثنا وهيب عن ابن طاوس عن طاوس عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له يوم النحر وهو بمنى في الرمي والحلق والتقديم والتأخير فقال : لا حرج قال إسماعيل : وثنا نصر بن علي قال : حدثنا هشام عن عطاء عن ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل يوم النحر عن رجل حلق قبل أن يذبح ؟ أو ذبح قبل أن يرمي وأشباه هذا فأكثروا في التقديم والتأخير فما سأله أحد يومئذ عن شيء من هذا النحو إلا قال : " لا حرج " وقال أبو ثابت عن ابن القاسم : قال مالك : إن ذبح المحرم ذبيحته قبل الفجر أعاد ذبيحته قال أبو عمر :

قوله هذا معناه عندي على أصله أن الذبح بالليل لا يجزئ في الهدي والضحايا ، ولا وجه له عندي غير ذلك على مذهبه ألا ترى إلى ما قدمنا من قوله : أن من رمى قبل الفجر وإن كان لا يجزئه رميه أن النحر قد حل له ، وقوله : إن من قدم نحره قبل رميه لا شيء عليه قال إسماعيل : ولا يضره ذلك ، ولا ينتقص من حجه شيء لأن هديه قد بلغ [ ص: 277 ] محله فإذا لم يفسد عليه ما قدمه من نحره قبل رميه شيئا من حجه ، ولا أوجب عليه شيئا فلا وجه لإعادة ما نحره من هديه إلا من أجل أنه ذبحه بالليل ، وذلك لا يجزئه عنده لقول الله عز وجل ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فذكر الأيام دون الليالي ، وعند غيره : الليالي تبع للأيام والله أعلم .

قال أبو عمر :

اختلف العلماء فيمن قدم نسكا قبل نسك أو أخره مما يصنعه الحاج يوم النحر خاصة مثل تقديم النحر قبل الرمي ، أو الحلق قبل النحر ، أو قبل الرمي ، فأما اختلافهم فيمن حلق قبل أن يرمي فإن مالكا قال ما تقدم ذكره عنه ، وعليه أصحابه في إيجاب الفدية في ذلك قال : ومن ذبح قبل أن يرمي أو حلق قبل أن يذبح فلا شيء عليه ، وروي عن ابن عباس أنه قال : من قدم من حجه شيئا أو أخره فعليه دم ، ولا يصح ذلك عنه ، وعن إبراهيم وجابر بن زيد مثل قول مالك في إيجاب الفدية على من حلق قبل أن يرمي ، وهو قول الكوفيين ، وقال الشافعي وأبو ثور وأحمد بن حنبل ، وإسحاق وداود والطبري : لا شيء على من حلق قبل أن يرمي ، ولا على من قدم شيئا أو أخره ساهيا مما يفعل يوم النحر ، وروي عن الحسن وطاوس أنه لا شيء على من حلق قبل أن يرمي مثل قول الشافعي ، ومن تابعه ، وعن عطاء بن أبي [ ص: 278 ] رباح : من قدم نسكا قبل نسك فلا حرج ، وروي ذلك عن سعيد بن جبير وطاوس ومجاهد وعكرمة وقتادة ، وذكر ابن المنذر عن الشافعي في هذه المسألة : من حلق قبل أن يرمي : أن عليه دما ، وزعم أن ذلك حفظه عن الشافعي ، وهو خطأ على الشافعي ، والمشهور من مذهبه في كتبه ، وعند أصحابه : أنه لا شيء على من قدم أو أخر من أعمال الحج كلها شيئا إذا كان ساهيا ، وأما اختلافهم فيمن حلق قبل أن يذبح فجمهور العلماء على أن لا شيء عليه كذلك قال عطاء وطاوس وسعيد بن جبير ، وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة ، وهو قول مالك والأوزاعي والثوري والشافعي ، وأبي ثور وأحمد وإسحاق وداود ومحمد بن جرير وقال إبراهيم النخعي : من حلق قبل أن يذبح أهراق دما ، وقال جابر بن زيد : عليه الفدية ، وقال أبو حنيفة : عليه دم قال : وإن كان قارنا فعليه دمان : دم للقران ، ودم للحلق ، وقال زفر على القارن : إذا حلق قبل أن ينحر ثلاثة دماء دم للقران ودمان للحلق قبل النحر ، ولا أعلم خلافا فيمن نحر قبل أن يرمي أنه لا شيء عليه ، وذلك والله أعلم ؛ لأن الهدي قد بلغ محله مع ما جاء في حديث ابن شهاب هذا من قوله - صلى الله عليه وسلم - لمن نحر قبل أن يرمي أو حلق قبل أن يذبح " لا حرج " ، وحجة من لم يوجب على من قدم شيئا من نسك يوم النحر أو أخره ساهيا الأخبار التي رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ففي بعضها : من قدم نسكا قبل نسك لا حرج ، وفي بعضها : أن القائل قال : حلقت قبل أن أرمي ، وحلقت قبل أن أذبح ، وذبحت قبل أن أرمي أخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا محمد بن شعيب قال : [ ص: 279 ] أخبرنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا سفيان عن الزهري عن عيسى بن طلحة عن عبد الله بن عمرو قال : سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رجل حلق قبل أن يذبح ؟ قال : اذبح ولا حرج ، وقال آخر : ذبحت قبل أن أرمي ؟ قال : ارم ولا حرج قال : فما سئل عن شيء قدمه رجل قبل شيء إلا قال : " افعل ولا حرج " .

قال أبو عمر :

فقوله في هذا الحديث : فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال : افعل ولا حرج من رواية مالك وغيره ، به احتج الشافعي ، ومن تابعه وبالله التوفيق .

حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا جرير عن الشيباني عن زياد بن علاقة عن أسامة بن زيد عن أسامة بن شريك قال : خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حاجا فكان الناس يسألونه فمن قال : سعيت قبل أن أطوف ، أو أخرت شيئا أو قدمت شيئا فكان يقول : " لا حرج " واختلفوا فيمن أفاض قبل أن يحلق بعد الرمي فكان ابن عمر يقول : يرجع فيحلق أو يقصر ثم يرجع إلى البيت فيفيض ، وقال عطاء ومالك والشافعي وسائر الفقهاء : تجزئه الإفاضة ، ويحلق أو يقصر ، ولا شيء عليه ، وهذا كله في معنى الحديث أخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : [ ص: 280 ] أخبرنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا منصور عن عطاء عن ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عمن حلق قبل أن يذبح ؟ أو ذبح قبل أن يرمي ؟ فجعل يقول : " لا حرج لا حرج " ، ورواه قيس بن سعد عن عطاء عن جابر مرفوعا مثله ، وزاد فيه ، وقال آخر : طفت بالبيت قبل أن أذبح ؟ قال : اذبح ولا حرج ، وحديث قيس بن سعد عن عطاء عن جابر ، رواه حماد بن سلمة عن قيس هكذا كما ذكرنا .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : حدثنا عمرو بن منصور قال : حدثنا المعلى بن أسد قال : حدثنا وهيب عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه قيل له يوم النحر بمنى في النحر والحلق ، والرمي والتقديم والتأخير ؟ فقال : " لا حرج " .

التالي السابق


الخدمات العلمية