التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
101 [ ص: 100 ] حديث ثان لابن شهاب عن عروة .

مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجنابة .


هكذا قال مالك في هذا الحديث ، وتابعه ابن عيينة والليث بن سعد على إسناده ، ومتنه إلا أنهما زادا فيه : وكنت أغتسل أنا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ، وهذا اللفظ عند مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، وروى هذا الحديث عن ابن شهاب معمر ، وابن جريج بمثل إسناد مالك إلا أنهما قالا : " كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد " هو الفرق فأتيا بلفظ حديث مالك عن هشام بن عروة فذكرا فيه الفرق ، وليس في حديث هشام ذكر الفرق .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا الزهري قال : أخبرني عروة بن الزبير قال : سمعت عائشة تقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل في القدح ، وهو الفرق وكنت أغتسل أنا ، وهو من إناء واحد ، فأتى بحديثي مالك جميعا عن ابن شهاب ، وهشام في هذا الإسناد ، وكذلك رواه الليث .

[ ص: 101 ] حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا حمزة بن محمد قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا الليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل في القدح ، وهو الفرق ، وكنت أغتسل أنا وهو من إناء واحد . حدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : حدثنا معمر وابن جريج عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ، وهو قدر الفرق ، ورواه إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب فخالف جميعهم في إسناده ، وجعله عن القاسم ، ولم يجعله عن عروة . حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال : حدثنا سليمان بن داود قال : حدثنا إبراهيم بن سعد قال : حدثنا ابن شهاب عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من إناء هو الفرق قالت : عائشة : وكنت أغتسل معه في الإناء الواحد قال ابن شهاب : وأظن الفرق يومئذ خمسة أقساط . [ ص: 102 ] قال أبو عمر :

لا أدري ما أراد ابن شهاب بالقسط ، ولا ما كان مقداره عندهم ، وأما العرب فالقسط عندها الحصة والمقدار كذلك قال الخليل ، وقال الخليل : الفرق مكيال ، وقال ابن وهب : الفرق مكيال من خشب كان ابن شهاب يقول : إنه يسع خمسة أقساط بأقساط بني أمية ، وفسر محمد بن عيسى الأعشى عن ابن كنانة الفرق ، أنه ثلاثة أصوع قال الأعشى : والثلاثة أصوع خمسة أقساط ، وفي الخمسة أقساط اثنا عشر مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن مزين : قال لي عيسى بن دينار : قال لي ابن القاسم ، وسفيان بن عيينة في الفرق : إنه كان يحمل ثلاثة أصوع ، وقال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل يقول : الفرق ستة عشر رطلا ، وقال موسى الجهني : عن مجاهد أنه أتى بقدح - حزرته ثمانية أرطال - فقال : حدثتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بمثل هذا ، وقال الأثرم سمعت : أبا عبد الله يسأل عن الفرق كم هو ؟ قال : ثلاثة أصوع . قال أبو عمر :

قول ابن شهاب ، وابن عيينة ، وابن القاسم ، والأعشى قريب من قريب في مقدار الفرق ، وكذلك قول أحمد بن حنبل ، وأما قول مجاهد فبعيد ، وقول أولئك أولى ، والله أعلم .

[ ص: 103 ] وروى في الموطأ الفرق ( والفرق ) بتسكين الراء ، وتخفيفها ، وحركتها ، ورواية يحيى بالإسكان ، وتابعه قوم ، وأما قول عائشة كنت أغتسل أنا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد فرواه عبد الرحمن بن القاسم ( عن أبيه عن عائشة من حديث شعبة ) وغيره عن عبد الرحمن ( ورواه إبراهيم عن الأسود عن عائشة ، ورواه هشام عن أبيه عن عائشة ) وقد ذكرنا الاختلاف فيه على ابن شهاب ، وفيه من الفقه : ترك التحديد فيما يكفي من الماء ، وأن فضل المرأة لا بأس بالوضوء منه وسنذكر الاختلاف في ذلك ، ووجه الصواب فيه إن شاء الله عند ذكر حديث نافع عن ابن عمر إن كان الرجال ، والنساء ليتوضئون جميعا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأن حديث هشام بن عروة هذا ليس من رواية مالك في الموطأ ، وإذا توضأ الاثنان وأكثر من إناء واحد ففي ذلك دليل على أنه لا تحديد ، ولا توقيف فيما يكفي المغتسل ، والمتوضئ من الماء ، وحسبه الإتيان بالماء على ما يغسل من الأعضاء غسلا ، وعلى ما يمسح مسحا ، وأما حديث ابن شهاب المذكور في هذا الباب ففيه من الفقه الاقتصار على أقل ما يكفي من الماء ، وأن الإسراف فيه مذموم ، وفي ذلك رد على الإباضية ، ومن ذهب مذهبهم في الإكثار من الماء وهذا ما [ ص: 104 ] سيق هذا الحديث ( له ) والله أعلم ، إنكارا على أولئك ( الطائفة ) ; لأنه مذهب ظهر في زمن التابعين ، وسئل عنه الصحابة ، ونقل ( في ) ذلك من الحديث ما ترى ، وروى عبد الله بن المبارك عن شعبة عن عبد الله ( بن عبد الله ) بن جبر عن أنس بن مالك قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بمكوك ويغتسل بخمس مكاكيك .

وقال الخليل : الصاع طاس يشرب به والمكوك مكيال ، وقال أبو جعفر محمد بن علي : تمارينا في الغسل عند جابر ، فقال جابر : يكفي للغسل صاع من ماء قلنا : ما يكفي صاع ، ولا صاعان فقال جابر : قد كان يكفي من كان خيرا منكم ، وأكثر شعرا [ ص: 105 ] وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه كان يتوضأ بالمد ، ويغتسل بالصاع وهي آثار مشهورة مستعملة ، عند قوم من الفقهاء ، وليست أسانيدها مما يحتج به ، والذي اعتمد عليه البخاري ، وأبو داود في باب ما يكفي الجنب من الماء حديث الفرق المذكور في هذا الباب ، وهذه الآثار كلها إنما رويت إنكارا علىالإباضية ، وجملتها تدل على أن لا توقيت فيما يكفي من الماء ، والدليل على ذلك أنهم أجمعوا أن الماء لا يكال للوضوء ، ولا للغسل من قال منهم بحديث المد والصاع ومن قال بحديث الفرق لا يختلفون أنه لا يكال ( الماء ) لوضوء ، ولا لغسل لا أعلم في ذلك خلافا ، ولو كانت الآثار في ذلك على التحديد الذي لا يتجاوز استحبابا ، أو وجوبا ؛ ما كرهوا الكيل بل كانوا يستحبونه اقتداء وتأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يكرهونه .

روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال : سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير يقول : صاع للغسل من ( غير ) أن يكال قال : وأخبرني ابن جريج قال : قلت لعطاء : كم بلغك أنه يكفي الجنب ؟ قال : صاع من ماء من غير أن يكال .

[ ص: 106 ] حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الحميد بن أحمد ، حدثنا الخضر بن داود ، حدثنا أبو بكر الأثرم حدثنا القعنبي قال : حدثنا سليمان بن بلال عن عبد الرحمن بن عطاء أنه سمع سعيد بن المسيب ، ورجل من أهل العراق يسأله عما يكفي الإنسان في غسل الجنابة فقال له سعيد : إن لي تورا يسع مدين من ماء ، أو نحوهما وأغتسل به فيكفيني ، ويفضل منه فضل فقال الرجل : والله ( إني ) لأستنثر بمدين من ماء فقال سعيد بن المسيب : فما تأمرني إن كان الشيطان يلعب بك فقال له الرجل : وإن لم يكفني فإني رجل - كما ترى - عظيم ، فقال له سعيد : ثلاثة ( أمداد ) فقال : إن ثلاثة أمداد قليل فقال له سعيد : فصاع ، قال عبد الرحمن : وقال لي سعيد : إن لي لركوة ، أو قدحا ما يسع إلا نصف المد ، ونحوه ، وإني لأتوضأ منه ، وربما فضل ( منه ) فضل قال عبد الرحمن : فذكرت هذا الحديث الذي سمعت من سعيد بن المسيب لسليمان بن يسار فقال ( لي ) سليمان بن يسار : وأنا يكفيني مثل ذلك قال عبد الرحمن : فذكرت ذلك لأبي عبيدة ( بن [ ص: 107 ] محمد ) بن عمار بن ياسر فقال أبو عبيدة : هكذا سمعنا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الأثرم : وحدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا عكرمة بن عمار قال : كنت مع القاسم بن محمد فدعا بوضوء فأتي بقدر نصف مد ، وزيادة قليل فتوضأ به قال : وسألت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل أيجزئ في الوضوء مد ؟ قال : نعم إذا أحسن أن يتوضأ ( به ) قلت : فإن الناس في الأسفار ربما ضاق عليهم الماء أفيجزئ الرجل أن يتوضأ بأقل من المد قال : إذا أحسن أن يتوضأ به فإنه يجزئه ، ثم قال أبو عبد الله : لا يمسح إنما هو الغسل قال الله عز وجل : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم فإنما هو الغسل ، ليس هو المسح ، فإذا أمكنه أن يغسل به غسلا فإن مدا ، أو أقل أجزأه . قال أبو عمر : على هذا جماعة العلماء من أهل الفقه ، والأثر بالحجاز ، والعراق ، ولا يخالف ( في ) هذا إلا مبتدع ضال ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية