التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
264 [ ص: 121 ] حديث رابع لابن شهاب عن عروة

مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة فإذا فرغ منها اضطجع على شقه الأيمن .


إلى هاهنا انتهت رواية يحيى في هذا الحديث ، وتابعه القعنبي وجماعة الرواة للموطأ ، وأما أصحاب ابن شهاب فرووا هذا الحديث عن ابن شهاب بإسناده هذا فجعلوا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر لا بعد الوتر ، وذكر بعضهم فيه عن ابن شهاب أنه كان يسلم من كل ركعتين في الإحدى عشرة ركعة ، ومنهم من لم يذكر ذلك ، وكلهم ذكر اضطجاعه بعد ركعتي الفجر في هذا الحديث ، وزعم محمد بن يحيى ، وغيره أن ما ذكروا من ذلك هو الصواب دون ما قاله مالك .

قال أبو عمر : لا يدفع ما قاله ( مالك ) من ذلك لموضعه من الحفظ ، والإتقان وثبوته في ابن شهاب ( وعلمه بحديثه ) ( معنى ) ما قاله مالك في هذا الحديث ( منصوصا ) في حديثه عن [ ص: 122 ] ابن سليمان عن كريب عن ابن عباس حين بات ، عند ميمونة خالته قال : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين ، عند ركعتين حتى انتهى إلى اثنتي عشرة ركعة قال : ثم أوتر ، ثم اضطجع حتى أتاه المؤذن فصلى ركعتين .

ففي هذا الحديث أن اضطجاعه صلى الله عليه وسلم كان بعد الوتر وقبل ركعتي الفجر على ما ذكر مالك في حديث ابن شهاب ( هذا ) فغير نكير أن يكون ما قاله مالك في حديث ابن شهاب وإن لم يتابعه عليه أحد من أصحاب ابن شهاب ، وقال محمد بن يحيى الذهلي في حديث ابن شهاب هذا عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة فإذا انفجر الصبح صلى ركعتين خفيفتين قال : هكذا رواه معمر وعقيل وشعيب بن أبي حمزة لم يقولوا ( في حديثهم ) يسلم من كل ركعتين ، ولا ذكروا يوتر بواحدة قال : وذكر فيه يونس الأيلي ، وابن [ ص: 123 ] أبي ذئب ، والأوزاعي يسلم من كل ركعتين ويوتر بواحدة ، وذكر فيه مالك يوتر بواحدة ، ولم يذكر : يسلم من كل ركعتين .

حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم ، ونصر بن عاصم الأنطاكي قال : حدثنا الوليد قال : حدثنا الأوزاعي ، وابن أبي ذئب عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يخلو من صلاة العشاء إلى أن ينصدع الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل اثنتين ، ويوتر بواحدة ، ويمكث في سجوده قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه فإذا سكت المؤذن بالأول من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن ، وذكر ابن وهب في موطئه عن عمرو بن الحارث ، ويونس بن يزيد ، وابن أبي ذئب عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة مثله ، وأخبرنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا مطلب بن شعيب قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني الليث قال : حدثني عقيل عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 124 ] يصلي إحدى عشرة ركعة فيما بين أن يخلو من صلاة العشاء إلى الفجر بالليل سوى ركعتي الفجر ، ويسجد قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه ، فإذا سكت المؤذن بالأول من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن .

وفي هذا الحديث من الفقه : أن قيام الليل سنة مسنونة ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله ، وواظب عليه ، ولفظ الحديث يدل على مداومته على ذلك صلى الله عليه وسلم وذلك معروف محفوظ يغني عن الإكثار فيه ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقوم حتى ترم قدماه فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : ألا أكون عبدا شكورا .

والوتر سنة ، وهو من صلاة الليل ; لأنه بها سمي وترا ، وإنما هو وتر لها ، وقد أوجبه بعض أهل الفقه فرضا ، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي : إنه ليس عليه غير الخمس إلا أن يطوع ما يرد قوله وسنبين ذلك بحجته في موضع من كتابنا إن شاء الله وأوجب بعض التابعين قيام الليل فرضا ولو كقدر حلب شاة ، وهو قول شاذ ، [ ص: 125 ] متروك لإجماع العلماء ( على ) أن قيام الليل منسوخ عن الناس بقوله عز وجل علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن والفرائض لا تثبت إلا بتقدير ، وتحصيل ، وللكلام في ذلك موضع غير هذا ، وأما الإحدى عشرة ركعة المذكورة في هذا الحديث فمحملها عندنا أنها كانت مثنى مثنى حاشا ركعة الوتر بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر " صلاة الليل مثنى مثنى " وأن ذلك قد ذكره في هذا الحديث جماعة من أصحاب ابن شهاب منهم الأوزاعي ، وابن أبي ذئب ، وعمرو بن الحارث ، ويونس بن يزيد ، وهذا موضع فيه اختلاف بين أهل العلم لاختلاف الآثار في ذلك ، وسنذكر ما قالوه فيه في باب نافع من هذا الكتاب ويأتي منه ذكر في باب سعيد بن أبي سعيد إن شاء الله وقد ذهب قوم إلى أن المصلي بالليل إذا ركع ركعتي الفجر كان عليه أن يضطجع على ما جاء في هذا الحديث ، وزعموا أن الاضطجاع سنة في هذا الموضع ، واحتجوا بحديث ابن شهاب هذا عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن ، هكذا قال كل من روى هذا الحديث عن ابن شهاب إلا مالك بن أنس فإنه جعل الاضطجاع ( في هذا الحديث ) بعد الوتر ، واحتج أيضا من ذهب إلى الاضطجاع بعد ركعتي الفجر مع ما ذكرنا بحديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 126 ] إذا صلى أحدكم ركعتين قبل الصبح فليضطجع على يمينه الحديث . حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد قال : حدثنا الأعمش ، فذكره بإسناده سواء ، وأبى جماعة من أهل العلم ذلك ، وقالوا : ليس الاضطجاع بسنة ، وإنما كان ( ذلك ) راحة لطول قيامه ، واحتجوا بحديث أبي سلمة عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر فإن كنت نائمة اضطجع ، وإن كنت مستيقظة حدثني ( وفي لفظ بعض الناقلين لهذا الحديث : إن كنت مستيقظة حدثني ) وإلا اضطجع .

وقد قال ابن القاسم : ورواه عن مالك أيضا أنه لا بأس بالضجعة بين ركعتي الفجر ، وصلاة الصبح إن لم يرد بها أن يفصل بينهما ، وقال الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر فقال : ما أفعله أنا ، فإن فعله رجل ، ثم سكت كأنه لم يعبه ، إن فعله قيل له لم لم تأخذ به ؟ فقال : ليس فيه حديث يثبت ، قلت له : حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : رواه بعضهم مرسلا ، وذكر أبو بكر الأثرم من وجوه عن ابن عمر أنه أنكره ، وقال : إنها بدعة ، وعن إبراهيم ، وأبي عبيدة ، وجابر بن زيد أنهم أنكروا ذلك .

[ ص: 127 ] وفي هذا الحديث أيضا من الفقه : رواية مالك مما رواه أصحاب ابن شهاب عنه على ما ذكرناه في هذا الباب من اتخاذ مؤذن راتب للأذان ، وفيه إشعار المؤذن للإمام بدخول الوقت ، وإعلامه بذلك ، وفي ذلك ما يدل على أن على المؤذنين ارتقاب الأوقات ، وقد احتج بعض من لا يجيز الأذان للصبح قبل الفجر بحديث ابن شهاب هذا ، من رواية عقيل ، وغيره ; لأن فيه : فإذا سكت المؤذن الأول من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين قالوا : فهذا يدل على أن الأذان لصلاة الفجر إنما كان بعد الفجر في حين يجوز فيه ركوع ركعتي الفجر لقوله : المؤذن الأول ، وهذا التأويل قد عارضه نص قوله صلى الله عليه وسلم إن بلالا ينادي بليل ، وسيأتي القول فيه في باب ابن شهاب عن سالم إن شاء الله ، وفيه أن ركعتي الفجر خفيفتان .

وفيه دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يترك ركعتي الفجر ، وأنه كان يواظب عليهما كما يواظب على الوتر ، واختلف العلماء في الأوكد منهما ، فقالت طائفة : الوتر أوكد وكلاهما سنة ومن أصحابنا من يقول : ( ركعتا الفجر ) ليستا بسنة ( وهما من الرغائب ) والوتر سنة مؤكدة [ ص: 128 ] وقال آخرون : ركعتا الفجر سنة مؤكدة ( كالوتر ، وقال آخرون : هما أوكد من الوتر لأن ) الوتر ليس بسنة إلا على أهل القرآن ، ولكل واحد من هذه الطوائف حجة من جهة الأثر سنذكرها في أولى المواضع بها من كتابنا هذا إن شاء الله .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ركعتا الفجر أحب إلي من الدنيا وما فيها وفاتتا عبد الله بن أبي ربيعة فأعتق رقبة ، واحتج بعض من ذهب إلى أن ركعتي الفجر أوكد من الوتر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاهما ( حين نام عن الصلاة في سفره كما قضى الفريضة ، وأن الوتر لا يقضى بعد صلاة الصبح ) وأنه لا يقضى شيء من ( السنن ) والنوافل غيرها وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية