التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1870 [ ص: 150 ] حديث ثامن لابن شهاب عن عروة

مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما فيسألنه ميراثهن من النبي صلى الله عليه وسلم فقالت لهن عائشة أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نورث ما تركنا ( فهو ) صدقة ؟ .


هكذا روى هذا الحديث مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعله عن عائشة عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم وكل أصحاب مالك رووه عنه كذلك إلا إسحاق بن محمد الفوري ، فإنه قال فيه عن أبي بكر الصديق عن النبي صلى الله عليه وسلم والصواب عن مالك ما في الموطأ عن [ ص: 151 ] عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد تابعه على ذلك يونس بن يزيد فجعله أيضا عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم كرواية مالك سواء إلا أن في رواية مالك أردن أن يبعثن ، وفي رواية يونس قالت : أرسل إلى أبي بكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألنه ميراثهن ما أفاء الله على رسوله قالت عائشة : حتى كنت أنا التي أردهن عن ذلك فقلت لهن ألا تتقين الله ألم تسمعن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا نورث ، ما تركنا صدقة ، إنما يأكل آل محمد في هذا المال هذا ( لفظ ) يونس رواه ابن وهب عن يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : أرسل وساق الحديث ، ورواه معمر وعبيد الله بن عمر وعقيل وأسامة بن زيد كلهم عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة عن أبي بكر الصديق عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والحديث لأبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم - صحيح . أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن عبد السلام قال : حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا صفوان بن عيسى قال : حدثنا أسامة عن الزهري عن عروة عن عائشة عن أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ، ما تركنا صدقة ، وأخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد قال : حدثنا أحمد بن [ ص: 152 ] الفضل بن العباس قال : حدثنا محمد بن جرير قال : حدثنا عمرو بن مالك قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة عن أبي بكر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نورث ، ما تركنا صدقة .

وأخبرنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، وأبو أسامة عن عبيد الله بن عمر ( عن الزهري ) عن عروة عن عائشة عن أبي بكر قال : سمعت رسول الله يقول : لا نورث ، ما تركنا صدقة ، وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد قال : حدثنا محمد بن أحمد بن تميم قال : حدثنا عيسى بن مسكين قال : حدثنا سحنون قال : حدثنا ابن وهب قال : حدثني الليث بن سعد عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة ، وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا المطلب بن شعيب قال : حدثني عبد الله بن صالح قال : حدثني الليث قال : أخبرني عقيل عن ابن شهاب قال : أخبرني ( عروة بن الزبير ) عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وخمس خيبر فقال أبو بكر لها : إن رسول الله [ ص: 153 ] صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال ، وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ففي رواية عقيل هذه أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها ، وفي رواية مالك ويونس أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعلن ذلك ، والقلب إلى رواية مالك أميل ; لأنه أثبت في الزهري ، وقد تابعه يونس ، وإن كان عقيل قد جود هذا الحديث وسؤال فاطمة أبا بكر ذلك مشهور معلوم من غير هذا الحديث ، وغير نكير أن يكن كلهن يسألن ذلك ، ولم يكن عندهن علم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، فلما أعلمهن أبو بكر سكتن وسلمن ، وهذا مما أخبرتك أن هذا من علم الخاصة ، لا ينكر جهل مثله من أخبار الآحاد على أحد ألا ترين أن عمر بن الخطاب ( قد جهل ) من هذا الباب ما علمه حمل بن مالك بن النابغة رجل من الأعراب من هذيل في دية ( وجهل ) من ذلك أيضا ما [ ص: 154 ] علمه الضحاك بن سفيان الكلابي في ميراث المرأة من دية زوجها ( وجهل ) من ذلك أيضا ما علمه أبو موسى الأشعري في الاستئذان ، وموضع عمر من العلم الموضع الذي لا يجهله أحد من أهل العلم قال عبد الله بن مسعود : لو أن علم أهل الأرض جعل في كفة وجعل علم عمر في كفة لرجح علم عمر ، وإذا جاز مثل هذا على عمر فغير نكير أن يجهل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وابنته رضي الله عنها ما علمه أبو بكر من قوله صلى الله عليه وسلم : لا نورث ، ما تركنا صدقة ، وقد علمه جماعة من الصحابة وذلك موجود في حديث مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان .

وسيذكر بعد في هذا الباب إن شاء الله تعالى ) وقد جهل أبو بكر ، وعمر ما علم المغيرة ، ومحمد بن مسلمة من توريث الجدة ، وجهل ابن مسعود ما علم معقل بن سنان الأشجعي من صداق المتوفى عنها التي لم يدخل بها ، ولم يسم لها ، وقد جهل الأنصار ، وأبو موسى [ ص: 155 ] حديث التقاء الختانين ، وعلمته عائشة ، وجهل ابن عمر حديث القنوت ، وعلمه أبو هريرة ، وغيره ، ومثل هذا كثير عن الصحابة يطول ذكره فمثله حديث لا نورث ، ما تركنا صدقة فغير نكير أن يجهلنه ويجهله أيضا علي ، والعباس ، حتى علموه على لسان من حفظه .

وفي هذا الحديث قبول خبر الواحد العدل لأنهم لم يردوا على أبي بكر قوله ، ولا رد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة قولها ذلك ، وحكايتها لهن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل قبلوا ذلك وسلموه .

وفي هذا الحديث عند مالك إسناد آخر عن ابن شهاب عن مالك بن أوس عن عمر بن الخطاب عن أبي بكر الصديق ، وليس في الموطأ بهذا الإسناد ، وهو مأخوذ من حديثه الطويل . حدثنا خلف بن قاسم : حدثنا أبو محمد بكر بن عبد الرحمن بن عبد الله الخلال : حدثنا أحمد بن داود بن سفيان المكي : حدثنا عمرو بن مرزوق : حدثنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب قال : قال أبو بكر الصديق : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نورث ، ما تركنا صدقة . . هكذا [ ص: 156 ] حدثناه ، وقد : حدثنا خلف بن قاسم أيضا قال : حدثنا محمد بن عبد الله القاضي : حدثنا أبو بكر أحمد بن عمرو بن حفص القطراني : حدثنا عمرو بن مرزوق أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لهن عائشة : أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نورث ، ما تركنا صدقة ؟ ! .

وحدثنا خلف ، حدثنا محمد بن أحمد بن المسور ، وعبد الله بن عمر بن إسحاق بن يعمر ، وأبو بكر محمد بن محمد بن إسماعيل قالوا : حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج ، حدثنا الهيثم بن حبيب بن غزوان : حدثنا مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : قال أبو بكر الصديق : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نورث ما تركنا صدقة ، ولم يذكر معمر أبا بكر الصديق وجعل الحديث لعمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك [ ص: 157 ] رواه بشر بن عمر عن مالك ( وبشر بن عمر ثقة ) : حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا أبو عيسى عبد الرحمن بن عبد الله بن سليمان : حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن يونس : حدثنا محمد بن المثنى ، وحدثنا خلف : حدثنا العباس بن أحمد النحوي : حدثنا محمد بن جعفر الكوفي : حدثنا يزيد بن سنان أبو خالد قالا : حدثنا بشر بن عمر الزهراني : حدثنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نورث ، ما تركنا صدقة ، وقد حدثنا خلف : حدثنا محمد بن عبد الله بن زكرياء بن حيويه : حدثنا محمد بن جعفر بن أعين سنة إحدى وسبعين ومائتين : حدثنا عمرو بن علي : حدثنا بشر بن عمر بن الحكم : حدثنا مالك عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : قال عمر بن الخطاب لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال أبو بكر : أنا ولي رسول الله صلى الله [ ص: 158 ] عليه وسلم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نورث ، ما تركنا صدقة قال ابن أعين : وهذا الحديث كتبته سنة ست وعشرين ومائتين .

وحدثنا عبد الوارث ، ووهب بن محمد قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير بن حرب : حدثنا عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن عبيد أبو عبد الرحمن ابن أخي جويرية بن أسماء قال : ( حدثني جويرية ) عن مالك بن أنس عن الزهري أن مالك بن أوس بن الحدثان حدثه عن عمر بن الخطاب عن أبي بكر الصديق قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نورث ، ما تركنا صدقة ، وهذا هو الصواب إن شاء الله عن عمر عن أبي بكر ، وإن كان معمر قد رواه عن الزهري فجعله عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال فيه بعض أصحاب مالك عن مالك ، والصحيح فيه عندي عن عمر عن أبي بكر ، والله أعلم .

وقد يحتمل أن يكون عندهما وعند غيرهما من الصحابة عن النبي [ ص: 159 ] صلى الله عليه وسلم ولكن من جهة الإسناد هو ما ذكرت لك ، والله أعلم .

أخبرني قاسم بن محمد قال : حدثنا خالد بن سعد قال : حدثنا أحمد بن عمرو بن منصور قال : حدثنا محمد بن سنجر قال : حدثنا مالك بن إسماعيل قال : حدثنا عبد الرحمن بن حميد الرواسي قال : حدثنا سليمان الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن ابن عباس قال : اختصم علي والعباس إلى أبي بكر في ميراث النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : ما كنت لأحوله عن موضعه الذي وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

( وهذا الحديث مختصر ، وتمامه كما ذكره الطحاوي قال : حدثنا أبو بكرة بكار بن قتيبة القاضي قال : حدثنا يحيى بن حماد قال : حدثنا أبو عوانة عن سليمان الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس ( عن ابن عباس ) قال : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر خاصم العباس عليا إلى أبي بكر في أشياء تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : شيء تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحركه لا أحركه ، فلما [ ص: 160 ] استخلف عمر اختصما إليه فقال عمر : شيء تركه أبو بكر إني لأكره أن أحركه ، فلما ولي عثمان اختصما إليه قال : فسكت عثمان ، ونكس رأسه قال ابن عباس : فخشيت أن يأخذه فضربت بيدي على منكبي العباس وقلت يا أبتاه أقسمت عليك إلا سلمت لعلي قال : فسلمه لعلي ) فإن قال قائل : لو سلمت فاطمة ، وعلي ، والعباس ذلك لقول أبي بكر ما أتى علي ، والعباس في ذلك عمر بن الخطاب في خلافته يسألانه ذلك ، وقد علمت أنهما أتيا عمر يسألانه ذلك ( ثم أتيا عثمان بعد ) وذلك معلوم ، قيل له : أما تشاجر علي والعباس وإقبالهما إلى عمر فمشهور ، لكنهما لم يسألا ذلك ميراثا ، وإنما سألا ذلك من عمر ليكون بأيديهما منه ما كان بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام حياته ليعملا في ذلك بالذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به في حياته .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه قوت عامه ، ثم يجعل ما فضل في الكراع ، والسلاح عدة في سبيل الله ، وكذلك صنع أبو بكر رضي الله عنه فأرادا عمر على ذلك ; لأنه موضع يسوغ فيه الاختلاف ، وأما الميراث ، والتمليك فلا يقوله أحد إلا الروافض ، وأما علماء المسلمين فعلى قولين ، أحدهما وهو الأكثر وعليه الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث ، وما تركه صدقة ، والآخر أن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يورث ; لأنه خصه الله عز وجل بأن جعل ماله كله صدقة زيادة في فضيلته كما خصه في النكاح بأشياء حرمها عليه [ ص: 161 ] وأباحها لغيره ، وأشياء أباحها له وحرمها على غيره ، وهذا القول قاله بعض أهل البصرة منهم ابن علية ، وسائر علماء المسلمين على القول الأول .

وأما الروافض فليس قولهم مما يشتغل به ، ولا يحكى مثله لما فيه من الطعن على السلف ، والمخالفة لسبيل المؤمنين ، وأما ما ذكرنا من قصة علي والعباس في ذلك مع عمر فمحفوظ في غير ما حديث من حديث الثقات ، منها ما : حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي قال : حدثنا سهل بن بكار قال : حدثنا أبو عوانة عن عاصم بن كليب قال : حدثني شيخ من قريش من بني تميم قال : حدثني فلان وفلان ، فعد ستة ، أبو سبعة منهم عبد الله بن الزبير أنهم كانوا جلوسا عند عمر بن الخطاب يوما فجاء العباس وعلي ، وقد ارتفعت أصواتهما [ ص: 162 ] يكاد أن يتلاحيان فقال : مه مه ، لا تفعلا قد علمت ما تقول يا عباس تقول : ابن أخي ولي شطر المال ، وقد علمت ما تقول يا علي تقول : ابنته امرأتي ولها شطر المال ، وهذا ما كان في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأينا ما كان يصنع فيه ، وقال عمر حدثني أبو بكر ، وأحلف بالله إنه لصادق : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم ( قال : لا يموت نبي حتى يؤمه بعض أمته ، وحدثني أبو بكر وأحلف بالله إنه لصادق ) إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث ، إنما ميراثه في سبيل الله ، وفي فقراء المسلمين هذا ما كان في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأينا كيف كان يصنع فيه ، فوليه أبو بكر فأحلف بالله لقد كان يعمل فيه بما كان يعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووليته بعده ، وأحلف بالله لقد جهدت أن أعمل فيه بما عمل فيه أبو بكر ، وما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن شئتما وطابت نفس أحدكما للآخر دفعته إليه على أن يعطيني ليعملن فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فأخذ علي بيد العباس فخلا به فجاء عباس فقال : قد طابت نفسي لابن أخي فدفعه إليه ، فلما كان الحول جاءا على مثل حالهما الأخرى مرتفعة أصواتهما فقال عمر : إنكما أتيتماني عام أول فقلتما [ ص: 163 ] كذا وكذا ، وعدد عليهما كل شيء قاله لهما في ذلك اليوم فأمرتكما أن تطيب نفس أحدكما للآخر فأدفعه إليه فخلوتما فأتيتني يا عباس قد طابت نفسك لعلي فجئتما إلي الآن وأدرك ما أدرك الناس فجئتما إلي لترداه إلي فلا والله أجعله في عنقي حتى أجتمع أنا وأنتما عند الله ( وهذا خلاف رواية ابن عباس ، وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله ) فقد بان بهذا الحديث ما ذكرنا من المعنى المطلوب أنها ولاية ذلك المال على تلك الحال لا ميراث ، ولا ملك ، والآثار بمثل هذا كثيرة من حديث مالك وغيره .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، ووهب بن محمد قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ : حدثنا إسماعيل بن إسحاق : حدثنا عمرو بن مرزوق قال : حدثنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : أرسل إلي عمر بعد ما تعالى النهار قال : فذهبت فوجدته على سرير مفض إلى رماله قال : فقال لي حين دخلت عليه : يا مالك إنه قد دف علي ناس من قومك ، وقد أمرت فيهم برضخ فخذه فاقسمه فيهم ، قلت : يا أمير المؤمنين لو أمرت غيري بذلك قال : [ ص: 164 ] فقال : خذه ، فجاء يرفأ ، فقال : يا أمير المؤمنين هل لك في عثمان ، وعبد الرحمن وسعد ، والزبير ؟ قال : نعم ، ائذن لهم ( قال : فأذن لهم ) فدخلوا عليه ، ثم جاء يرفأ فقال : يا أمير المؤمنين هل لك في علي ، والعباس ؟ قال : نعم ، فأذن لهما فدخلا عليه قال : فقال العباس : يا أمير المؤمنين : اقض بيني وبين هذا ، يعني عليا قال : فقال بعضهم : أجل يا أمير المؤمنين فاقض بينهما ، وارحمهما قال مالك بن أوس : يخيل إلي أنهما قدما أولئك النفر لذلك ، قال : فقال عمر إيه قال : فأقبل على أولئك الرهط فقال : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء ، والأرض ، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ، ما تركنا صدقة ؟ قالوا : نعم ، ثم أقبل على علي ، والعباس فقال : أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء ، والأرض هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ، ما تركنا صدقة ؟ قالا : نعم ، قال : فقال عمر : فإن الله تبارك وتعالى خص رسوله بخاصية لم يخص بها أحدا من الناس فقال : وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب [ ص: 165 ] الآية ، وكان مما أفاء الله على رسوله بنو النضير فوالله ما استأثر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ( عليكم ) ، ولا أخذها دونكم فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منها نفقته سنة ، أو نفقته ونفقة أهله سنة ، ويجعل ما بقي أسوة المال فقال : ثم أقبل على أولئك الرهط فقال : أنشدكم بالله الذي ( بإذنه ) تقوم السماء ، والأرض هل تعلمون ذلك ؟ قالوا : نعم ( قال : ) ثم أقبل على علي والعباس فقال : أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء ، والأرض هل تعلمان ذلك ؟ قالا : نعم ( قال : ) فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أنت وهذا إلى أبي بكر تطلب ( أنت ) ميراثك من ابن أخيك ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها فقال ( له ) أبو بكر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا لا نورث ما تركنا ( فهو ) صدقة فوليها أبو بكر ، فلما توفي أبو بكر قلت : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي أبي بكر فوليتها ما شاء الله أن أليها ، ثم جئت أنت وهذا جميعا ، وأمركما واحد فسألتمانيها ، فقلت : إن شئتما أدفعها لكما على أن عليكما عهد الله أن تلياها بالذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يليها به فأخذتماها مني على ذلك ، ثم جئتماني لأقضي بينكما بغير ذلك ، والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما عنها فرداها إلي ، ورواه بشر [ ص: 166 ] بن عمر عن مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس مثله بتمامه إلى آخره إلا أنه قال عند قوله وتطلب أنت ميراث امرأتك من أبيها فقال أبو بكر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نورث ما تركنا صدقة ، فرأيتماه ، والله يعلم أنه صادق بار راشد تابع للحق فوليها أبو بكر ، فلما توفي أبو بكر قلت : أنا ولي رسول الله ، وولي أبي بكر فرأيتماني ، والله يعلم أني صادق بار راشد تابع للحق فوليتها ما شاء الله أن أليها وساق الحديث إلى آخره ذكره ابن الجارورد ! عن محمد بن يحيى ، وأبي أمية عن بشر بن عمر ، وحدثنا وهب ، وعبد الوارث : حدثنا قاسم : حدثنا أبو عبيدة بن أحمد : حدثنا محمد بن علي بن داود : حدثنا سعيد بن داود : حدثنا مالك فذكر مثله ، وقال : قد أمرت فيهم برضخ فخذه ، واقسمه بينهم ، وقال فيه ( فقال ) أبو بكر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا [ ص: 167 ] نورث ، ما تركنا صدقة ثم ذكره بتمامه إلى آخره .

قال إسماعيل بن إسحاق : الذي تنازعا فيه عند عمر ليس هو الميراث لأنهم قد علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يورث ، وإنما تنازعا في ولاية الصدقة وتصريفها ; لأن الميراث قد ( كان ) انقطع العلم به في حياة أبي بكر ، وأما تسليم فاطمة رضي الله عنها فحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا محمد بن فضيل عن الوليد بن جميع عن أبي الطفيل قال : أرسلت فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فقالت : ما لك يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت ورثت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أهله ، قال : لا ، بل أهله قالت : فما بال سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله إذا أطعم نبيا طعمة ، ثم قبضه جعله للذي يقوم بعده أنا أرده على المسلمين ، فقالت : أنت ، وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم , ووجدت في ( أصل ) سماع أبي بخطه رحمه [ ص: 168 ] الله أن أبا عبد الله بن محمد بن أحمد بن قاسم حدثه قال : حدثنا سعيد بن عثمان قال : حدثنا نصر بن مرزوق قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا الحسن بن بلال قال : حدثنا حماد بن سلمة عن أبي صالح عن أم هانئ أن فاطمة قالت لأبي بكر : من يرثك إذا مت ؟ قال : ولدي ، وأهلي فقالت : ما لك ترث النبي صلى الله عليه وسلم دوننا فقال : يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ورثت أباك دينارا ، ولا درهما ، ولا ذهبا ، ولا فضة فقالت : بلى ، سهم الله الذي جعله لنا ، وصفايا النبي عليه السلام فدك وغيرها بيدك فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنما هي طعمة أطعمنيها الله فإذا مت كانت بيد المسلمين ، فإن قيل ما معنى قول أبي بكر لفاطمة بل ورثه أهله ، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يقول : لا نورث ، ما تركنا صدقة ، قيل ( له ) معناه على تصحيح الحديثين أنه لو خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا يورث ( لورثه أهله فكأنه قال : بل ورثه أهله إن كان خلف شيئا ) وإن كان لم يتخلف شيئا يورث ; لأن ما تخلفه صدقة راجعة في منافع المسلمين من الكراع ، والسلاح ، وغيرها فأي شيء يرث عنه أهله ، وهو لم يخلف شيئا ، فإن قيل فما معنى قول [ ص: 169 ] أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أطعم الله نبيا طعمة ، ثم قبضه جعله للذي يقوم بعده قيل له : اللام في قوله للذي ليست لام الملك ، وإنما هي بمعنى إلى كما قال الله عز وجل : الحمد لله الذي هدانا لهذا ; أي هدانا إلى هذا ألا ترى إلى قوله وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ومثله قوله عز وجل بأن ربك أوحى لها معناه أوحى إليها فكأنه قال : جعله إلى الذي بعده يقوم فيه بما يجب على حسب ما قدمنا ذكره ، والأحاديث الصحاح ، ولسان العرب كل ذلك يدل على ما ذكرنا .

حدثنا أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار ومعمر جميعا عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ، ولا ركاب ، وكانت لرسول الله خاصة فكان ينفق على أهله نفقة سنة ، وما بقي جعله في الكراع ، والسلاح في سبيل الله ، وأخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد قال : حدثنا أحمد بن الفضل قال : حدثنا محمد بن جرير قال : حدثنا محمد بن حميد قال : حدثنا جرير عن مغيرة قال : لما ولي عمر بن عبد العزيز جمع بني أمية فقال لهم : إن [ ص: 170 ] النبي صلى الله عليه وسلم كانت له خاصة فدك فكان يأكل منها ، وينفق منها ، ويعود على فقراء بني هاشم ، ويزوج منها أيمهم ، وإن فاطمة رضي الله عنها سألته أن يجعلها لها فأبى فكانت كذلك حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبض ، ثم ولي أبو بكر فكانت في يد أبي بكر يعمل فيها كما عمل النبي صلى الله عليه وسلم ( حياته ) حتى قبض لسبيله ، ثم ولي عمر فعمل فيها مثل ذلك ، ثم ولي عثمان فأقطعها مروان فجعل مروان ثلثيها لعبد الملك ، وثلثها لعبد العزيز فجعل عبد الملك ثلثيه ( ثلثا ) للوليد ، وثلثا لسليمان ، وجعل عبد العزيز ثلثه لي ، فلما ولي الوليد جعل ثلثه لي فلم يكن لي مال أعود علي منه ، ولا أسد لحاجاتي ، ثم وليت أنا فرأيت أن أمرا منعه النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة ابنته أنه ليس لي بحق ، وإني أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال أبو عمر : اختلف العلماء في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان له [ ص: 171 ] خاصة من صفاياه ، وما لم يوجف عليه بخيل ، ولا ركاب فأما أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب فمذهبها في ذلك ما قد تكرر ( ذكره ) في كتابنا هذا من أول الباب وذلك الأخذ بظاهر هذا الحديث في أموال بني النضير وفدك وخيبر أن ذلك يسبل على حسب ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبله في حياته كان ينفق منه على عياله ، وعامله سنة ، ثم يجعل باقيه عدة في سبيل الله ، وعلى مذهب أبي بكر ، وعمر ( في ذلك ) جمهور أهل العلم من أهل الحديث والرأي .

وأما عثمان بن عفان فكان يرى أن ذلك للقائم بأمور المسلمين يصرفه فيما رأى من مصالح المسلمين ، ولذلك أقطعه مروان ، وفعل عثمان هذا ، ومذهبه هو قول قتادة ، والحسن كانا يقولان في سهم ذي القربى وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفاياه أن ذلك كان طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيا ، فلما توفي صار لأولي الأمر بعده ، ويشبه أن يكون من حجة من ذهب هذا المذهب حديث أبي الطفيل ، ومثله إذا أطعم الله نبيا طعمة فقبض فهي للذي يلي الأمر بعده ، وقد ذكرنا تأويل هذا الحديث ، ومذهب راويه ، وهو أبو بكر رضي الله عنه وكيف يسوغ لمسلم أن يظن بأبي بكر رضي الله عنه منع فاطمة ميراثها من أبيها ، وهو يعلم بنقل الكافة أن أبا بكر كان يعطي الأحمر ، والأسود حقوقهم ، ولم يستأثر من مال الله لنفسه ، ولا [ ص: 172 ] لبنيه ، ولا لأحد من عشيرته بشيء ، وإنما أجراه مجرى الصدقة ، أليس يستحيل في العقول أن يمنع فاطمة ، ويرده على سائر المسلمين ؟ وقد أمر بنيه أن يردوا ما زاد في ماله منذ ولي على المسلمين ! وقال : إنما كان لنا من أموالهم ما أكلنا ( من طعامهم ) ولبسنا على ظهورنا من ثيابهم .

وروى أبو ضمرة أنس بن عياض عن عبيد الله بن عمر عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أن أبا بكر لما حضرته الوفاة قال لعائشة ليس عند آل أبي بكر من هذا المال شيء إلا هذه اللقمة ، والغلام الصيقل كان يعمل سيوف المسلمين ويخدمنا ، فإذا مت فادفعيه إلى عمر ، فلما مات دفعته إلى عمر فقال عمر ( رحمه الله ) : رحم الله أبا بكر ، لقد أتعب من بعده .

فإن قيل : فكيف سكن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في مساكنهن اللاتي تركن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها إن كن لم يرثنه ؟ وكيف لم يخرجن عنها ؟ قيل : إنما تركن في المساكن التي كن يسكنها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن ذلك كان من مؤنتهن التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 173 ] استثناها لهن كما استثنى لهن نفقتهن حين قال : لا يقتسم ورثتي دينارا ، ولا درهما ما تركت بعد نفقة أهلي ، ومؤنة عاملي فهو صدقة .

وروى حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن أبي بكر ( أنه ) قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا نورث ، ولكني أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعول ، وأنفق على من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق .

وروى الثوري ، ومالك ، وابن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يقتسم ورثتي دينارا ، ولا درهما ، وما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة ، وسيأتي ذكر هذا ( الحديث ) من رواية مالك في باب أبي الزناد من كتابنا هذا إن شاء الله .

قال أهل العلم : فمساكنهن كانت في معنى نفقاتهن في أنها كانت مستثناة لهن بعد وفاته مما كان له في حياته ، قالوا : ويدل على صحة ذلك أن مساكنهن لم يرثها عنهن ورثتهن . قالوا : ولو كان ذلك ملكا لهن كان لا شك قد ورثه عنهن ورثتهن . قالوا : وفي ترك ورثتهن ذلك دليل على أنها لم تكن لهن ملكا ، وإنما كان لهم سكناها حياتهن ، [ ص: 174 ] فلما توفين جعل ذلك زيادة في المسجد الذي يعم المسلمين نفعه كما فعل ذلك في الذي كان لهن من النفقات في تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مضين لسبيلهن زيد إلى أصل المال فصرف في منافع المسلمين مما يعم جميعهم نفعه .

وفي حديثنا المذكور في أول هذا الباب من الفقه تفسير لقول الله عز وجل وورث سليمان داود وعبارة عن قول الله عز وجل حاكيا عن زكرياء فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب وتخصيص للعموم في ذلك ، وأن سليمان لم يرث من داود مالا خلفه داود بعده ، وإنما ورث منه الحكمة والعلم ، وكذلك ورث يحيى من آل يعقوب ، وهكذا قال أهل العلم بتأويل القرآن ، والسنة ، واستدلوا مع سنة رسول الله المذكورة بقول الله عز وجل ولقد آتينا داود وسليمان علما قال المفسرون : يعني علم التوراة ، والزبور ، والفقه في الدين ، وفصل القضاء ، وعلم كلام الطير الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وورث سليمان داود وقال ياأيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء فورث سليمان من داود النبوة ، والعلم ، والحكمة وفصل القضاء ، وعلى هذا جماعة أهل العلم ، وسائر [ ص: 175 ] المسلمين إلا الروافض ، وكذلك قولهم في يرثني ويرث من آل يعقوب لا يختلفون في ذلك إلا ما روي عن الحسن أنه قال : يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوة ، والحكمة ، والدليل على صحة ما قال علماء المسلمين في تأويل هاتين الآيتين : ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنا معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركنا صدقة وكل قول يخالفه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدفعه فهو مدفوع مهجور أخبرنا محمد حدثنا علي بن عمر قال : حدثنا القاضي أبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب : حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني : حدثنا عبد الله بن أمية قال : قرئ على مالك بن أنس عن ابن شهاب عن مالك بن أنس بن الحدثان قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : حدثنا أبو بكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنا معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركنا صدقة .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة بعد نفقة نسائي ، ومؤنة عاملي ، ومما يدلك ( على ) أنه أراد بقوله عز وجل : وورث سليمان داود النبوة والعلم والسياسة ، ولم يرد المال ; لأنه لو أراد المال لم [ ص: 176 ] يقتض الخبر عن ذلك فائدة ; لأنه معلوم أن الأبناء يرثون الآباء أموالهم ، وليس معلوما أن كل ابن يقوم مقام أبيه في الملك ، والعلم ، والنبوة .

وفي هذا الحديث أيضا من الفقه : دليل على صحة ما ذهب إليه فقهاء أهل الحجاز وأهل الحديث من تجويز الأوقاف في الصدقات المحبسات ، وأن للرجل أن يحبس ماله ويوقفه على سبيل من سبل الخير يجري عليه من بعد وفاته ( وفيه جواز الصدقة بالشيء الذي لا يقف المتصدق على مبلغه ; لأن تركه صلى الله عليه وسلم لم يقف على مبلغ ما تنتهي إليه ، وسنوضح ذلك في باب أبي الزناد ، إن شاء الله ) .

وفيه أيضا دلالة واضحة على اتخاذ الأموال واكتساب الضياع ، وما يسع الإنسان لنفسه وعماله وأهليهم ونوائبهم ، وما يفضل على الكفاية .

وفي ذلك رد على الصوفية ومن ذهب مذهبهم في قطع الاكتساب ، وقد استدل ( بهذا الحديث ) قوم في أن للقاضي أن يقضي بعلمه كما قضى أبو بكر في ذلك بما ( كان ) عنده من العلم ، وهذا عندي محمله إذا كانت الجماعة حول القاضي والحاكم يعلمون ذلك ، أو يعلمه منهم من ( إن ) احتيج إلى شهادته ، عند الإنكار كان في [ ص: 177 ] شهادته براءة وثبوت حجة على المحكوم عليه ، والله أعلم ; لأن أبا بكر لم ينفرد بالحديث بل سمعه معه عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة غيره ولو انفرد به ما كان ذلك بضائر له ولا قادح في معنى ما جاء به ; لأنه علم لا يحتاج فيه القاضي إلى شهادة ، ألا ترى أن القاضي إذا قضى بما علمه من الكتاب ، والسنة ليس يحتاج ( فيه ) إلى شاهد ، ولا بينة ؟ ( أنه علم ذلك ) وقد تقدم في قولنا أن في هذا الحديث أيضا دلالة على قبول خبر الواحد العدل .

التالي السابق


الخدمات العلمية