التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
693 [ ص: 316 ] حديث رابع عشر لابن شهاب ، عن عروة .

مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان


هكذا قال مالك في الحديث ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عمرة ، عن عائشة .

كذلك رواه عنه جمهور رواة الموطإ ، وممن رواه كذلك فيما ذكر الدارقطني معن بن عيسى ، والقعنبي ، وابن القاسم ، وأبو المصعب ، وابن كثير ، ويحيى بن يحيى ( يعني ) النيسابوري ، وإسحاق بن الطباع ، وأبو سلمة منصور بن سلمة الخزاعي ، وروح بن عبادة ، وأحمد بن إسماعيل ، وخالد بن مخلد ، وبشر بن عمر الزهراني .

حدثنا خلف بن قاسم : حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن إسحاق بن مهران السراج ، قال : حدثنا عمي وأبي ، قالا : حدثنا يحيى بن يحيى النيسابوري ، قال : قرأت على مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عمرة ، عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان .

[ ص: 317 ] وحدثنا خلف : حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق : حدثنا الحارث بن أبي أسامة : حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك بإسناده مثله .

وذكره ابن وهب في موطئه فقال ، وأخبرني مالك ، ويونس ، والليث بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن عروة وعمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة : أنها كانت إذا اعتكفت في بيتها لم تسأل عن المريض إلا وهي مارة .

وقالت عائشة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان . فأدخل حديث بعضهم في بعض ، وإنما يعرف جمع عروة وعائشة ليونس ، والليث لا لمالك .

والمحفوظ لمالك ، عن أكثر رواته في هذا الحديث ابن شهاب ، عن عمرة ، عن عروة ، وأما سائر أصحاب ابن مالك فقال : أكثرهم فيه عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة منهم معمر ، وسفيان بن حسين ، وزياد بن سعد ، والأوزاعي .

وكذلك رواه بندار ، ويعقوب الدورقي ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن مالك ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان ، لم تذكر عمرة في هذا الحديث .

وتابع ابن مهدي [ ص: 318 ] على ذلك إسحاق بن سليمان الرازي ، وأبو سعيد مولى بني هاشم ، ومحمد بن إدريس الشافعي على اختلاف عنه ، وبشر بن عمر ، وخالد بن مخلد على اختلاف عنهما أيضا ، والمعافى بن عمران الحمصي ، وقال محمد بن المثنى ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عمرة ، عن عائشة : أنها كانت تعتكف ، وتمر بالمريض ، وتسأل به وهي تمشي .

قال عبد الرحمن : فقلت عن عروة ، عن عمرة ، وأعدت عليه ، فقال الزهري : عن عروة ، عن عمرة أو الزهري ، عن عمرة .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن عبد السلام ( الخشني ) ، قال : حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، عن مالك ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عمرة ، عن عائشة أنها كانت تعتكف ، وذكره إلى آخره ، وهذان حديثان أحدهما في ترجيل النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخر في مرور عائشة بالمريض ، وقولها كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان اختلف فيهما أصحاب الزهري عليه .

حدثنا محمد بن عبد الله ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا إسحاق بن أبي حسان ، قال : حدثنا هشام بن عمار ، قال : حدثنا عبد الحميد ، قال : حدثنا الأوزاعي ، قال : حدثني الزهري ، قال : حدثني عروة أن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيني وهو يعتكف في المسجد حتى يتكئ على عتبة باب حجرتي ، فأغسل رأسه ، وأنا في حجرتي ، وسائره في المسجد [ ص: 319 ] قال الأوزاعي : وحدثني الزهري ، قال : حدثني عروة وعمرة أن عائشة كانت إذا اعتكفت في المسجد تعتكف العشر الأواخر من رمضان ، ولا تدخل بيتها إلا لحاجة الإنسان التي لا بد منها ، وكانت تمر بالمريض من أهلها ، فتسأل عنه وهي تمشي لا تقف ، فجعل الأوزاعي المعنيين بإسنادين ، أحدهما عروة ، عن عائشة ، والآخر عروة وعمرة ، عن عائشة .

وروى مالك حديث عائشة هذا عن الزهري ، عن عمرة عنها ، كذلك هو في الموطإ عند جمهور الرواة ، وقال فيه الشافعي : عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة .

حدثنا علي بن عمر : حدثنا الحسن بن يحيى : حدثنا الحسن بن محمد : حدثنا الشافعي : حدثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة أن عائشة كانت إذا اعتكفت لا تسأل عن المريض إلا وهي تمشي لا تقف وحدثناه محمد بن عبد الملك : حدثنا ابن الأعرابي : حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني : حدثنا الشافعي فذكره .

وقال ابن وهب ، وخالد بن سليمان في هذا الحديث عن [ ص: 320 ] مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة وعمرة ، عن عائشة ، وقال القطان ، وابن مهدي فيه : عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عمرة ، عن عائشة ، فخالف ابن مهدي ، والشافعي ومن ذكرناه من رواة الموطإ في إسناد الحديثين جميعا : المرفوع والموقوف .

وذكر محمد بن يحيى الذهلي في كتابه في علل حديث الزهري هذين الحديثين : " مرور عائشة ، وترجيل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهما يعتكفان " .

عن جماعة من أصحاب الزهري منهم يونس ، والأوزاعي ، و معمر ، وسفيان بن حسين ، والزبيدي ، ثم قال : اجتمع هؤلاء كلهم على خلاف مالك في ترجيل النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يجامعه عليه منهم أحد ، فأما يونس ، والليث فجمعا عروة وعمرة ، عن عائشة ، وأما معمر ، والأوزاعي ، وسفيان بن حسين فاجتمعوا على عروة ، عن عائشة ( قال ) : والمحفوظ عندنا حديث هؤلاء .

قال : وأما القصة الأخرى في مرور عائشة على المريض فاجتمع معمر ، ومالك ، وهشيم على عمرة ، عن عائشة ، وقال يونس من رواية الليث : مرة عن عمرة عن عائشة ، ومرة من رواية عثمان بن عمر ، عن عروة وعمرة ، عن عائشة . قال : وعثمان بن عمر أولى بالحديث ; لأن الليث قد اضطرب فيه ، فقال مرة عن عروة ، عن عائشة ، ومرة عن عمرة ، عن عائشة ) ، وثبته عثمان بن عمر عنهما جميعا ، وقد واطأه ابن وهب ، عن يونس في الحديثين [ ص: 321 ] جميعا فصارت روايته عن يونس أولى وأثبت .

وأما شبيب بن سعيد فإنه تابع الليث على روايته عن يونس في القصة الأخيرة ، فقال عروة ، عن عمرة ، عن عائشة .

قال : فقد صح الخبر الآخر عندنا عن عروة ، وعمرة ، عن عائشة باجتماع يونس من رواية ابن وهب ، وعثمان بن عمر ، والأوزاعي من رواية المغيرة ، والليث بن سعد من رواية ابن أبي مريم ، عن عروة وعمرة ، عن عائشة .

وباجتماع معمر ، ومالك ، وهشيم على عمرة ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وأبو نعيم ، عن سفيان ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة أن عائشة كانت تجاور ، فتمر بالمريض من أهلها فلا تعرض له .

فالحديثان عندنا محفوظان بالخبرين جميعا إلا ما كان من رواية مالك في ترجيل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط إن شاء الله .

قال : وقد روى ابن أبي حبيب ما : حدثنا به أبو صالح الحراني ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن ابن أبي حبيب ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف فيمر بالمريض في البيت فيسلم عليه ، ولا يقف .

قال : وهذا معضل لا وجه له إنما هو فعل عائشة ليس ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا الحديث في شيء ، وهذا الوهم من ابن لهيعة فيما نرى ، والله أعلم .

[ ص: 322 ] قال أبو عمر : الذي أنكروا على مالك ذكره عمرة في حديث عائشة أنها كانت ترجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو معتكف هذا ما أنكروا عليه لا غير في هذا الحديث ; لأن ترجيل عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو معتكف لا يوجد إلا حديث عروة وحده ، عن عائشة ، وغير هذا قد جومع مالك عليه من حديث مرور عائشة ، وغيره من ألفاظ حديث مالك وإسناده .

وقد روى حديث الترجيل هذا عن عروة ، تميم بن سلمة ، وهشام بن عروة .

ذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، عن ابن نمير ، ويعلى ، عن الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عروة ، عن عائشة قالت : كنت أرجل رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حائض وهو عاكف ، وقال يعلى في حديثه هذا : كنت أغسل .

قال أبو بكر ، وحدثنا وكيع ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدني إلي رأسه وهو مجاور ، وأنا في حجرتي فأغسله وأرجله بالماء ، وأنا حائض .

وقد رواه الأسود بن يزيد ، عن عائشة مثل رواية عروة سواء ، إلا أن في حديث الأسود : " يخرج إلي رأسه " ، وفي حديث عروة : " يدني إلي رأسه " ، وبعضهم يقول فيه : " يدخل إلي رأسه " ، وفي ذلك ما يدل على جواز [ ص: 323 ] إدخال المعتكف رأسه البيت ليغسل ويرجل ، وقد يحتمل قول الأسود يخرج إلي رأسه أي يخرجه من المسجد إلي في البيت فأرجله .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن عبد السلام ، قال : حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان وحدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا حسين بن علي ، عن زائدة جميعا ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة - وهذا لفظ حديث سفيان قال - : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلي رأسه ، وهو معتكف ، فأغسله ، وأنا حائض .

وليس في حديث زائدة ذكر " وهو معتكف " وفي هذه الأحاديث الثلاثة حديث تميم بن سلمة ، وهشام بن عروة ( ، عن عروة ) ، عن عائشة وحديث الأسود ، عن عائشة ، وأنا حائض ، وليس ذلك في حديث الزهري من وجه يثبت .

وأما معنى قوله عن عائشة يدني إلي رأسه فأرجله ، فالترجيل : أن يبل الشعر ثم يمشط ، وقد ذكرنا هذا المعنى ، وما فيه من اختلاف الآثار في غير موضع من كتابنا هذا ، والحمد لله .

[ ص: 324 ] وفي ترجيل عائشة شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو معتكف دليل على أن اليدين من المرأة ليستا بعورة ، ولو كانتا عورة ما باشرته بهما في اعتكافه ، ويدلك على ذلك أيضا أنها تنهى في الإحرام عن لباس القفازين ، وتؤمر بستر ما عدا وجهها وكفيها ، وتؤمر بكشف الوجه والكفين في الصلاة ، فدل على أنهما غير عورة منها ، وهو عندنا أصح ما قيل في ذلك ، وقد مضى القول في معنى العورة من الرجال ، والنساء في باب ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، والحمد لله .

وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن الحائض طاهرة غير نجسة ، إلا موضع النجاسة منها ، ويوضح ( لك ) ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة : " ناوليني الخمرة " فقالت : إني حائض ، فقال : " إن حيضتك ليست في يدك " فدل قوله هذا على أن كل موضع منها ليس فيه الحيضة ، فهو كما كان قبل الحيضة ، وأنها متعبدة في اجتناب ما أمرت باجتنابه .

وفي ترجيلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخدمتها له وهي حائض ما يدل على ذلك ، وفي هذا كله إبطال قول من كره سؤر الحايض والجنب ، وفي حديث شريح بن هانئ ، عن عائشة : كنت أشرب وأنا حايض ، وأناوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فمي ، وآخذ العرق ( فأعضه ) فيضع فمه على موضع فمي .

[ ص: 325 ] قال أبو عمر : معنى الاعتكاف في كلام العرب الإقامة على الشيء ، والمواظبة عليه ، والملازمة له هذا معنى العكوف والاعتكاف في اللسان .

وأما في الشريعة فمعناه الإقامة على الطاعة ، وعمل البر على حسب ما ورد من سنن الاعتكاف .

فمما أجمع عليه العلماء من ذلك أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد ; لقول الله عز وجل : وأنتم عاكفون في المساجد ، إلا أنهم اختلفوا في المراد بذكر المساجد في الآية المذكورة .

فذهب قوم إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد ، وإن كان لفظها العموم ، فقالوا : لا اعتكاف إلا في مسجد نبي ; كالمسجد الحرام ، أو مسجد الرسول ، أو مسجد بيت المقدس لا غير .

وروي هذا القول عن حذيفة بن اليمان ، وسعيد بن المسيب ، ومن حجتهم أن الآية نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو معتكف في مسجده فكان المقصد ، والإشارة إلى نوع ذلك المسجد في ما بناه نبي .

وقال الآخرون : لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة ; لأن الإشارة في الآية عندهم إلى ذلك الجنس من المساجد .

روي هذا القول عن علي بن أبي طالب ، وابن مسعود ، وهو قول عروة ، والحكم ، وحماد ، والزهري ، وأبي جعفر محمد بن علي ، وهو أحد قولي مالك .

[ ص: 326 ] وقال آخرون : الاعتكاف في كل مسجد جائز ، روي هذا القول عن سعيد بن جبير ، وأبي قلابة ، وإبراهيم النخعي ، وهمام بن الحارث ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، وأبي الأحوص ، والشعبي ، وهو قول الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأصحابهما ( والثوري ) .

وحجتهم حمل الآية على عمومها في كل مسجد ، وهو أحد قولي مالك ، وبه يقول ابن علية ، وداود ، والطبري ، وقال الشافعي : لا يعتكف في غير المسجد الجامع إلا من الجمعة إلى الجمعة .

قال : واعتكافه في المسجد الجامع أحب إلي ، ويعتكف المسافر ، والعبد ، والمرأة حيث شاءوا ، ولا اعتكاف إلا في مسجد لقول الله عز وجل وأنتم عاكفون في المساجد .

قال أبو عمر : في حديثنا هذا من قول عائشة ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان تعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دليل على أنه لم يكن اعتكافه في بيته ، وأنه كان في مسجده - صلى الله عليه وسلم - .

وفيه دليل على أن المعتكف لا يشتغل بغير لزومه المسجد ، ومعلوم أن لزوم المسجد إنما هو للصلوات وتلاوة القرآن .

وأن المعتكف إذا لم يدخل بيت نفسه ، فأحرى أن لا يدخل بيت غيره ، وفي اجتناب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( ذلك ) دليل على أنه لا يجوز ، وإذا لم يجز له دخول البيت ، وإن لم يكن في ذلك معصية ( فكل شغل يشغله عن اعتكافه لا يجوز له ; لأنه في ذلك المعنى ، وإن لم يكن فيه معصية ) .

[ ص: 327 ] وفي معنى دخول البيت لحاجة الإنسان كل ما لا غنى بالإنسان عنه من منافعه ، ومصالحه ، وما لا يقضيه عنه غيره .

وفي معنى ترجيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه كل ما ( كان ) فيه صلاح بدنه من الغذاء ، وغيره مما يحتاج إليه .

ومن جهة النظر المعتكف ناذر ، جاعل على نفسه المقام في المسجد لطاعة الله ، فواجب عليه الوفاء بذلك ، فإن خرج لضرورة ، ورجع في فور زوال الضرورة بنى على ما مضى من اعتكافه ، ولا شيء عليه .

ومن الضرورة المرض البين والحيض ، وهذا عندي في معنى خروجه - صلى الله عليه وسلم - لحاجة الإنسان ; لأنها ضرورة .

واختلف مالك في المعتكف يخرج لعذر غير ضرورة ; مثل أن يموت أبوه ، أو ابنه ، ولا يكون له من يقوم به ، أو شراء طعام يفطر عليه ، أو غسل نجاسة من ثوبه ، لا يجد من يكفيه شيئا من ذلك .

فروي عنه : من فعل هذا كله أو ما كان مثله يبتدئ ، وروي عنه أنه يبني ، وهو الأصح عند ابن خواز بنداد وغيره . قياسا على حاجة الإنسان ، والحيض ، والمرض اللذين لم يختلف قول مالك فيهما :

[ ص: 328 ] ( أنه يبني ) واختلف العلماء في اشتغال المعتكف بالأمور المباحة ، فقال مالك : لا يعرض المعتكف لتجارة ولا غيرها ، ولا بأس أن يأمر بصنعته ، ومصلحة أهله ويبيع ماله ، ويصنع كل ما ( لا ) يشغله إذا كان خفيفا .

قال مالك : ولا يكون معتكفا حتى يجتنب ما يجتنب المعتكف ( قال ) : ولا بأس بنكاح ( المعتكف ) ما لم يكن الوقاع ، والمرأة المعتكفة تنكح نكاح الخطبة هذا كله قوله في الموطآت .

وقال ابن القاسم ، عن مالك لا يقوم المعتكف إلى رجل يعزيه بمصيبة ، ولا يشهد نكاحا يعقد في المسجد يقوم إليه ، ولكن لو غشيه ذلك في مجلسه لم أر بذلك بأسا ، ولا يقوم لناكح فيهنئه ، ولا يكتب العلم ، ولا يشتغل في مجلس العلم .

قال : ويشتري ويبيع إذا كان خفيفا ، ولا يشهد الجنائز ، ولا يعود المرضى ، وجملة مذهبه أن المعتكف لا يشتغل بشيء من أمور الدنيا إلا اليسير الذي لا يستغني عنه في مصالحه ، مثل الكتاب الخفيف يكتبه فيما يحتاج إليه ، أو ( يأمر ) من يخدمه ، ومثل هذا من مراعاة أحواله إذا كان يسيرا خفيفا .

ومن مذهبه عند أصحابه أن [ ص: 329 ] المعتكف إذا أتى كبيرة ( من الكبائر ) فسد اعتكافه ؛ لأن الكبيرة ضد العبادة كما الحدث ضد الطهارة ، والصلاة ، وترك ما حرم عليه أعلى منازل الاعتكاف في العبادة ، هذا كله قول ( ابن ) خواز بنداد ، عن مالك .

وقال الثوري : المعتكف يعود المريض ، ويشهد الجمعة ، وما لا يحسن أن يضيعه ، لا يدخل سقفا إلا أن يكون ممره فيه ، ولا يجلس عند أهله ، ولا يوصيهم بحاجته إلا وهو قائم ، أو ماش ، ولا يبيع ولا يشتري ، وإن دخل سقفا بطل اعتكافه .

وقال الحسن بن حي : إن دخل المعتكف بيتا ليس في طريقه ، أو جامع بطل اعتكافه ، ويحضر الجنازة ، ويعود المريض ، ويشهد الجمعة ، ويخرج للوضوء ، ويدخل بيت المريض للعيادة ، ويكره أن يبيع ويشتري .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يخرج المعتكف لجنازة ، ولا لعيادة مريض ، وله أن يتحدث ويبيع ويشتري في المسجد ، ويتشاغل بما لا يأثم فيه ، ويزوج ويتزوج ، ويشهد في النكاح ويتطيب .

[ ص: 330 ] وقال الشافعي : لا يعود المعتكف مريضا ، ولا يشهد جنازة ، ولا يفارق موضع اعتكافه بعيدا إلا لحاجة الإنسان ، وكلما يفعله غير المعتكف في المسجد فعله المعتكف ، ولا يقعد بعد الفراغ من أكله في بيته .

قال أبو عمر : معاني الشافعي ، وأبي حنيفة في هذا الباب واحدة ، ومعاني مالك متقاربة ، والحجة لمن ذهب مذهبهم أن عائشة كانت لا تعود المريض من أهلها وهي معتكفة الإمارة .

وقد روى عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ؛ أنها قالت : السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ، ولا يشهد جنازة ، ولا يمس امرأة ، ولا يباشرها ، ولا يخرج لحاجة ، إلا ما لا بد له منه ، ولا اعتكاف إلا بصوم ، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع .

ولم يقل أحد في حديث عائشة هذا : " السنة " إلا عبد الرحمن بن إسحاق ، ولا يصح هذا الكلام كله عندهم إلا من قول الزهري في صوم المعتكف ، ومباشرته ، وسائر الحديث .

والحجة لمذهب الثوري ، ومن تابعه أن علي بن أبي طالب ، قال : إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة ، وليعد المريض ، وليحضر الجنازة ، وليأت أهله ، وليأمرهم بالحاجة ، وهو قائم ، وأجاز علي البيع والشراء للمعتكف [ ص: 331 ]

وذكر الحسن الحلواني ، قال : حدثنا محمد بن عيسى ، قال : حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن أبي إسحاق الشيباني ، عن سعيد بن جبير ، قال : اعتكفت في مسجد الحي ، فأرسل إلي عمرو بن حريث ( يدعوني ) ، وهو أمير على الكوفة فلم آته ، فعاد ، ثم عاد ، فأتيته ، فقال : ما منعك أن تأتينا ؟ قلت : إني كنت معتكفا قال : وما عليك ، إن المعتكف يشهد الجمعة ، ويعود المريض ، ويمشي مع الجنازة ، ويجيب الإمام .

قال أبو عمر :

أجمع العلماء أن المعتكف لا يباشر ، ولا يقبل ، واختلفوا فيما عليه إذا فعل ذلك ، فقال مالك ، والشافعي : إن فعل شيئا من ذلك فسد اعتكافه ، قال المزني : وقال ( الشافعي ) في موضع ( آخر ) من مسائل الاعتكاف : لا يفسد الاعتكاف من الوطء إلا ما يوجب الحد ، واختاره المزني قياسا على أصله في الصوم والحج .

وقال أبو حنيفة : إن فعل فأنزل بطل اعتكافه ، وأجمعوا أن المعتكف لا يدخل بيتا ، ولا يستظل بسقف إلا ( في ) المسجد الذي يعتكف فيه ، أو يدخل لحاجة الإنسان ، أو ما كان مثل ترجيله صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 332 ] ومسائل الاعتكاف ونوازله يطول ذكرها ، ويقصر الكتاب عن تقصي أقاويل العلماء فيها ، والاعتلال لها .

وقد ذكرنا من ذلك ما في معنى حديثنا ، وذكرنا الأصول التي عليها مدار الاعتكاف ، وسنذكر حكم الاعتكاف بصوم وبغير صوم ، واختلاف العلماء في ذلك عند ذكر حديث ابن شهاب ، عن عمرة من هذا الكتاب على ما رواه يحيى عن مالك في ذلك ، إن شاء الله ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية