التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
117 [ ص: 333 ] حديث خامس عشر لابن شهاب عن عروة .

مالك ، عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن أم سليم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : المرأة ترى في المنام مثل ما يرى الرجل أتغتسل ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم ، فلتغتسل " فقالت لها عائشة : أف لك ، وهل ترى ذلك المرأة ؟ ! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : تربت يمينك ، ومن أين يكون الشبه .


هكذا هذا الحديث في الموطإ عن عروة أن أم سليم ، وقال فيه ابن أبي أويس : عن مالك ( عن أبي شهاب عن عروة ، عن أم سليم .

وكل من روى هذا الحديث عن مالك ) لم يذكر فيه عن عائشة فيما علمت إلا ابن أبي الوزير ، وعبد الله بن نافع أيضا ؛ فإنهما روياه عن مالك ، عن عروة عن عائشة .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، قال : حدثنا المقدمي ، قال : حدثنا ابن أبي الوزير ، قال : حدثنا مالك ، عن الزهري عن عروة عن عائشة أن أم سليم قالت : يا رسول الله ، المرأة ترى في المنام ما يرى الرجل ، وذكر الحديث .

[ ص: 334 ] وأخبرنا خلف بن القاسم ، وعلي بن إبراهيم قالا : حدثنا الحسن بن رشيق ، قال : حدثنا العباس بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن صالح ، قال : قرأت على عبد الله بن نافع عن مالك ، عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أن أم سليم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : المرأة ترى في المنام ما يرى الرجل أتغتسل ؟ فقال لها : نعم فلتغتسل وذكر الحديث .

وقال الدارقطني : تابع ابن أبي الوزير على إسناد هذا الحديث عن مالك ، حباب بن جبلة ، وعبد الملك بن عبد العزيز الماجشون ، ومعن بن عيسى فيما ذكره ابن رشيدين في غرائب حديث مالك عن عبد الرحمن بن يعقوب بن أبي عباد عن معن .

ولم يذكر الدارقطني ، ابن نافع ، ورواية عبد الأعلى الشامي هذا الحديث عن معمر كرواية يحيى ، وجمهور رواة الموطإ ( له ) عن مالك ، عن ابن شهاب عن عروة لم يذكروا عائشة ، ورواه عبد الرزاق عن معمر ، عن الزهري ( عن عائشة ، ولم يذكر عروة ، ورواه يونس ، وعقيل ، وصالح بن أبي الأخضر ) ، والزبيدي ، وابن أخي [ ص: 335 ] الزهري كلهم عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة ( والحديث عند أهل العلم بالحديث صحيح لابن شهاب عن عروة عن عائشة ) قال أبو داود : وقد تابع ابن شهاب على قوله عن عروة عن عائشة مسافع الحجبي فرواه أيضا عن عروة عن عائشة .

قال أبو عمر : كذا روى مسافع الحجبي عن عروة عن عائشة إلا أنه خالف في لفظه ، وقال فيه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه أخواله ، وإذا علا ماء الرجل أشبهه ولده .

وهذا اللفظ في حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم في " علا ماء الرجل " ، و " علا ماء المرأة " إلا أن المعنى المذكور فيما يوجب الشبه مخالف لما في هذه الأحاديث .

وحديث ثوبان رواه معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام الحبشي ، يقول حدثني أبو أسماء الرحبي أن ثوبان مولى النبي عليه السلام حدثه أن حبرا من أحبار يهود قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أسألك عن الولد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ماء الرجل أبيض ، وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا ، وعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله ، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله فقال اليهودي : صدقت ، ثم انصرف فذهب ، وذكر تمام الحديث .

[ ص: 336 ] وقد روي في حديث أم سلمة مراعاة سبق المني ، لا مراعاة علوه في معنى الشبه لا الإذكار ، ولا الإيناث .

ذكر ابن وهب ، قال : أخبرني ابن أبي ذئيب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة أن أم سليم امرأة أبي طلحة قالت : يا رسول الله ، هل على المرأة ترى زوجها في المنام يقع عليها غسل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا رأت بللا فقالت أم سلمة : يا رسول الله ، وتفعل ذلك المرأة ، فقال : ترب جبينك ، وأنى يكون شبه الخئولة إلا من ذلك ؟ ! أي النطفتين سبق إلى الرحم غلب على الشبه .

وكذلك رواه أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أم سلمة ، عن أم سلمة فذكر فيه سبق النطفة إلا أنه قال فيه : ( قالت أم سلمة ، وغطت وجهها : أو تفعله المرأة ؟ ! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : تربت يداك فبم يشبهها ولدها .

قال أبو عمر : الإسناد في ذكر سبق النطفة أثبت ، والله أعلم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال أبو عمر :

أما هشام بن عروة فرواه عن أبيه ، عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة أن أم سليم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث مالك وغيره عن هشام قال محمد بن يحيى : وهما حديثان عندنا .

[ ص: 337 ] قال أبو عمر :

أكثر رواة هذا الحديث عن ابن شهاب يقولون فيه : نعم ، إذا وجدت الماء ، وكذلك في حديث أم سلمة ، وأنس في قصة أم سليم هذه ، وكذلك روته خولة بنت حكيم عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وفي إجماع العلماء على أن المحتلم رجلا كان أو امرأة إذا لم ينزل ولم يجد بللا ، ولا أثرا للإنزال أنه لا غسل عليه ، وإن رأى الوطء والجماع الصحيح في نومه ، وأنه إذا أنزل فعليه الغسل ، امرأة كان أو رجلا ، وأن الغسل لا يجب في الاحتلام إلا بالإنزال ما يغني عن كل تأويل وتفسير ، وبالله التوفيق .

وقد روي من أخبار الآحاد ما يوافق الإجماع ، ويرفع الإشكال ، أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا حماد بن خالد الخياط ، قال : حدثنا عبد الله العمري ، عن عبيد الله ، عن القاسم عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ، ولا يذكر احتلاما قال : يغتسل ، وعن الرجل يرى قد احتلم ، ولا يجد البلل قال : لا يغتسل ، فقالت أم سليم : المرأة ترى ذلك عليها الغسل ؟ قال : نعم إنما النساء شقايق الرجال .

وحدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن سعيد [ ص: 338 ] بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس : أن أم سليم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا رأت ذلك فأنزلت فعليها الغسل ، فقالت أم سلمة : كيف هذا يا رسول الله ؟ قال : نعم ، ماء الرجل غليظ أبيض ، وماء المرأة رقيق أصفر ، فأيهما سبق وعلا أشبه الولد ، وفي هذا الحديث بيان ما كان عليه نساء ذلك الزمان من الاهتمام بأمر دينهم ، والسؤال عنه ، وهذا يلزم كل مؤمن ومؤمنة إذا جهل شيئا من دينه أن يسأل عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم شفاء العي السؤال .

وقالت عائشة : رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن .

وأم سليم من فاضلات نساء الأنصار ، وقد ذكرناها في كتابنا في الصحابة فأغنى عن ذكرها ههنا .

وكل امرأة عليها فرضا أن تسأل عن حكم حيضتها ، وغسلها ، ووضوئها ، وما لا غناء بها ( عنه ) من أمر دينها ، وهي والرجل فيما يلزمها من فرائضهما سواء ، وفيه أيضا دليل على أن ليس كل النساء يحتلمن ، ولهذا ما أنكرت عائشة وأم سلمة سؤال أم سليم ، وقد يوجد عدم الاحتلام في بعض الرجال إلا أن ذلك في النساء أوجد وأكثر منه في الرجال ، وقد قيل : إن [ ص: 339 ] إنكار عائشة لذلك إنما كان لصغر سنها ، وكونها مع زوجها فلذلك لم تعرف الاحتلام ; لأن الاحتلام لا تعرفه النساء ، ولا أكثر الرجال إلا عند عدم الجماع بعد المعرفة ( به ) فإذا فقد النساء أزواجهن ربما احتلمن ، والوجه الأول عندي أصح ; لأن أم سلمة قد فقدت زوجها ، وكانت كبيرة عالمة بذلك فأنكرت منه ما أنكرت عائشة على ما مضى في حديث قتادة عن أنس في هذا الباب ، وإذا كان في الرجال من لا يحتلم فالنساء أحرى بذلك ، والله أعلم .

وفيه جواز الإنكار ، والدعاء بالسوء على المعترض فيما لا علم له به ، وفيه أن الشبه في بني آدم إنما يكون من غلبة الماء ، وسبقه ، ونزوله ، والله أعلم .

ومن ههنا قالوا : إذا غلب ماء المرأة أشبه الرجل أخواله وأمه ، وإن غلب ماء الرجل أشبه الولد أباه ، وأعمامه ، وأجداده ، وأما قوله في الحديث أف لك ، فقال أبو عبيدة : تجر ، وترفع ، وتنصب بغير تنوين ، وهو ما غلظ من الكلام ، وقبح ، وقال غيره : يجوز صرفها ( وترك صرفها ) ، ومعناها أن تقال جوابا لما يستثقل من الكلام ، ويضجر منه قال : والأف ، والتف بمعنى واحد ، وقال غيره الأف وسخ الأذن ، والتف وسخ الأظفار .

[ ص: 340 ] وأما قوله : تربت يمينك ففيه قولان : أحدهما أن يكون أراد استغنت يمينك كأنه تعرض لها بالجهل لما أنكرت ، وأنها كانت تحتاج أن تسأل عن ذلك ، فكأنه خاطبها بالضد تنبيها كما تقول لمن كف عن السؤال عما لا يعلم ، أما أنت فاستغنيت عن أن تسأل ; أي لو أنصفت نفسك ونصحتها لسألت ، وقال غيره : ( هو ) كما يقال للشاعر إذا أجاد قاتله الله وأخزاه لقد أجاد ، ومنه قوله : ويل أمه ( مسعر حرب ) ، وهو يريد مدحه ، وهذا كله عند من قال هذا القول فرارا من الدعاء على عائشة ، وأن ذلك عنده غير ممكن من النبي صلى الله عليه وسلم .

وأنكر أكثر أهل العلم باللغة ، والمعاني أن تكون هذه اللفظة بمعنى الاستغناء ، وقالوا : لو كان بمعنى الاستغناء لكانت أتربت يمينك ; لأن الفعل منه رباعي تقول أترب الرجل إذا استغنى ، وترب إذا افتقر ، وقالوا : معنى هذا افتقرت يمينك من العلم بما سألت عنه أم سليم ، ونحو هذا .

قال أبو عمر :

أما تربت يمينك فمن دعاء العرب بعضهم على بعض معلوم ، مثل : قاتله الله ، وهوت أمه ، وثكلتك أمك ، وعقرى حلقى ، ونحو ذلك ، وأما الشبه ففيه لغتان إحداهما كسر الشين وتسكين الباء ، والثانية فتح الشين والباء جميعا ; مثل المثل ، والمثل ، والقتب والقتب .

التالي السابق


الخدمات العلمية