التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
771 مالك ، عن ابن شهاب ، عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب أنه حدثه أنه سمع سعد بن أبي وقاص ، والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي [ ص: 342 ] سفيان ، وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال الضحاك : لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله ، فقال سعد ( بئس ما قلت يا ابن أخي ، فقال الضحاك : فإن عمر قد نهى عن ذلك ، فقال سعد : ) قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه .


لم يختلف الرواة عن مالك في ( إسناد ) هذا الحديث ، ومتنه بمعنى واحد فيما علمت ، وكذلك رواه معمر ، عن الزهري بإسناد مالك ومعناه ، ولم يقمه ابن عيينة .

وروى هذا الحديث الليث ، عن ( عقيل ، عن ) ابن شهاب بهذا الإسناد مثله سواء ، إلا أنه لم يذكر فيه نهي ( عمر ) عن التمتع .

وقد ذكرنا في باب ابن شهاب عن عروة اختلاف الآثار في ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم به في خاصته محرما في حجته ، وذكرنا مذاهب العلماء في الأفضل من ذلك ، ولا خلاف علمته بين علماء المسلمين في جواز التمتع بالعمرة إلى الحج .

وفي هذا الحديث ذكر التمتع بالعمرة إلى الحج ، وذلك عند العلماء على أربعة أوجه ; منها ما اجتمع على أنه تمتع ، ومنها ما اختلف فيه .

فأما الوجه المجتمع على أنه التمتع المراد بقول الله عز وجل : ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) فهو : الرجل يحرم بعمرة في [ ص: 343 ] أشهر الحج ، وهي شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة ، وقد قيل : ذو الحجة ( كله .

) فإذا أحرم أحد بعمرة في أشهر الحج ، وكان مسكنه من وراء الميقات من أهل الآفاق ، ولم يكن من حاضري المسجد ( الحرام .

) والحاضرو المسجد الحرام عند مالك وأصحابه : هم أهل مكة ، وما اتصل بها خاصة ، وعند الشافعي وأصحابه هم من لا يلزمه تقصير الصلاة من موضعه إلى مكة ، وذلك أقرب المواقيت .

وعند أبي حنيفة ، وأصحابه هم أهل المواقيت ، ومن وراءها من كل ناحية فمن كان من أهل المواقيت أو من أهل ما وراءها فهم من حاضري المسجد الحرام وعند غير هؤلاء ( هم ) أهل الحرم .

وعلى هذه الأقاويل الأربعة مذاهب السلف في تأويل قول الله عز وجل ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فليس له التمتع بالعمرة إلى الحج ، ولا يكون متمتعا أبدا - أعني التمتع الموجب للهدي - ما كان هو وأهله كذلك .

ومن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فخرج من موضعه محرما بعمرة في أشهر الحج ، أو أحرم بها من ميقاته ، وقدم مكة فطاف لها وسعى ، وحل بها في أشهر الحج ، ثم أقام حلالا بمكة إلى أن أنشأ الحج منها في عامه ذلك قبل رجوعه إلى بلده ، وقبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته ، فهو متمتع بالعمرة إلى الحج ، وعليه ما أوجب الله على من تمتع بالعمرة إلى الحج .

[ ص: 344 ] وذلك ما استيسر من الهدي ، يذبحه لله ، ويعطيه المساكين بمنى أو بمكة ، فإن لم يجد الهدي صام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى بلده .

والثلاثة الأيام في الحج آخرها يوم عرفة ، فإن صامها من حين يحرم بحجه إلى يوم النحر فقد أدى ما عليه من صيام أيام الحج ، وإن فاته ذلك فليس له صيام يوم النحر بإجماع من علماء المسلمين نقلا عن النبي صلى الله عليه وسلم .

واختلف في صيامه أيام التشريق ؛ إذ هي من أيام الحج ، فرخص له خاصة في ذلك قوم ، وأبى من ذلك آخرون ، وسنذكر ذلك إن شاء الله .

فهذا إجماع من أهل العلم قديما وحديثا في المتعة ، والتمتع المراد بقول الله فمن تمتع بالعمرة إلى الحج والمعنى - والله أعلم - أنه تمتع بحله كله فحل له النساء ، وغير ذلك مما يحرم على المحرم ، وسقط عنه السفر لحجه من بلده ، وسقط عنه الإحرام من ميقاته ( في الحج ) .

وقد قال بعض أصحابنا : إنما ذلك لسقوط السفر خاصة ، لا لتمتعه بالحل ; لأن القارن لم يتمتع بحل ، وعليه دم .

والوجه العام ما ذكرت لك من تمتعه بحله وسقوط سفره ، وسقوط الإحرام من ميقاته فلذلك كله وجب الدم عليه إذ حصل حاجا ، ولم يحرم بحجه ذلك من ميقات أهله ، ولا شخص لذلك الحج من موضعه بعد أن حصل محرما في أشهر الحج وزمانه ، وحج من عامه ، فهذه العلة الموجبة عليه الدم ، والله [ ص: 345 ] أعلم .

فإن اعتمر في أشهر الحج ، ثم رجع إلى بلده ، ومنزله ، ثم حج من عامه ذلك فليس بمتمتع ، ولا هدي عليه ، ولا صيام عند جماعة العلماء أيضا ، إلا الحسن البصري ، فإنه قال : عليه هدي ، حج أو لم يحج . قال ; لأنه كان يقال : عمرة في أشهر الحج متعة .

وروى سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحج ، ثم يرجعون ، ولا يهدون ، فقيل لسعيد بن المسيب : فإن حج من عامه ؟ قال : عليه الهدي . قال قتادة : وقال الحسن : عليه الهدي حج أو لم يحج .

وهشيم ، عن يونس ، ، عن الحسن أنه قال : عليه الهدي حج أو لم يحج .

وقد روي عن يونس ، عن الحسن ، قال : ليس عليه هدي ، والصحيح عن الحسن ما ذكرنا ، أخبرنا أحمد بن محمد : حدثنا أحمد بن الفضل : حدثنا محمد بن جرير ، قال : أخبرنا ابن حميد : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسة ، عن أشعث النجار ، عن الحسن ، قال : إن اعتمر في أشهر الحج ، ثم رجع إلى أهله ، ( ثم حج ) من عامه ذلك فعليه هدي ; لأنه كان يقال : عمرة في أشهر الحج متعة .

وقد روي عن الحسن أيضا في هذا الباب قول لم يتابع عليه أيضا ، ولا ذهب إليه أحد من أهل العلم ، وذلك أنه قال : من اعتمر بعد يوم النحر فهي متعة ، والذي عليه جماعة الفقهاء ، وعامة العلماء ما ذكرت لك قبل هذا .

[ ص: 346 ] روى هشيم وغيره ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : من اعتمر في أشهر الحج ، ثم أقام حتى يحج ، فهو متمتع ، وعليه الهدي ، فإن رجع إلى مصره ، ثم حج من عامه فلا شيء عليه ، وعلى هذا الناس .

فإن ظن ظان أن معنى حديث مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر ، قال : من اعتمر في أشهر الحج شوال ، أو ذي القعدة ، أو ذي الحجة قبل الحج ، فقد استمتع ، ووجب عليه الهدي ( أو الصيام ، إن لم يجد هديا .

كمعنى ما روي عن الحسن في إيجاب الهدي ) على من اعتمر في أشهر الحج ، وإن لم يحج ، فليس كما ظن ، ولا يعرف ذلك من مذهب ابن عمر .

وفي قوله ( في ) هذا الحديث " قبل الحج " دليل على أنه حج ، مالك في الموطإ ، فقال بأثر حديثه ذلك : قال مالك : وذلك إذا أقام حتى الحج ، ثم حج .

وذكر إسماعيل بن إسحاق القاضي ، قال : حدثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري ، قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أنه كان يقول : من اعتمر في أشهر الحج شوال أو ذي القعدة أو ذي الحجة ، ثم أقام حتى يحج ، فهو متمتع ، عليه الهدي ، أو الصيام إن لم يجد هديا .

قال إسماعيل : وحدثنا سليمان بن حرب : حدثنا حماد بن زيد ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد المسيب ؛ أنه قال : إذا اعتمر الرجل في أشهر الحج ، ثم رجع إلى أهله ، ثم حج من عامه ، فليس عليه هدي ، وعلى هذا جماعة العلماء ، على ما قدمنا .

[ ص: 347 ] وقد روي عن طاوس في التمتع قولان ، هما أشد شذوذا مما ذكرنا عن الحسن ; أحدهما : أن من اعتمر في غير أشهر الحج ، ثم أقام حتى الحج ، ثم حج من عامه أنه متمتع ، وهذا لم يقل به أحد من العلماء ( - فيما علمت - ) غيره ، ولا ذهب إليه أحد من فقهاء الأمصار .

وذلك - والله أعلم - أن شهور الحج أحق بالحج من العمرة ; لأن العمرة جائزة في السنة كلها ، والحج إنما موضعه شهور معلومة ، فإذا جعل أحد العمرة في أشهر الحج ( ، ولم يأت في ذلك العام بحج ) فقد جعلها في موضع كان الحج أولى به ( .

ثم رخص الله عز وجل في كتابه ، وعلى لسان رسوله في عمل العمرة في أشهر الحج للمتمتع والقارن للحج معها ، ولمن شاء أن يفردها في أشهر الحج ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .

والآخر قاله في المكي : إذا تمتع من مصر من الأمصار فعليه الهدي ، وهذا لم يعرج عليه لظاهر قول الله عز وجل ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام والتمتع على ما قد أوضحنا عن جماعة العلماء بالشرائط التي وصفنا ، وبالله توفيقنا .

واختلفوا فيمن أنشأ عمرة في غير أشهر الحج ثم عملها في أشهر الحج ثم حج من عامه ذلك فقال مالك : عمرته في الشهر الذي حل فيه ، [ ص: 348 ] يريد إن كان حل منها غير أشهر الحج فليس بمتمتع ، وإن كان حل منها في أشهر الحج فهو متمتع إن حج من عامه .

وقال الثوري : إذا قدم الرجل معتمرا في شهر رمضان ، وقد بقي عليه منه يوم أو يومان ، فلم يطف لعمرته حتى رأى هلال شوال ، فكان إبراهيم يقول : هو متمتع ، وأحب إلي أن يهريق دما .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : إن طاف للعمرة ثلاثة أشواط في رمضان ، وأربعة أشواط في شوال كان متمتعا ، وإن طاف لها أربعة في رمضان ، وثلاثة في شوال لم يكن متمتعا .

وقال الشافعي : إذا طاف بالبيت في أشهر الحج للعمرة فهو متمتع إن حج من عامه ذلك ، وذلك أن العمرة إنما تكمل بالطواف بالبيت ، وإنما ينظر إلى إكمالها .

وقال أبو ثور : إذا دخل في العمرة في أشهر الحج ، فسواء طاف لها في رمضان أو في شوال لا يكون بهذه العمرة متمتعا .

واختلفوا في وقت وجوب الهدي على المتمتع ، فذكر ابن وهب ، عن مالك ؛ أنه سئل عن المتمتع بالعمرة إلى الحج يموت بعدما يحرم بالحج بعرفة أو غيرها ، أترى عليه هديا قال : من مات من أولئك قبل أن يرمي جمرة العقبة ، فلا أرى عليه هديا ، ومن رمى الجمرة ثم مات فعليه الهدي .

قيل له : فالهدي من رأس المال أو من الثلث ؟ قال : بل من رأس المال .

وقال الشافعي : إذا أحرم بالحج فقد وجب عليه دم المتعة إذا كان [ ص: 349 ] واجدا لذلك ، ذكره الزعفراني عنه ، وقال عنه الربيع : إذا أهل المتمتع بالحج ثم مات من ساعته أو بعد ، قبل أن يصوم ففيها قولان :

أحدهما : أن عليه دم المتعة ; لأنه دين عليه ، ولا يجوز أن يصام عنه .

والآخر : أنه لا دم عليه ; لأن الوقت الذي وجب عليه فيه الصوم قد زال وغلب عليه .

واتفق مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة وأصحابهم أن المتمتع إذا لم يجد هديا صام الثلاثة أيام إذا أحرم ، وأهل بالحج إلى آخر يوم عرفة ، وهو قول أبي ثور .

وقال عطاء : لا بأس أن يصوم المتمتع في العشر ، وهو حلال قبل أن يحرم ، وقال مجاهد ، وطاوس : إذا صامهن في أشهر الحج أجزأه .

وأجمع العلماء على أن الصوم لا سبيل للمتمتع إليه إذا كان يجد الهدي ، واختلفوا فيه إذا كان غير واجد للهدي ، فصام ، ثم وجد الهدي قبل إكمال صومه .

فذكر ابن وهب ، عن مالك ، قال : إذا دخل في الصوم ، ثم وجد هديا فأحب إلي أن يهدي ، وإن لم يفعل أجزأه الصيام ، وقال الشافعي : يمضي في صومه ، وهو فرضه ، وكذلك قال أبو ثور .

وقال أبو حنيفة : إذا أيسر المتمتع في اليوم الثالث من صومه بطل عليه الهدي ، وإن صام ثلاثة أيام في الحج ثم أيسر كان له أن يصوم السبعة الأيام ، ولا يرجع إلى الهدي .

وقال إبراهيم النخعي : إذا وجد ما يذبح قبل أن يحل فليذبح ، وإن كان قد صام وإن لم يجد ما يذبح حتى يحل فقد أجزأه ( الصوم ) .

وقال عطاء : إن صام ثم وجد ما يذبح ، فليذبح ، حل أم لم يحل ، ما كان في أيام التشريق .

واختلفوا فيما على من [ ص: 350 ] فاته صوم الثلاثة الأيام قبل يوم النحر فذكر ابن وهب ، عن مالك ، قال : من نسي صوم الثلاثة الأيام في الحج ، أو مرض فيها ، فإن كان بمكة فليصم ( الأيام الثلاثة بمكة ، وقال : إن لم يصم قبل يوم عرفة ، فليصم ) أيام منى الثلاثة ، وليصم إذا رجع إلى أهله سبعة ، وإن كان رجع إلى أهله فليهد إن قدر ، فإن لم يقدر فليصم ثلاثة أيام في بلده وسبعة بعد ذلك ، وهو قول أبي ثور .

وتحصيل مذهب مالك أنه إذا قدم بلده ، ولم يصم ، ثم وجد الهدي لم يجزه الصوم ، ولا يصوم إلا إذا لم يجد هديا ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن انقضى يوم عرفة ولم يصم الثلاثة أيام فعليه دم ، لا يجزيه غيره ، وقال الشافعي بالعراق : يصوم أيام منى إن لم يكن صام قبل يوم النحر ، وقال : لا يصومها ، وعليه أكثر أصحابه ، ويصومها كلها إذا رجع إلى بلده فإن مات قبل ذلك أطعم عنه .

وأجمعوا على أن رجلا من ( غير ) أهل مكة لو قدم ( مكة ) معتمرا في أشهر الحج عازما على الإقامة بها ، ثم أنشأ الحج من عامه ذلك ( فحج ) أنه متمتع عليه ما على المتمتع .

وأجمعوا على أن مكيا لو أهل بعمرة من خارج الحرم في أشهر الحج فقضاها ثم حج من عامه ذلك ، أنه من حاضري المسجد الحرام الذين لا متعة لهم ، وأن لا شيء عليه [ ص: 351 ] وأجمعوا في المكي يجيء من وراء الميقات محرما بعمرة ثم ينشئ الحج من مكة وأهله بمكة ، ولم يسكن سواها أنه لا دم عليه ، وكذلك إذا سكن غيرها وسكنها ، وكان له أهل فيها ، وفي غيرها .

وأجمعوا على أنه لو انتقل عن مكة بأهله ، وسكن غيرها ثم قدمها في أشهر الحج معتمرا فأقام ( بها حتى حج من عامه ) أنه متمتع كسائر أهل الآفاق ، وقد ذكرنا مسألة طاوس فيما مضى من هذا الباب .

واتفق مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة وأصحابهم ، والثوري ، وأبو ثور على أن المتمتع يطوف لعمرته بالبيت ، ويسعى بين الصفا والمروة ، وعليه بعد ( أيضا ) طواف آخر لحجه ، وسعي بين الصفا والمروة .

وروي عن عطاء ، وطاوس ، ومجاهد أنه يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة .

وأما طواف القارن فقد ذكرناه في باب ابن شهاب ، عن عروة .

واختلفوا في حكم المتمتع الذي يسوق الهدي فقال مالك : إن كان متمتعا حل إذا طاف وسعى ، ولا ينحر هديه ( إلا بمنى ) إلا أن يكون مفردا للعمرة ، فإن كان مفردا للعمرة نحر هديه بمكة ، وإن كان قارنا نحره بمنى ذكره ابن وهب ، عن مالك ، وقال مالك : من أهدى هديا للعمرة ، وهو متمتع لم يجز ذلك ، وعليه هدي آخر للمتعة ; لأنه إنما يصير متمتعا إذا أنشأ الحج بعد أن حل من عمرته ، وحينئذ يجب عليه الهدي [ ص: 352 ] وقال أبو حنيفة ، والثوري ، وأبو ثور ، وإسحاق لا ينحر المتمتع هديه إلى يوم النحر ، وقال أحمد : إن قدم المتمتع قبل العشر طاف وسعى ونحر هديه ، وإن قدم في العشر لم ينحر إلا يوم النحر ، وقاله عطاء .

وقال الشافعي : يحل من عمرته إذا طاف وسعى ساق هديا أو لم يسق ، وقال أبو ثور : يحل ، ولكن لا ينحر هديه حتى يحرم بالحج ، وينحره يوم النحر .

وقول أحمد بن حنبل في التمتع ، ومسائله المذكورة ههنا كلها كقول الشافعي سواء ، وله قولان أيضا في صيام المتمتع أيام التشريق إن لم يصم قبل يوم النحر .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا لم يسق المتمتع هديا فإذا فرغ من عمرته صار حلالا ، فلا يزال كذلك حتى يحرم بالحج فيصير حراما ، ولو ( كان ) هديا لمتعته لم يحل من عمرته حتى يحل من حجته ; لأنه الهدي على حديث حفصة .

وحجة الشافعي في جواز إحلاله : أن المتمتع إنما يكون متمتعا إذا استمتع بإحلاله إلى أن يحرم بالحج ، فأما من لم يحل من المعتمرين فإنما هو قارن لا متمتع ، والقران قد أباح التمتع [ ص: 353 ]

فهذه جملة أصول التمتع بالعمرة إلى الحج ، وهذا هو الوجه المشهور في التمتع ، وقد قيل : أن هذا الوجه هو الذي روي عن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن مسعود كراهيته ، وقالا أو أحدهما : يأتي أحدهم منى ، وذكره يقطر منيا .

وقد أجمع علماء المسلمين على جواز هذا ، وعلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أباحه وأذن فيه .

وقد قال جماعة من العلماء : إنما كرهه عمر - رضي الله عنه - لأن أهل الحرم كانوا قد أصابتهم يومئذ مجاعة فأراد عمر أن ينتدب الناس إليهم لينعشوا بما يجلب من المير .

وقال آخرون : أحب أن يزار البيت في العام مرتين ( مرة ) أن الإفراد أفضل ؛ فكان يميل إليه ، ويأمر به ، وينهى عن غيره استحبابا ؛ ولذلك قال : افصلوا بين حجكم وعمرتكم ، فإنه أتم لحج أحدكم ولعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا صدقة بن موسى ، عن مالك بن دينار ، قال : سألت بالحجاز عطاء بن [ ص: 354 ] أبي رباح ، وطاوسا ، والقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله ، وسألت بالبصرة الحسن ، وجابر بن زيد ، ومعبدا الجهني ، وأبا المتوكل الناجي كلهم أمرني بمتعة الحج .

والوجه الثاني من وجوه التمتع بالعمرة إلى الحج : هو أن يجمع الرجل بين العمرة ، والحج فيهل بهما جميعا في أشهر الحج أو غيرها يقول : لبيك بعمرة وحجة معا فإذا قدم مكة طاف لحجته ، وعمرته طوافا واحدا ، وسعى سعيا واحدا ، أو طاف طوافين ، وسعى سعيين على مذهب من رأى ذلك .

وقد ذكرنا القائلين بالقولين جميعا ، وحجة كل فريق منهم في باب ابن شهاب ، عن عروة ، وإنما جعل القران من باب التمتع ; لأن القارن متمتع بترك النصب في السفر إلى العمرة مرة ، وإلى الحج أخرى ، وتمتع بجمعهما ، لم يحرم لكل واحدة من ميقاته ، وضم إلى الحج فدخل تحت قول الله عز وجل : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي .

وهذا وجه من التمتع لا خلاف بين العلماء في جوازه ، وأهل المدينة لا يجيزون الجمع بين الحج والعمرة إلا بسياق الهدي ، وهو عندهم لا يجوز دونها .

وأهل العراق يختارون البدنة ، ويستحبونها ، وتجزي عندهم عن القارن شاة ، وهو قول الشافعي ، وقد قال في بعض كتبه : القارن أخف [ ص: 355 ] حالا من المتمتع فإن لم يجد القارن الهدي صام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى بلده ، حكمه في ذلك حكم المتمتع بالعمرة إلى الحج ، ومما يدلك على أن القران تمتع قول ابن عمر إنما جعل القران لأهل الآفاق ، وتلا : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فمن كان من حاضري المسجد الحرام ، وتمتع أو قرن لم يكن عليه دم قران ولا تمتع ، ومن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ، وقرن أو تمتع فعليه دم .

وكان عبد الملك بن الماجشون يقول إذا قرن المكي الحج مع العمرة ، كان عليه دم القران ؛ من أجل أن الله تعالى إنما أسقط عن أهل مكة الدم والصيام في التمتع لا في القران .

وقال مالك : لا أحب لمكي أن يقرن بين الحج والعمرة ، وما سمعت أن مكيا قرن ، فإن فعل لم يكن عليه دم ، ولا صيام ، وعلى قول مالك جمهور الفقهاء في ذلك .

والوجه الثالث من التمتع هو الذي تواعد عليه عمر بن الخطاب الناس ، وقال : متعتان كانتا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا أنهى عنهما : متعة النساء ، ومتعة الحج .

وقد تنازع العلماء بعده في جواز هذا الوجه هلم جرا ، وذلك أن يهل الرجل بالحج حتى إذا دخل مكة فسخ حجه في عمرة ، ثم حل ، وأقام حلالا حتى يهل بالحج يوم التروية ، فهذا هو الوجه الذي تواترت الآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه أنه أمر أصحابه في [ ص: 356 ] حجته من لم يكن معه منهم هدي ، ولم يسقه ، وكان قد أحرم بالحج أن يجعلها عمرة .

وقد أجمع العلماء على تصحيح الآثار بذلك عنه - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يدفعوا شيئا منها ، إلا أنهم اختلفوا في القول بها والعمل ؛ لعلل نذكرها إن شاء الله ، فجمهور أهل العلم على ترك العمل بها ; لأنها عنده خصوص خص بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( أصحابه ) في حجته تلك ؛ لعلة قالها ابن عباس - رحمه الله - قال : كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور ، ويجعلون المحرم صفرا ، ويقولون إذا برأ الدبر ، وعفا الأثر ، وانسلخ صفر ، أو قالوا : دخل صفر ، حلت العمرة لمن اعتمر ذكره ابن أبي شيبة ، عن أبي أسامة ، عن وهيب ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( قال أبو بكر بن أبي شيبة : وحدثنا يحيى بن آدم ، قال : حدثنا وهيب ، قال : حدثنا عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : كان أهل الجاهلية يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور ، وكانوا يسمون المحرم صفرا ، وكانوا يقولون إذا برأ الدبر ، وعفا الأثر ، وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر ، فقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صبيحة رابعة ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فقالوا : يا رسول الله ، أي الحل ؟ قال : الحل كله ) .

[ ص: 357 ] ففي هذا دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما فسخ الحج في العمرة ؛ ليريهم أن العمرة في أشهر الحج لا بأس بها ، فكان ذلك معه خاصة ; لأن الله قد أمر بإتمام الحج والعمرة كل من دخل فيهما أمرا مطلقا ، ولا يجب أن يخالف ظاهر كتاب الله إلا إلى ما لا إشكال فيه من كتاب ( ناسخ ) أو سنة مبينة .

واحتجوا من الحديث بما حدثنا به محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أنبأنا إسحاق بن إبراهيم ، عن عبد العزيز بن محمد ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن الحارث بن بلال ، عن أبيه ، قال : قلنا يا رسول الله ، فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة ، فقال : بل لنا خاصة .

وحدثنا سعيد بن نصر : حدثنا قاسم بن أصبغ : حدثنا محمد بن إسماعيل ( حدثنا الحميدي ) : حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، قال : سمعت ربيعة بن أبي عبد الرحمن يذكر عن الحارث ( بن بلال بن الحارث ) المزني ، عن أبيه ، قال : قلت : يا رسول الله ، فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة ؟ قال : بل لنا خاصة .

وحدثنا سعيد ، وعبد الوارث قالا : حدثنا قاسم : حدثنا إسماعيل بن إسحاق : حدثنا حجاج بن منهال : حدثنا أبو عوانة ، عن معاوية بن [ ص: 358 ] إسحاق ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، قال : سئل عثمان بن عفان عن متعة الحج ، فقال : كانت لنا ليست لكم .

وذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو معاوية ، ويعلى بن عبيد ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن ابن ذر ، قال : إنما كانت المتعة بالحج لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة .

وقال أبو معاوية : يعني أن يجعل الحج عمرة ، وقال إسماعيل : حدثنا حجاج : حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، عن يحيى بن سعيد ، قال : أخبرني المرقع ، عن أبي ذر ، قال : ما كانت لأحد بعدنا أن يحرم بالحج ، ثم يفسخها بعمرة ، وعلى هذا جماعة فقهاء الحجاز ، والعراق ، والشام كمالك ، والثوري ، والأوزاعي ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم ، وأكثر علماء التابعين ، وجمهور فقهاء المسلمين إلا شيء يروى عن ابن عباس ، وعن الحسن البصري ، وبه قال أحمد بن حنبل .

قال أحمد بن حنبل : لا أرد تلك الآثار المتواترة الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فسخ الحج في العمرة بحديث الحارث بن بلال ، عن أبيه ، وبقول أبي ذر ، قال : ولم يجمعوا على ما قال أبو ذر ، ولو أجمعوا كان حجة ، وقد خالف ابن عباس ، أبا ذر ، ولم يجعله خصوصا .

وذكر عن يحيى القطان ، عن الأجلح ، عن عبد الله بن أبي [ ص: 359 ] الهذيل ، قال : كنت جالسا عند ابن عباس فأتاه رجل يزعم أنه مهل بالحج ، وأنه طاف بالبيت ، وبالصفا والمروة ، فقال له ابن عباس : أنت معتمر ؟ فقال له الرجل : لم أرد عمرة ، فقال : أنت معتمر ، .

وروى ابن أبي مليكة ، عن عروة بن الزبير أنه قال لابن عباس : أضللت الناس ، قال : وما ذاك ؟ قال : تفتي الناس إذا طافوا بالبيت فقد حلوا ، وقال أبو بكر ، وعمر من أحرم بالحج لم يزل محرما إلى يوم النحر ، فقال ابن عباس : أحدثكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحدثوني عن أبي بكر ، وعمر ، فقال عروة : كانا أعلم برسول الله منك .

وذكر روح بن عبادة ، عن أشعث ، عن الحسن جواز فسخ الحج في العمرة .

واحتج أحمد ، ومن قاله بهذا القول ، بقول سراقة بن مالك بن جعشم في حديث جابر : يا رسول الله ، متعتنا هذه لعامنا أم للأبد ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بل للأبد . .

وهذا يحتمل أن يكون أراد وجوب ذلك مرة في الدهر ، والله أعلم .

والوجه الرابع من المتعة متعة المحصر ، ومن صد عن البيت . ذكر يعقوب بن شيبة ، أنبأنا أبو سلمة التبوذكي : حدثنا وهيب : حدثنا إسحاق بن سويد ( قال ) سمعت عبد الله بن الزبير ، وهو يخطب ، ويقول : يا أيها الناس إنه والله ليس التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون ، ولكن التمتع بالعمرة إلى الحج ، أن يخرج الرجل حاجا فيحبسه عدو [ ص: 360 ] أو أمر يعذر به ، حتى تذهب أيام الحج فيأتي البيت فيطوف ، ويسعى بين الصفا والمروة ، ثم يتمتع بحله إلى العام المستقبل ثم يحج ، ويهدي .

وسنذكر وجوه ذلك في باب نافع ، عن ابن عمر إن شاء الله .

وأما قول سعد صنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصنعناها معه فليس فيه دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تمتع ; لأن عائشة ، وجابرا يقولان : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج ، ويقول أنس ، وابن عباس ، وجماعة : قرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال أنس : سمعته يلبي بعمرة ، وحجة معا ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة .

ويحتمل قوله صنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعنى أذن فيها ، وأباحها ، وإذا أمر الرئيس بالشيء جاز أن يضاف فعله إليه ، كما يقال : رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الزنا ، وقطع في السرقة ، ونحو هذا ، ومن هذا المعنى قول الله عز وجل ونادى فرعون في قومه أي أمر فنودي ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية