التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1655 مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد [ ص: 362 ] الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام ، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد : أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه ، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام ، قال ابن عباس : فقال عمر : ادع لي المهاجرين فدعاهم ، فاستشارهم ، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام ، فاختلفوا عليه ، فقال بعضهم : قد خرجت لأمر ، ولا نرى أن ترجع عنه ، وقال بعضهم : معك بقية الناس ، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء ، فقال : ارتفعوا عني ، ثم قال : ادع لي الأنصار ، فدعوتهم ، فاستشارهم ، فسلكوا سبيل المهاجرين ، واختلفوا كاختلافهم ، فقال : ارتفعوا عني ، ثم قال : ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح ، فدعوتهم له ، فلم يختلف عليه منهم رجلان ، فقالوا : نرى أن ترجع بالناس ، ولا تقدمهم على هذا الوباء ، فنادى عمر في الناس : إني مصبح على ظهر فأصبحوا ( عليه ) ، فقال أبو عبيدة : فرارا من قدر الله فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ، نعم ، نفر من قدر الله إلى قدر الله ، أرأيت لو كانت لك إبل ، فهبطت ( بها ) واديا له عدوتان ، إحداهما خصبة [ ص: 363 ] والأخرى جدبة ، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله ، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ، قال : فجاء عبد الرحمن بن عوف ، وكان غائبا في بعض حاجاته ، فقال : إن عندي من هذا علما ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها ، فلا تخرجوا فرارا منه ، فحمد الله عمر ثم انصرف


.

هكذا هذا الحديث في الموطإ عند أكثر الرواة ، ورواه إبراهيم بن عمر بن أبي الوزير ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، وليس في الموطإ عن أبيه .

ورواه ابن وهب ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن ابن عباس لم يقل : عن عبد الله بن عبد الله ، والذي في الموطإ عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث .

ورواية يونس ، عن ابن شهاب كما قال ابن وهب ، وأظنه دخل عليه لفظ أحدهما في الآخر .

ورواية صالح بن نصر لهذا الحديث كما روى ابن وهب [ ص: 364 ] وأما عبد الحميد فقد تقدم القول فيه ، وأما عبد الله ( بن عبد الله ) بن الحارث بن نوفل فمشهور ، روى عنه ابن شهاب أحاديث منها حديث الصدقة ، الحديث الطويل الذي فيه " إنما الصدقة أوساخ الناس " يرويه مالك ، وصالح بن كيسان وغيرهما عن ابن شهاب ، عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث هذا عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب .

ويروي عبد الله بن عبد الله هذا أيضا عن أبيه المعروف بببة ، قال : سألت في إمارة عثمان ، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون عن صلاة الضحى .

روى هذا الخبر أيضا الزهري عنه عن أبيه .

وقد اختلف عليه فيه ، فقيل : عن عبد الله ، عن أبيه ، وقيل : عن عبيد الله ، عن أبيه ، والصواب فيه - إن شاء الله - عبد الله ، وكذلك قال عبد الكريم أبو أمية ، ويزيد بن أبي زياد عنه في حديث صلاة الضحى فابن شهاب يروي عن عبد الله ( بن عبد الله ) بن الحارث نفسه ، ويروي عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عنه ، فاعلم .

وأما محمد بن عبد الله أخو عبد الله بن عبد الله هذا ، فقد تقدم ذكره في الباب قبل هذا ، وأما أخوهما عبيد الله فمعروف أيضا عند أهل الأثر ، وأهل النسب ، وله ابن يسمى العباس ، ولهم عند أهل النسب أخوان ; أحدهما الصلت بن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، كان من رجال قريش ، وكان عنده بنتان لعلي بن أبي طالب ، قال العدوي : وكان فقيها .

[ ص: 365 ] قال أبو عمر : أظنه كان له حظ من العلم ، ولا أحفظ له رواية ، وعون بن عبد الله بن الحارث ، وابنه الحارث بن عون كان جوادا ، وفيه يقول الشاعر :


لولا ندى الحارث مات الندى وانقطع المسئول والسائل

.

فأما قول الذهلي بأنه ببة كان له ثلاثة بنين ، فإنما أخذه من الأحاديث ، ولم يطالع ما قاله أهل النسب ، والله أعلم .

وفي هذا الحديث من المعاني : خروج الخليفة إلى أعماله يطالعها ، وينظر إليها ، ويعرف أحوال أهلها ، وكان عمر - رضي الله عنه - قد خرج إلى الشام مرتين في قول بعضهم .

ومنهم من يقول : لم يخرج إلا مرة واحدة ، وهي هذه ، والمعروف عند أهل السير أنه خرج إليها مرتين .

ذكر خليفة عن ابن الكلبي ، قال : لما صالح أبو عبيدة أهل حلب ، شخص - وعلى مقدمته خالد بن الوليد - فحاصرا أهل إيليا ، فسألوه الصلح على أن يكون عمر هو يعطيهم ذلك ، ويكتب لهم أمانا ، فكتب أبو [ ص: 366 ] عبيدة إلى عمر ، فقدم عمر فصالحهم ، فأقام أياما ، ثم شخص إلى المدينة ، وذلك في سنة ست عشرة .

قال أبو عمر : وكان خروجه المذكور في هذا الحديث سنة سبع عشرة ، قال خليفة بن خياط : فيها خرج عمر بن الخطاب إلى الشام ، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت ، وانصرف من سرغ ، وبها الطاعون ( وقد تقدم في باب ابن شهاب عن عبد الله بن عمر بن ربيعة في ذكر سرغ ، ومعنى الطاعون ، وأخبار في الفرار منه ما يغني عن تكراره ههنا .

حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي ، قال : حدثنا أبي : حدثنا عبد الله بن يونس : حدثنا بقي : حدثنا ابن أبي شيبة : حدثنا محمد بن بشر : حدثنا هشام بن سعد ، قال : حدثني عروة بن رويم ، عن القاسم ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : جئت عمر حين قدم الشام ، فوجدته قائلا في خبائه ، فانتظرته في فيء الخباء ، فسمعته حين تضور من نومه ، وهو يقول : اللهم اغفر لي رجوعي من غزوة سرغ ، يعني حين رجع من أجل الوباء ) .

وفيه استعمال الخليفة أمراء عددا في موضع واحد ، لوجوه يصرفهم فيها ، وكان عمر قد قسم الشام على أربعة أمراء ، تحت يد كل واحد منهم جند ، وناحية من الشام ، منهم أبو عبيدة ( بن الجراح ) وشرحبيل بن حسنة ، ويزيد بن أبي سفيان ، وأحسب الرابع معاذ بن جبل ، كل واحد منهم على ناحية من ( الشام ) ، ثم لم يمت عمر حتى جمع الشام [ ص: 367 ] لمعاوية .

وقد استخلف زيد بن ثابت مرات على المدينة في خروجه إلى الحج ، وما أظنه استخلف غير زيد بن ثابت قط في خروجه من المدينة ، إلا ما حكي عن أبي المليح أن عمر استخلف خالا له مرة واحدة على المدينة يقال له عبد الله .

وأما عماله في أقطار الأرض فكثير ، وكان يعزل ، ويولي كثيرا لا حاجة بنا إلى ذكرهم ههنا ، وإنما ذكرنا هذا لما في الحديث من ذكر أمراء الأجناد أبو عبيدة وأصحابه .

وفيه دليل على إباحة العمل والولاية ، وأن لا بأس للصالحين والعلماء ، إذا كان الخليفة فاضلا عالما يأمر بالحق ويعدل .

( وفيه دليل على استعمال مشورة من يوثق بفهمه وعقله عند نزول الأمر المعضل ) .

وفيه دليل على أن المسألة ، إذا كان سبيلها الاجتهاد ، ووقع فيها الاختلاف ، لم يجز لأحد القائلين فيها عيب مخالفه ، ولا الطعن عليه ; لأنهم اختلفوا وهم القدوة ، فلم يعب أحد منهم على صاحبه اجتهاده ، ولا وجد عليه في نفسه .

إلى الله الشكوى وهو المستعان على أمة نحن بين أظهرها ، تستحل الأعراض ، والدماء إذا خولفت فيما تجيء [ ص: 368 ] به من الخطإ .

وفيه دليل على أن المجتهد إذا قاده اجتهاده إلى شيء خالفه فيه صاحبه ، لم يجز له الميل إلى قول صاحبه إذا لم يبن موقع الصواب فيه ، ولا قام له الدليل عليه .

وفيه دليل على أن الإمام والحاكم إذا نزلت به نازلة لا أصل لها في الكتاب ، ولا في السنة ، كان عليه أن يجمع العلماء ، وذوي الرأي ، ويشاورهم فإن لم يأت واحد منهم بدليل كتاب ، ولا سنة غير اجتهاده ، كان عليه الميل إلى الأصلح ، والأخذ بما يراه .

وفيه دليل على أن الاختلاف لا يوجب حكما ، وإنما يوجبه النظر ، وأن الإجماع يوجب الحكم والعمل .

وفيه دليل على إثبات المناظرة والمجادلة عند الخلاف في النوازل والأحكام ، ألا ترى إلى قول أبي عبيدة ، لعمر - رحمهما الله تعالى - : تفر من قدر الله ، فقال : نعم ، أفر من قدر الله إلى قدر الله ، ثم قال ( له ) : أرأيت . . . ، فقايسه وناظره بما يشبه في مسألته .

وفيه دليل على أن الاختلاف إذا نزل ، وقام الحجاج ( فالحجة ) ، والفلج بيد من أدلى بالسنة إذا لم يكن من الكتاب نص لا يختلف في تأويله ، وبهذا أمر الله عباده عند التنازع ، أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى كتاب الله ، وسنة نبيه ، فمن كان عنده من ذلك علم وجب الانقياد إليه [ ص: 369 ]

وفيه دليل على أن الحديث يسمى علما ، ويطلق ذلك عليه ، ألا ترى إلى قول عبد الرحمن بن عوف عندي من هذا علم .

وفيه ( دليل على ) أن الخلق يجرون في قدر الله وعلمه ، وأن أحدا منهم أو شيئا لا يخرج عن حكمه وإرادته ومشيئته لا شريك له .

وفيه أن العلم قد يوجد عند من هو في العلم دونه ما لا يوجد منه عنده ; لأنه معلوم أن موضع عمر من العلم ، ومكانه من الفهم ، ودنوه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدخل والمخرج ، فوق عبد الرحمن بن عوف ، وقد كان في هذا الباب عند عبد الرحمن عنه - عليه السلام - ما جهله عمر . وهذا واضح يغني عن القول فيه .

وقد جهل محمد بن سيرين حديث رجوع عمر من أجل الطاعون .

ذكر ابن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن ابن عون ، عن محمد ، قال : ذكر له أن عمر رجع من الشام حين سمع بها وباء ، وقال : إنما أخبر أن الصائفة لا تخرج العام فرجع .

وفيه أن القاضي والإمام والحاكم لا ينفذ قضاء ، ولا يفصله إلا عن [ ص: 370 ] مشورة من بحضرته ، ويصل إليه ، ويقدر عليه من علماء موضعه ، وهذا مشهور من مذهب عمر - رضي الله عنه - .

ذكر سيف بن عمر ، عن عبد الله بن المستورد ، عن محمد بن سيرين ، قال : عهد عمر إلى القضاة أن لا يصرموا القضاء إلا عن مشورة ، وعن ملا وتشاور ، فإنه لم يبلغ من علم عالم أن يجتزئ به ، حتى يجمع بين علمه وعلم غيره ، وتمثل :


خليلي ليس الرأي في صدر     واحد أثيرا علي اليوم ما يرياني

.

قال سيف : وحدثنا سهل بن يوسف بن سهل بن مالك الأنصاري ، عن أبيه ، عن عبيد بن صخر بن لوذان الأنصاري ، قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل معلما لأهل اليمن ، وحضرموت ، قال : يا معاذ ، إنك تقدم على أهل كتاب ، وإنهم سائلوك . . . . .

فذكر الحديث وفيه : ولا تقضين إلا بعلم ، وإن أشكل عليك أمر فسل واستشر ، فإن المستشير معان ، والمستشار مؤتمن ، وإن التبس عليك ، فقف حتى تتبين أو تكتب إلي ، ولا تصرمن قضاء فيما لم تجده في كتاب الله ، أو سنتي إلا عن ملا . . .
وذكر تمام الخبر ) .

وفيه دليل على عظيم ما كان عليه القوم من الإنصاف للعلم ، والانقياد إليه ، وكيف لا يكون كذلك ، وهم خير الأمم - رضي الله عنهم - .

وفيه دليل على استعمال خبر الواحد وقبوله ، وإيجاب العمل به ، وهذا هو أوضح وأقوى ما نرى من جهة الآثار في قبول خبر الواحد ; لأن ذلك كان في جماعة الصحابة وبمحضرهم في أمر قد أشكل عليهم فلم [ ص: 371 ] يقل لعبد الرحمن بن عوف أنت واحد ، والواحد لا يجب قبول خبره ، إنما يجب قبول خبر الكافة ، ما أعظم ضلال من قال بهذا ، والله عز وجل يقول : إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا وقرئت " فتثبتوا " فلو كان العدل إذا جاء بنبإ يتثبت في خبره ، ولم ينفذ لاستوى الفاسق والعدل ، وهذا خلاف القرآن ، قال الله عز وجل : أم نجعل المتقين كالفجار .

والقول في خبر العدل من جهة النظر له موضع غير هذا ، وما التوفيق إلا بالله .

وقد مضى في ( معنى ) الطاعون أخبار وتفسير في باب ابن شهاب ( عن عبد الله بن عامر ) لا معنى لتكرارها ههنا ، والعرب تزعم أن الطاعون طعن من الشيطان ، وتسميه أيضا رماح الجن ، ولهم في ذلك أشعار لم أذكرها ; لأني على غير يقين منها ، .

وقد روي أن عمرو بن العاص قام في الناس في طاعون عمواس بالشام ، وقال : إن هذا الطاعون قد ظهر ، وإنما هو رجز من الشيطان ، ففروا منه في هذه الشعاب .

فأنكر ذلك عليه معاذ بن جبل ( حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ : حدثنا ابن وضاح : حدثنا دحيم : حدثنا الوليد ( بن مسلم ) ، عن الوليد بن محمد ، عن الزهري ، قال : أصاب الناس طاعون بالجابية ، فقام عمرو بن العاص ، وقال : تفرقوا عنه ، فإنما هو بمنزلة نار . فقام معاذ بن جبل ، فقال : لقد كنت فينا ولأنت أضل من [ ص: 372 ] حمار أهلك ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " هو رحمة لهذه الأمة " اللهم فاذكر معاذا ، وآل معاذ فيمن تذكر بهذه الرحمة .

قال دحيم : حدثنا عفان ، عن شعبة ، عن يزيد بن خمير ، قال : سمعت شرحبيل بن شفعة يحدث : عن عمرو بن العاص ، قال : وقع الطاعون بالشام ، فقال عمرو : إنه رجس فتفرقوا عنه . فقال شرحبيل : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إنها رحمة ربكم ، ودعوة نبيكم " .

أظنه أراد بقوله : " ودعوة نبيكم " قوله - صلى الله عليه وسلم - " اللهم اجعل فناء أمتي بالطعن والطاعون
" . وقد ذكرنا هذا الخبر في مواضع من هذا الكتاب .

وروينا عن ابن مسعود أنه قال : الطاعون فتنة على المقيم والفار ، أما الفار فيقول : فررت فنجوت ، وأما المقيم فيقول : أقمت فمت ، وكذبا ، فر من لم يجئ أجله ، وأقام من جاء أجله ) .

( وقد مضى القول في الفرار من الطاعون في باب ابن شهاب ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، والحمد لله ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية