التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 394 ] ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن حديثان أحدهما مرسل عند أكثر الرواة عن مالك .

وهو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة قرشي مخزومي ، ذكرنا نسبه عند ذكر الحارث بن هشام في كتابنا في الصحابة فأغنى عن ذكره ههنا .

وأبو بكر هذا أحد فقهاء التابعين بالمدينة العشرة الذين كان عليهم مدار الفتوى في زمانهم ، وقد ذكرناهم ، ولد في خلافة عمر بن الخطاب ، وأمه فاختة بنت عقبة بن سهيل بن عمرو قرشية عامرية ، واسمه كنيته ، وقد قيل : إن اسمه المغيرة ، ولا يصح ، والصحيح أن اسمه كنيته ، واستصغر يوم الجمل ، فرد من الطريق هو وعروة بن الزبير ، وكان يقال له : راهب قريش لكثرة صلاته وعبادته ، وقال مالك - رحمه الله - : ما بلغني أن أحدا من التابعين اعتكف إلا أبا بكر بن عبد الرحمن ، وذلك لشدة الاعتكاف ( فيما أرى ) والله أعلم .

وكان عبد الملك بن مروان مكرما لأبي بكر هذا مجلا له ، وأوصى الوليد ، وسليمان بإكرامه ، وقال عبد الملك : إني لأهم بالشيء أفعله بأهل المدينة لسوء أثرهم عندنا ، فأذكر أبا بكر فأستحي منه ، وأدع ذلك الأمر [ ص: 395 ] وكان موته فجأة ، ويقولون : إنه صلى العصر ثم دخل مغتسله فسقط ، وكان قد كف بصره ، فجعل يقول : والله ما أحدثت في صدر نهاري شيئا ، فما غربت الشمس حتى مات ، وذلك سنة أربع وتسعين ، بالمدينة .

وفي هذه السنة توفي جماعة من الفقهاء منهم علي بن حسين ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وعروة بن الزبير ، وسعيد بن جبير ، ذكر هذه الجملة من خبره الواقدي ، والطبري ، ومصعب الزبيري .

وذكر الحسن الحلواني ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني يحيى بن سعيد أن عروة بن الزبير كان يستودع أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وأنه استودعه عشرين ألف دينار ، فسرقت ، فاتهم بها أبو بكر بن عبد الرحمن امرأة من العرب كانت عندهم فحذرها ، واشتد عليها ، وخوفها فاعترفت بأنها أخذتها ، وأنها عندها ، وأنها تؤديها ، فأرسل أبو بكر بن عبد الرحمن إلى مشايخ من قريش ، فأشهدهم على اعترافها ، وفيه القاسم بن محمد ، وهو يومئذ من أحدثهم سنا فخلى سبيلها ، فلما خرجت من داره .

وأمنت قالت : ما أخذت من ذلك قليلا ، ولا كثيرا ، فخاصمها إلى أبان بن عثمان ، وهو أمير المدينة ، فسأل الشهود عن شهادتهم ، فشهدوا أنها اعترفت بعشرين [ ص: 396 ] ألف دينار ، وأنها مؤديتها .

فسألهم رجلا رجلا ، حتى بلغ القاسم بن محمد ، فقال : ماذا تشهد به يا قاسم ؟ فقال : أشهد أن أبا بكر دعانا لنشهد على هذه المرأة ، وهي في الحديد ظاهرا عليها الضرب ، فاعترفت بأنها أخذت العشرين ألفا ، فأقبل أبان على المشايخ ، فقال : أكان أمرها على ما ذكر القاسم ؟ قالوا : نعم ، قال : فما منعكم أن تقولوا كما قال ، فلولا مكانه لقضيت عليها بعشرين ألف دينار ، يا قاسم جئت ، والله بالشهادة على وجهها ، كما قال الله عز وجل .

قال : فارتفع أمر القاسم من يومئذ على الناس ، وفطنوا لفضله ، وكان المال لولد مصعب بن الزبير فباع أبو بكر ماله بعشرين ألفا حتى أداها إلى عروة فقال له عروة : والله ما عليك منها شيء ، إنما أنت مستودع ، فأبى أبو بكر إلا أن يغرمها .

وحدثني عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا وهيب بن خالد ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر الشعبي عن عمر بن عبد الرحمن أن أخاه أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كان يصوم الدهر ، ولا يفطر .

قال : وحدثنا أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : رددت أنا ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام من الطريق ( يوم الجمل ) استصغرنا . وإياه عنى عبيد الله بن عبد الله بقوله :


شهيدي أبو بكر فنعم شهيد

.

[ ص: 397 ] في أبيات أذكرها في باب عبيد الله إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية