التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1078 [ ص: 49 ] حديث خامس لابن شهاب عن عبيد الله - مسند

مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، قال : مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة ميتة كان أعطاها مولى لميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ألا انتفعتم بجلدها ؟ فقالوا : يا رسول الله إنها ميتة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما حرم أكلها .


هكذا روى يحيى هذا الحديث ، فجود إسناده أيضا وأتقنه ، وتابعه على ذلك ابن وهب ، وابن القاسم والشافعي ، وابن بكير ، وجويرية ، ومحمد بن الحسن ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا ، والصحيح فيه اتصاله وإسناده . وكذلك رواه معمر ويونس والزبيدي وعقيل ، كلهم عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل رواية يحيى ومن تابعه ، عن مالك سواء . وكان ابن عيينة يقول مرارا كذلك ، ومرارا يقول فيه : عن ابن عباس ، عن ميمونة . وكذلك رواه سليمان بن كثير ، عن [ ص: 50 ] الزهري ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس ، عن ميمونة قالت : أعطيت مولاة لي من الصدقة - فذكر الحديث وزاد : ودباغ إهابها طهورها . واتفق معمر ، ومالك ، ويونس ، على قوله : إنما حرم أكلها - إلا أن معمرا قال : لحمها ، وذلك سواء ولم يذكر واحد منهم الدباغ . وكان ابن عيينة يقول : لم أسمع أحدا يقول : إنما حرم أكلها إلا الزهري . واتفق الزبيدي وعقيل وسليمان بن كثير على ذكر الدباغ في هذا الحديث ، عن الزهري وكان ابن عيينة مرة يذكره فيه ومرة لا يذكره ، ومرة يجعل الحديث عن ابن عباس عن ميمونة ، ومرة عن ابن عباس فقط . قال محمد بن يحيى النيسابوري : لست أعتمد في هذا الحديث على ابن عيينة لاضطرابه فيه . قال : وأما ذكر الدباغ فيه ، فلا يوجد إلا من رواية يحيى بن أيوب ، عن عقيل ، ومن رواية بقية عن الزبيدي ، ويحيى وبقية ليسا بالقويين ، ولم يذكر مالك ، ولا معمر ، ولا يونس الدباغ ، وهو الصحيح في حديث الزهري ، وبه كان يفتي . قال : وأما رواية غير الزهري ، فذلك محفوظ صحيح عن ابن عباس . قال أبو عمر : قد ذكرنا في باب زيد بن أسلم رواية ابن وعلة وعطاء ، وابن أبي الجعد ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : دباغ الإهاب [ ص: 51 ] طهوره . وذكرنا هناك في هذا الباب من الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما قاله العلماء في ذلك ، ووجوه اختلافهم فيما اختلفوا فيه من هذا الباب ، بأبسط ما يكون من القول وأعظمه فائدة والحمد لله ، وكل ما يجب من القول في هذا الباب فقد مضى ممهدا بما للعلماء في ذلك من المذاهب في باب زيد بن أسلم ، ابن وعلة ، فلا معنى لإعادة ذلك هاهنا . والقول الذي قاله النيسابوري عن ابن عيينة ، من اضطرابه عن الزهري في هذا الحديث ، قد قاله غيره عن ابن شهاب ، واضطراب ابن شهاب في هذا الحديث وفي حديث ذي اليدين ، كثير جدا ، وهذا الحديث من غير رواية ابن شهاب أصح ، وثبوت الدباغ في جلود الميتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه كثيرة صحاح ثابتة قد ذكرناها في باب زيد بن أسلم من كتابنا هذا ، وبينا الحجة على من أنكر الدباغ ، بما فيه كفاية من جهة النظر والأثر وبالله التوفيق . وفي الباب قبل هذا في قصة الفأرة تقع في السمن ، ما يدخل في معنى هذا الباب ويفسر المنع من بيع ما لا يحل أكله ، ويقضي على أن المأكول كله من الميتة حرام ، وفي ذلك كشف معنى قوله في هذا الحديث : إنما حرم أكلها . ومعلوم أن العظم حكمه حكم اللحم ، لأنه لا يقطع ولا ينزع من البهيمة - وهي حية - كما يصنع بالصوف ، وإنما يحرم بالموت ما حرم قطعه من الحي ، ألا ترى إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما قطع من حي فهو ميتة . [ ص: 52 ] وأجمع العلماء على أن جز الصوف عن الشاة - وهي حية - حلال ، وفي هذا بيان ما ذكرنا . وأما قوله عليه الصلاة والسلام : لا تنتفعوا من الميتة بإهاب . فإن معناه حتى يدبغ ، بدليل أحاديث الدباغ ، وقد أوضحنا هذا في باب زيد بن أسلم والحمد لله . ومن أجاز عظم الميتة كالعاج وشبهه في الأمشاط وغيرها ، زعم أن الميتة ما جرى فيه الدم ، وليس كذلك العظم ، واحتجوا بقوله في هذا الحديث : إنما حرم أكلها . وليس العظم مما يؤكل . قالوا : فكل ما لا يؤكل من الميتة جائز الانتفاع به ، لقوله : إنما حرم أكلها وممن رخص في أمشاط العاج وما يصنع من أنياب الفيلة ، وعظام الميتة ، ابن سيرين ، وعروة بن الزبير ، وأبو حنيفة وأصحابه ، قالوا : تغسل وينتفع بها ، وتباع وتشترى ، وبه قال الليث بن سعد ، إلا أنه قال : تغلى بالماء والنار حتى يذهب ما فيها من الدسم . وممن كره العاج وسائر عظام الميتة ، ولم يرخص في بيعها ولا الانتفاع بها عطاء ، وطاوس ، وعمر بن عبد العزيز ، ومالك بن أنس ، والشافعي ، واختلف فيها عن الحسن البصري . [ ص: 53 ] ومن حجتهم أن الميتة محرمة بالكتاب والسنة المجتمع عليهما ، والعظم ميتة بدليل قوله تعالى من يحيي العظام وهي رميم وأنه لا يؤخذ من الحي ، ولهم في ذلك ما يطول ذكره .

التالي السابق


الخدمات العلمية