التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
793 [ ص: 54 ] حديث سادس لابن شهاب عن عبيد الله - مسند مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عبد الله بن عباس ، عن الصعب بن جثامة أنه أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمار وحش وهو بالأبواء - أو بودان - فرده عليه رسول الله صلى الله وسلم ، قال : فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما في وجهي ، قال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم .


هذا حديث لم يختلف في إسناده على مالك ، ولا على ابن شهاب ، وكل من في إسناده فقد سمعه بعضهم من بعض سماعا ، كذلك في الإملاء عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عبيد الله ، قال : سمعت ابن عباس ، قال : أخبرني الصعب بن جثامة . وقد قلنا في السند المعنعن في أول كتابنا ما فيه كفاية . وممن رواه عن ابن شهاب كما رواه مالك ، معمر ، وابن جريج ، وعبد الرحمن بن الحارث ، وصالح بن كيسان ، وابن أخي ابن [ ص: 55 ] شهاب ، والليث بن سعد ، ويونس بن يزيد ، ومحمد بن عمرو بن علقمة ، كلهم قالوا فيه : أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمار وحش . كما قال مالك ، وخالفهم ابن عيينة ومحمد بن إسحاق فقالا فيه : أهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحم حمار وحش ، وقال ابن جريج في حديثه : قلت لابن شهاب : الحمار عقير ؟ قال : لا أدري ، فقد بين ابن جريج أن ابن شهاب شك فلم يدر هل كان عقيرا أم لا ؟ إلا أن في مساق حديثه : أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمار وحش فرده علي . وروى حماد بن زيد هذا الحديث عن صالح بن كيسان ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، عن الصعب بن جثامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل حتى إذا كان بقديد أهدي إليه بعض حمار ، فرده عليه وقال : إنا حرم لا نأكل الصيد . هكذا قال : حماد بن زيد عن صالح بن كيسان ، عن عبيد الله ، لم يذكر ابن شهاب ، وقال : بعض حمار ، ذكره إسماعيل القاضي عن سليمان بن حرب ، عن حماد بن زيد . وعند حماد بن زيد في هذا أيضا إسناد آخر عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، عن الصعب بن جثامة ، أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بحمار وحش ، فرده عليه وقال : إنا حرم لا نأكل الصيد . هكذا قال في هذا الإسناد : بحمار وحش . ورواه إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب كما قدمنا ذكره ، وهو أولى بالصواب عند أهل العلم . فهذا ما في حديث [ ص: 56 ] ابن شهاب ، وقد روي عن ابن عباس من حديث سعيد بن جبير ، ومقسم ، وعطاء ، وطاوس ، أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحم حمار وحش . قال سعيد بن جبير في حديثه : عجز حمار وحش ، فرده يقطر دما ، رواه شعبة عن الحكم ، عن سعيد بن جبير ، وقال مقسم في حديثه : رجل حمار وحش . رواه هشيم ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم . ذكره إسماعيل القاضي ، عن إبراهيم الهروي ، عن هشيم ، وقال عطاء في حديثه : أهدى له عضد صيد فلم يقبله ، وقال : إنا حرم رواه حماد بن سلمة ، عن قيس ، عن عطاء ، وقال طاوس في حديثه : عضوا من لحم صيد . حدث به إسماعيل عن علي بن المديني ، عن يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، عن الحسن بن مسلم ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، إلا أن منهم من يجعله ، عن ابن عباس ، عن زيد بن أرقم . أخبرناه عبد الرحمن بن يحيى ، حدثنا أحمد بن سعيد ، حدثنا محمد بن محمد الباهلي ، حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل ، حدثنا هشام بن يوسف القاضي ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني حسن بن مسلم ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : قدم زيد بن أرقم فقال له ابن عباس - يستذكره - : كيف أخبرتني عن لحم أهدي للنبي - صلى الله عليه وسلم - حراما ؟ قال : نعم أهدى له رجل عضوا من لحم فرده عليه وقال : إنا لا [ ص: 57 ] نأكله ، إنا حرم . وكذلك رواه أبو عاصم عن ابن جريج بإسناده هذا مثله . ورواه حماد بن سلمة ، عن قيس بن سعد ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أنه قال لزيد بن أرقم : أما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدي له عضو من صيد - وهو محرم - فلم يقبله ؟ قال : بلى ، قال إسماعيل : سمعت سليمان بن حرب يتأول هذا الحديث على أنه صيد من أجل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولولا ذلك كان أكله جائزا . قال سليمان : ومما يدل على أنه صيد من أجله ، قولهم في هذا الحديث : فرده يقطر دما ، كأنه صيد في ذلك الوقت ، قال إسماعيل : وإنما تأول سليمان بن حرب الحديث الذي فيه أنه أهدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحم حمار ، وهو موضع يحتاج إلى تأويل . وأما رواية مالك أن الذي أهدي إليه حمار وحش ، فلا يحتاج إلى تأويل لأن المحرم لا يجوز له أن يمسك صيدا حيا ، ولا يذكيه ، وإنما يحتاج إلى التأويل قول من قال : إن الذي أهدي هو بعض الحمار ، قال إسماعيل : وعلى تأويل سليمان بن حرب تكون الأحاديث كلها المرفوعة غير مختلفة . [ ص: 58 ] قال أبو عمر : الأحاديث المرفوعة في هذا الباب منها ، حديث عمير بن سلمة في قصة البهزي وحماره العقير رواه مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن عيسى بن طلحة ، عن عمير ، ومنها حديث أبي قتادة روي من وجوه ، وممن روى قصة أبي قتادة جابر وأبو سعيد ، وسنذكر حديث أبي قتادة في باب النضر بن سالم من كتابنا هذا إن شاء الله . ومنها حديث الصعب بن جثامة المذكور في هذا الباب من حديث ابن عباس على تواتر طرقه واختلاف ألفاظه ، ومنها حديث علي بن أبي طالب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدي إليه رجل حمار وحش فأبى أن يأكله . وحديث المطلب عن جابر يفسره قوله - صلى الله عليه وسلم - : صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم . وأجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم قبول صيد وهب له ، ولا يجوز له شراؤه ، ولا اصطياده ، ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه ، لا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك ، لعموم قول الله عز وجل : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ولحديث الصعب بن جثامة في [ ص: 59 ] قصة الحمار . ولأهل العلم قولان في المحرم يشتري الصيد ، أحدهما أن الشراء فاسد ، والثاني : صحيح وعليه أن يرسله . واختلف العلماء فيمن أحرم وفي يده صيد ، أو في بيته عند أهله ، فقال مالك : إن كان في يده فعليه إرساله ، وإن كان في أهله فليس عليه أن يرسله ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ، ومحمد ، وأحمد بن حنبل ، وقال ابن أبي ليلى ، والثوري ، والحسن بن صالح : سواء كان في بيته أو في يده عليه أن يرسله ، فإن لم يرسله ضمن ، وهو أحد قولي الشافعي . وقال أبو ثور ، والشافعي في أحد قوليه : سواء كان في يده أو في أهله ليس عليه أن يرسله . وعن مجاهد وعبد الله بن الحارث مثل ذلك . واختلفوا أيضا فيما صيد للمحرمين أو من أجلهم ، فقال مالك : لا بأس أن يأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له ولا من أجله ، فإن صيد له أو من أجله لم يأكله ، فإن أكل محرم من صيد صيد من أجله فداه . وهو قول الأوزاعي ، والحسن بن حي ، قال مالك : فأما ما ذبحه المحرم فهو ميتة ، لا يحل لمحرم ولا لحلال . وقد اختلف قوله فيما صيد لمحرم بعينه كالأمير وشبهه هل لغير ذلك الذي صيد من أجله أن يأكله هو وسائر من معه من المحرمين ، والمشهور من مذهبه عند أصحابه أن المحرم لا يأكل ما صيد لمحرم معين أو غير معين ، ولم يأخذ بقول عثمان لأصحابه حين أتي بلحم صيد وهو محرم : كلوا فلستم مثلي ، لأنه صيد من [ ص: 60 ] أجلي . وقال أبو حنيفة : إذا ذبحه الحلال فلا بأس بأكله للمحرم وغيره ، وإن ذبحه محرم لم يجز لأحد أكله . وروي عن الثوري كراهية أكله إذا ذبح من أجل المحرمين ، وروي عنه إباحته ، وروي عنه أيضا إباحة ما ذبحه المحرم للحلال ، وللشافعي فيه قولان ، أحدهما : أنه لا يجوز للمحرم أكل ما صيد من أجله وعليه الجزاء إن أكله ، مثل قول مالك . وقول آخر : لا جزاء عليه ، وما ذبحه المحرم لم يجز أكله لأحد إلا لمن تحل له الميتة ، وروي عن علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وابن عمر أنه لا يجوز للمحرم أكل لحم صيد على حال من الأحوال ، سواء صيد من أجله أو لم يصد لعموم قول الله عز وجل : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما وقال ابن عباس : هي مبهمة ، وبهذا القول قال طاوس وجابر بن زيد أبو الشعثاء . وروى ذلك عن الثوري ، وبه قال إسحاق بن راهويه . وكان عمر بن الخطاب ، وأبو هريرة ، والزبير بن العوام ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، يرون للمحرم أكل الصيد على [ ص: 61 ] كل حال إذا اصطاده الحلال ، سواء صيد من أجله أو لم يصد ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه لظاهر قول الله عز وجل : لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم . فحرم صيده وقتله على المحرمين دون ما صاد غيرهم . وذهب مالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأبو ثور ، إلى أن ما صيد من أجل المحرم لم يجز أكله ، وما لم يصد من أجله جاز له أكله . وروي هذا القول عن عثمان بن عفان ، وبه قال عطاء في رواية وإسحاق في رواية . وقد روي عن عطاء ، وعن ابن عباس أيضا ، أنهما قالا : ما ذبح وأنت محرم لم يحل لك أكله ، وهو عليك حرام ، وما ذبح من الصيد قبل أن تحرم ، فلا شيء في أكله . قال أبو عمر : من أجاز أكل لحم صيد للمحرم إذا اصطاده الحلال ، فحجتهم حديث البهزي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حمار الوحش العقير أنه أمر به أبا بكر فقسمه بين الرفاق ، من حديث مالك وغيره . وسيأتي ذكره في باب يحيى بن سعيد إن شاء الله . وحديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إنما هي طعمة أطعمكموها الله من حديث مالك وغيره . وحجة من لم يجزه ، حديث الصعب بن جثامة [ ص: 62 ] المذكور في هذا الباب من حديث ابن عباس . وحجة مالك ، والشافعي حديث المطلب عن جابر : حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد ، قال : حدثنا حمزة بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن عمرو ، المطلب ، عن جابر ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه ، أو يصطد لكم . وقد روى عبد الله بن إدريس الأودي الكوفي ، وهو إمام في الحديث ثقة جليل ، عن مالك بهذا الإسناد أحاديث في نسق واحد . حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، حدثنا الحسن بن الخضر ، حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا محمد بن العلاء ، أخبرنا ابن إدريس ، عن مالك ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن الصعب بن جثامة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا حمى إلا لله ولرسوله وسئل عن القوم يبيتون فيصيبون الولدان ، قال : هم منهم ، وأهدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأبواء حمار فرده . [ ص: 63 ] أما قصة الحمار بالأبواء ففي الموطأ . وأما حديث التبييت وقوله : لا حمى ، فصحيح عن ابن شهاب ، غريب عن مالك .

التالي السابق


الخدمات العلمية