التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
653 [ ص: 64 ] حديث سابع لابن شهاب عن عبيد الله مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان ، فصام حتى بلغ الكديد ، ثم أفطر فأفطر الناس ، وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .


قال أبو عمر : قوله في هذا الحديث : وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون : إنه من كلام ابن شهاب . [ ص: 65 ] وفيه دليل على أن في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناسخا ومنسوخا ، وهذا أمر مجمع عليه ، واحتج من ذهب إلى الفطر في السفر بأن آخر فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفطر في السفر ، وبقوله : ليس من البر الصيام في السفر . وقد أوضحنا هذا المعنى في باب حميد الطويل ، فلا معنى لإعادة ذلك هاهنا . ورواية ابن جريج لهذا الحديث عن ابن شهاب كرواية مالك سواء ، وقال فيه معمر : قال الزهري : فكان الفطر آخر الأمرين . وفي هذا الحديث من الفقه إباحة السفر في رمضان ، وفي ذلك رد قول من قال : ليس لمن ابتدأ صيام رمضان في الحضر أن يسافر فيفطر ، لقول الله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ورد قول من قال : إن المسافر في رمضان إن صام بعضه في الحضر ، لم يجز له الفطر في سفره . [ ص: 66 ] روى حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي - رضي الله عنه - قال : من أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر بعد ، لزمه الصوم لأن الله تعالى يقول : فمن شهد منكم الشهر فليصمه وهو قول عبيدة وطائفة معه ، ورواه حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن محمد ، عن عبيدة . قوله وتأول من ذهب مذهب هؤلاء في قوله أو على سفر من أدركه رمضان وهو مسافر ، ففي الحديث ما يبطل هذا القول كله ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سافر في رمضان بعد أن صام بعضه في الحضر مقيما ، وكان خروجه بعد مدة منه ، قد ذكرناها وذكرنا اختلاف الآثار فيها في باب حميد الطويل والحمد لله . وفيه جواز الصوم في السفر ، وجواز الفطر في السفر ، وفي ذلك رد على من ذهب إلى أن الصوم في السفر لا يجوز ، وأن من فعل ذلك لم يجزه ، وزعم أن الفطر عزمة من الله في قوله ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وهو قول يروى عن ابن عباس وأبي هريرة وقد ذكرنا في باب حميد الطويل من كتابنا هذا عن ابن عباس خلافه من وجوه صحاح ، وروي عن ابن عمر أنه قال : إن صام في السفر [ ص: 67 ] قضى في الحضر ، وعن عبد الرحمن بن عوف أنه قال : الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ، وجمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين على خلاف هذا الحديث وشبهه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مما قدمنا ذكره في باب حميد ، منها حديث أنس : سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنا الصائم ومنا المفطر ، فلم يعب هذا على هذا ، ولا هذا على هذا . وحديث حمزة بن عمرو الأسلمي : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له في السفر : إن شئت فصم وإن شئت فأفطر وهو مذكور في باب هشام بن عروة . وذكرنا في باب سمي حديث ابن عباس ، وأبي سعيد الخدري خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس مختلفون : فصائم ومفطر . والآثار بهذا كثيرة جدا . وأجمع الفقهاء أن المسافر بالخيار : إن شاء صام ، وإن شاء أفطر ، إلا أنهم اختلفوا في الأفضل من ذلك ، وقد مضى القول فيه في باب حميد والله أعلم . واختلف الفقهاء في الفطر المذكور في هذا الحديث ، فقال قوم : معناه إن أصبح مفطرا نوى الفطر فتمادى عليه في أيام سفره ، واحتجوا بحديث العلاء بن المسيب ، عن الحكم بن عيينة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة حتى أتى [ ص: 68 ] قديدا ، ثم أفطر حتى أتى إلى مكة ، وهذا لا بيان فيه لما تأولوه . وقال آخرون : معناه أنه أفطر في نهاره بعد ما مضى منه صدر ، وأن الصائم جائز له أن يفعل ذلك في سفره . واحتج من قال هذا القول بحديث جعفر بن محمد ، عن أمه ، عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان وصام حتى بلغ كراع الغميم ، فصام الناس وهم مشاة وركبان ، فقيل له : إن الناس قد شق عليهم الصوم ، وإنما ينظرون إلى ما فعلت ، فدعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر إليه الناس ثم شرب ، فأفطر بعض الناس وصام بعض ، فقيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن بعضهم قد صام ، قال : أولئك العصاة . حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا أحمد بن دحيم ، حدثنا إبراهيم بن حماد ، قال : حدثنا عمي إسماعيل بن إسحاق ، قال : حدثنا عبد الواحد بن غياث ، قال : حدثنا عبد العزيز بن المختار ، قال : حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر فذكر الحديث . [ ص: 69 ] أخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أنبأنا محمد بن رافع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، قال : حدثنا مفضل ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : سافر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصام حتى بلغ عسفان ثم دعا بإناء فشرب نهارا ليراه الناس ، ثم أفطر حتى دخل مكة ، وافتتح مكة في رمضان . قال ابن عباس فصام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر وأفطر ، فمن شاء صام ومن شاء أفطر . واختلف الفقهاء في المسافر يفطر بعد دخوله في الصوم ، فقال مالك : عليه القضاء والكفارة ; لأنه كان مخيرا في الصوم والفطر ، فلما اختار الصوم صار من أهله ، ولم يكن له أن يفطر . وهو قول الليث : عليه الكفارة ، ثم قال مالك مرة : لا كفارة عليه وهو قول المخزومي ، وأشهب ، وابن كنانة ، ومطرف وقال ابن الماجشون : إن أفطر بجماع كفر ; لأنه لا يقوى بذلك على سفره ، ولا عذر له ، وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وداود ، والطبري ، والأوزاعي ، والثوري : لا كفارة عليه ، وكلهم يقول : ليس له أن يفطر إلا البويطي حكى عن الشافعي : [ ص: 70 ] في من أصبح صائما في الحضر ، ثم سافر لم يكن له أن يفطر ، وكذلك من صام في سفره ، ليس له أن يفطر ، إلا أن يثبت حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أفطر يوم الكديد ، فإن ثبت كان لهما جميعا أن يفطرا . واختلفوا أيضا في الذي يخرج في سفره - وقد يبيت الصوم - فقال مالك : من أصبح في رمضان مقيما ثم سافر فأفطر ، فعليه القضاء ولا كفارة . وبه قال أبو حنيفة ، والشافعي ، وداود ، والطبري ، والأوزاعي ، وللشافعي قول آخر أنه يكفر إن جامع ، وكره مالك للذي يصبح صائما في الحضر ثم يسافر أن يفطر ، ولم يره إثما إن أفطر . وكذلك قال داود والمزني . وقال أبو حنيفة ، والشافعي في رواية المزني : لا يجوز له أن يفطر ، فإن فعل فقد أساء ولا كفارة عليه . وقال المخزومي وابن كنانة : عليه القضاء والكفارة ، وقولهما شذوذ في ذلك عن جماعة أهل العلم . وقال أحمد وإسحاق وداود : يفطر إذا برز مسافرا ، وهو قول ابن عمر والشعبي ، وجماعة ، وستأتي مسائل هذا الباب بأسد استيعاب في باب سمي من هذا الكتاب إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية