التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
806 [ ص: 122 ] حديث أول لابن شهاب ، عن سليمان بن يسار

مالك ، عن ابن شهاب ، عن سليمان بن يسار ، عن عبد الله بن عباس ، قال : كان الفضل رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءت امرأة من خثعم تستفتيه ، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ، فجعل رسول الله يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر ، فقالت : يا رسول الله ، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه ؟ قال : نعم . وذلك في حجة الوداع .


هذا حديث صحيح ثابت ، لم يختلف في إسناده ، وقد سمعه سليمان بن يسار من ابن عباس ، كذلك قال الأوزاعي عن الزهري ، عن سليمان بن يسار ، أن عبد الله بن عباس أخبره أن امرأة من خثعم استفتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ، والفضل بن عباس رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ، إن فريضة الله ، فذكر الحديث ، وكذلك رواية ابن عيينة ، عن الزهري : حدثني سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا الحميدي ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا نصر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قالا جميعا [ ص: 123 ] حدثنا سفيان ، قال : حدثنا الزهري ، قال : سمعت سليمان بن يسار يقول : سمعت ابن عباس يقول : إن امرأة من خثعم سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداة النحر والفضل ردفه فقالت : إن فريضة الله في الحج على عباده ، أدركت أبي وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يتمسك على الراحلة ، فهل ترى أن أحج عنه ؟ قال : نعم .

قال الحميدي : وحدثنا سفيان ، قال : كان عمرو بن دينار حدثناه أولا عن الزهري ، عن سليمان بن يسار ، عن ابن عباس ، وزاد فيه : فقالت : يا رسول الله ، أوينفعه ذلك ؟ قال : نعم كما لو كان على أحدكم دين فقضاه . فلما جاءنا الزهري تفقدت هذا فلم يقله .

واختلف العلماء في تأويل هذا الحديث ومعناه ، ونحن نذكر ذلك إن شاء الله ، ونبينه ولا قوة إلا بالله .

وفيه من الفقه إباحة ركوب نفسين على دابة ، وهذا ما لا خلاف في جوازه ، إذا أطاقت الدابة ذلك ، وفيه إباحة الارتداف ، وذلك من التواضع ، والجليل من الرجال جميل به الارتداف ، والأنفة منه تجبر وتكبر ، حبب الله إلينا الطاعة برحمته .

وفيه بيان ما ركب في الآدميين من شهوات النساء ، وما يخاف من النظر إليهن ، وكان الفضل بن عباس من شبان بني هاشم ، بل كان أجمل أهل زمانه فيما ذكروا .

[ ص: 124 ] وفيه دليل على أن الإمام يجب عليه أن يحول بين الرجال والنساء في التأمل والنظر ، وفي معنى هذا منع النساء اللواتي لا يؤمن عليهن ومنهن الفتنة من الخروج والمشي في الحواضر والأسواق ، وحيث ينظرن إلى الرجال . قال - صلى الله عليه وسلم - : ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء . وفي قول الله عز وجل : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم الآية ، ما يكفي لمن تدبر كتاب الله ووفق للعمل به . حدثنا أحمد ، حدثنا مسلمة ، حدثنا جعفر ، حدثنا يوسف بن حبيب ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، قال : حدثنا سكين بن عبد العزيز قال : حدثني أبي ، عن ابن عباس أن الفضل كان رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة ، فجعل يلحظ إلى امرأة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : مه يا غلام ، فإن هذا يوم من حفظ فيه بصره غفر له .

وفيه دليل على أن إحرام المرأة في وجهها حكمه ، وهذا ما لم يختلف فيه الفقهاء ، وفيه دليل على أن المرأة تحج وإن لم يكن معها ذو محرم ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للخثعمية : حجي عن أبيك ، ولم يقل : إن كان معك ذو محرم . وفي ذلك دليل على أن المحرم ليس من السبيل ، والله أعلم ، وستأتي هذه المسألة واختلاف العلماء فيها في باب سعيد بن أبي سعيد إن شاء الله .

وأما اختلاف أهل العلم في معنى هذا الحديث ، فإن جماعة منهم ذهبوا إلى أن هذا الحديث مخصوص به أبو الخثعمية لا يجوز أن [ ص: 125 ] يتعدى به إلى غيره بدليل قول الله عز وجل : من استطاع إليه سبيلا وكان أبو الخثعمية ممن لا يستطيع ، فلم يكن عليه الحج ، فلما لم يكن ذلك عليه لعدم استطاعته ، كانت ابنته مخصوصة بذلك الجواب ، وممن قال ذلك مالك بن أنس وأصحابه ، وجعلوا أبا الخثعمية مخصوصا بالحج عنه كما كان سالم مولى أبي حذيفة عندهم وعند من خالفهم في هذه المسألة مخصوصا برضاعه في حال الكبر ، مع اشتراط الله عز وجل تمام الرضاعة في الحولين ، فكذلك أبو الخثعمية مع شرط الله في وجوب الحج الاستطاعة وهي القدرة ، وذهب آخرون إلى أن الاستطاعة تكون بالبدن والقدرة ، وتكون أيضا في المال لمن لم يستطع ببدنه ، واستدلوا بهذا الحديث ومثله ، وممن قال ذلك الشافعي .

واختلف العلماء في الاستطاعة التي عنى الله عز وجل بقوله ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ، فروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : السبيل : الزاد والراحلة . وهذا الحديث - لو صح - لكان فرض الحج في المال والبدن نصا ، كما قال الشافعي ومن تابعه ، ولكنه حديث انفرد به إبراهيم بن يزيد الخوزي [ ص: 126 ] وهو ضعيف . روى عبد الرزاق وغيره ، قال : حدثنا إبراهيم بن يزيد ، قال : سمعت محمد بن عباد بن جعفر يحدث ، عن ابن عمر ، قال : قام رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : من الحاج يا رسول الله ؟ قال : الشعث التفل . فقام رجل آخر فقال : أي الحج أفضل يا رسول الله ؟ قال : العج والثج . فقام رجل آخر فقال : ما السبيل يا رسول الله ؟ قال : الزاد والراحلة . وروي عن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عباس ، أنهما قالا : السبيل معناه : الزاد والراحلة .

وروى معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله من استطاع إليه سبيلا ، قال : السبيل أن يصح بدن العبد ، ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يجحف به . وبه قال الحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وإليه ذهب الشافعي ، وأبو حنيفة وأصحابهما ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، قال أبو حنيفة والشافعي : لا يجب الحج إلا على من ملك زادا وراحلة من الأحرار البالغين ، وعند أبي حنيفة وأصحابه ، وأحمد ، وطائفة : ذو المحرم في المرأة من السبيل ، وسنبين هذا في باب سعيد بن أبي سعيد إن شاء [ ص: 127 ] الله . والذي عول عليه الشافعي وأصحابه في هذا الباب ، حديث ابن عباس في قصة الخثعمية ، وبه استدلوا على أن الحج فرض واجب في المال ، قالوا : وأما البدن فمجتمع عليه ، والنكتة التي بها استدلوا وعليها عولوا ، قول المرأة في هذا الحديث : إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، فأخبرته أن الحج إذ فرض على المسلمين كان أبوها في حال لا يستطيعه ببدنه ، فأخبرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يجزئه أن تحج عنه ، وأعلمها أن ذلك كالدين تقضيه عنه ، فكان في هذا الكلام معان ، منها : أن الحج وجب عليه كوجوب الدين ، ومعلوم أن الدين واجب في المال لا في البدن ، ومنها : أن عملها في ذلك يجزئ عنه ، فدل على أن ذلك ليس كالصلاة التي لا يعملها أحد عن أحد ، ومنها : أن الاستطاعة تكون بالمال كما تكون بالبدن ، واحتجوا من الآثار بكل ما ذكر فيه تشبيه الحج بالدين ، وسنذكرها في هذا الباب إن شاء الله ، وأجمع علماء المسلمين أن الحج غير واجب على من لم يبلغ من الرجال والنساء .

وقال داود : الحج على العبد واجب وقال سائر الفقهاء : لا حج عليه ، وقال الشافعي : الاستطاعة على وجهين ، أحدهما : أن يكون مستطيعا ببدنه ، واجدا من ماله ما يبلغه الحج بزاد وراحلة ، واحتج بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - المذكور ، قال : الوجه الآخر أن [ ص: 128 ] يكون معضوبا ببدنه لا يقدر أن يثبت على ركب بحال ، وهو قادر على من يطيعه إذا أمره أن يحج عنه بطاعته له أو من يستأجره ، فيكون هذا ممن لزمه فرض الحج ، لأنه قادر بهذا الوجه . قال : ومعروف من لسان العرب أن يقول الرجل : أنا مستطيع أن أبني دارا أو أخيط ثوبا ، يعني بالإجارة أو بمن أطاعه ، واحتج بحديث الخثعمية ; حديث ابن عباس هذا المذكور في هذا الباب .

وقال مالك : كل من قدر على التوصل إلى البيت وإقامة المناسك بأي وجه قدر ، بزاد وراحلة أو ماشيا على رجليه ، فقد لزمه فرض الحج ، ومن لم يستطع بمرض أو زمانة فليس بمخاطب في الحج .

هذا مذهب مالك وجميع أصحابه ، واتفق مالك وأبو حنيفة : أن المعضوب الذي لا يتمسك على الراحلة ليس عليه الحج ، وممن روي عنه مثل قول مالك ; عكرمة والضحاك بن مزاحم .

والمعضوب معناه : الضعيف الهرم الذي لا يقدر على النهوض ، وقال الخليل : رجل معضوب : كأنما لوي ليا والمعضوب : الذي كادت أعضاؤه تنتشر جزعا . أخبرني أبو عبد الله محمد بن خليفة ، قال : حدثنا أبو الحسن محمد بن نافع المكي ، قال : حدثنا إسحاق بن أحمد الخزاعي ، قال : حدثنا ابن المقرئ ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا حيوة ، وابن لهيعة [ ص: 129 ] قالا : حدثنا شرحبيل بن شريك ، قال : سمعت عكرمة مولى ابن عباس يقول في قول الله عز وجل : من استطاع إليه سبيلا ، قال : السبيل الصحة . وقال الضحاك : إذا كان شابا فليؤاجر نفسه بأكلة وعقبة حتى يقضي نسكه .

ومن حجة مالك أيضا ومن ذهب مذهبه عموم قول الله عز وجل : من استطاع إليه سبيلا فبأي وجه استطاع ذلك بنفسه وقدر ، فقد لزمه الحج ، وليس استطاعة غيره استطاعة له ، والحج عنده وعند أصحابه من عمل الأبدان ، فلا ينوب فيه أحد عن أحد قياسا على الصلاة . وحمل بعضهم حديث الخثعمية على أن ذلك على الاستحباب لمن شاء ، لا على أداء واجب .

واحتجوا بحديث عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن سليمان الشيباني ، عن يزيد بن الأصم ، عن ابن عباس أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : أحج عن أبي ؟ قال : نعم إن لم تزده خيرا لم تزده شرا .

قال أبو عمر :

أما هذا الحديث فقد حملوا فيه على عبد الرزاق لانفراده به عن الثوري من بين سائر أصحابه ، وقالوا : هذا حديث لا يوجد في الدنيا عند أحد بهذا الإسناد ، إلا في كتاب عبد الرزاق ، أو في كتاب من أخرجه من كتاب عبد الرزاق ، ولم يروه أحد عن الثوري غيره ، وقد خطأوه فيه وهو عندهم خطأ . فقالوا : هذا لفظ منكر لا تشبهه ألفاظ النبي - صلى [ ص: 130 ] الله عليه وسلم - أن يأمر بما لا يدري هل ينفع أم لا ينفع . حدثني خلف بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن محمد الكشوري ، قال : لم يرو حديث الشيباني عن يزيد بن الأصم ، عن ابن عباس ، أحد غير عبد الرزاق ، عن الثوري ولم يروه ، عن الثوري لا كوفي ولا بصري ولا أحد .

قال أبو عمر :

أما ظاهر إسناد هذا الحديث فظاهر جميل ، لأن الشيباني ثقة ، وهو سليمان بن أبي سليمان ، وروى عنه شعبة والثوري وهشيم ، وكذلك يزيد بن الأصم ثقة ، ولكنه حديث لا يوجد عند أصحاب الثوري الذين هم أعلم بالثوري من عبد الرزاق ، مثل القطان ، وابن مهدي ، وابن المبارك ، ووكيع ، وأبي نعيم ، وهؤلاء جلة أصحاب الثوري في الحديث ، وعبد الرزاق ثقة ، فإن صح هذا الخبر ، ففيه حجة لمالك وأصحابه فيما تأولوه في حديث الخثعمية ويدخل عليهم منه ، لأنهم لم يجعلوه أصلا يقيسون عليه ، ولا يجيزون صلاة أحد عن أحد ، ولا يقولون فيها إنها إن لم تزد المصلى عنه خيرا لم تزده شرا ، كما في هذا الخبر في الحج .

[ ص: 131 ] ومن حجة مالك وأصحابه أيضا ، الإجماع على أن الفقير إذا وصل إلى البيت بخدمة الناس أو بالسؤال أو بأي وجه وصل إليه ، فقد تعين عليه الحج ، وأنه إذا أيسر فلا قضاء عليه ، ومن قول مالك وأصحابه أيضا ، أن الذي لا زاد له ليس عليه الحج ، وإن كان قادرا على المشي إذا لم يكن من عادته السؤال والتبذل ، فإن حج أجزأه ، فإن قيل : إن الفقير إذا وصل إلى البيت فقد تعين عليه الفرض ولزمه ، لأنه مستطيع حينئذ . قيل له : لو كان الحج لا يجب فرضا إلا على من ملك زادا أو راحلة ، لما تعين فرضه على الفقير بدخوله مكة ، كما لا يتعين فرضه على العبد بدخوله مكة ، ولو كان الزاد والراحلة من شرائط الوجوب لاستوى فيه حاضرو المسجد الحرام وغيرهم ، كما استووا في الحرية والبلوغ الذي لا يجوز الحج إلا بهما ، ويدخل على قائلي هذا القول : إن العلة في العبيد باقية لم تزل وهي الرق ، وعلة الذي لم يستطع ثم استطاع قد زالت .

ومن حجة الشافعي ومن قال بقوله : حديث شعبة ، عن النعمان بن سالم ، عن عمرو بن أوس ، عن أبي رزين العامري أنه قال : يا رسول [ ص: 132 ] الله ، إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة ، قال : احجج عن أبيك واعتمر .

وروى معمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رجل يا نبي الله ، إن أبي مات ولم يحج ، أفأحج عنه ؟ قال : أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه ؟ قال : نعم ، قال : فدين الله أحق .

وأخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد ، قال : حدثنا حمزة بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن يوسف بن الزبير ، عن عبد الله بن الزبير ، قال : جاء رجل من خثعم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أبي شيخ كبير ، لا يستطيع الركوب وأدركته فريضة الحج ، فهل يجزئ أن أحج عنه ؟ قال : أنت أكبر ولده ؟ قال : نعم ، قال : أرأيت لو كان عليه دين أكنت تقضيه قال : نعم ، قال : فحج عنه .

[ ص: 133 ] وروى هشيم ، عن يحيى بن أبي إسحاق ، عن سليمان بن يسار ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم مثل حديث ابن الزبير هذا سواء .

وروى عبد الرزاق ، عن هشيم بن بشير ، عن جعفر بن أبي وحشية ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : أتى رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أختي نذرت أن تحج وإنها ماتت ، قال : أرأيت لو كان عليها دين ، أكنت قاضيه ؟ قال : نعم ، قال : فاقضوا الله ، فهو أحق بالوفاء .

قالوا : وتشبيهه - صلى الله عليه وسلم - ذلك بالدين ، دليل على وجوب الحج على من ببدنه عن الامتساك على الدؤبة وكان له مال يستأجر به ، قالوا : وكذلك هو واجب على من مات قبل أن يؤديه إذا استطاع ذلك ببدنه أو بماله .

قال أبو عمر :

حجة أصحاب مالك في تشبيهه الحج بالدين ، أن ذلك أيضا خصوص للخثعمية ، كما خص أبوها بأن يعمل عنه ما لم يجب عليه ، وكذلك خصت بالعمل عنه لتؤجر ويلحقه ثواب عملها ، بدليل القرآن في الاستطاعة ، وبدليل الإجماع أنه لا يصلي أحد عن أحد فرضا وجب عليه ، وقد يعمل عنه ما لم يجب عليه ويشركه في ثوابه ، هذا معنى قولهم . [ ص: 134 ] وجعلوا حج الخثعمية عن أبيها كالحج بالصبي الذي أريد به التبرك لا الفرض ، وأدخل بعض من يحتج لمالك على أصحاب الشافعي أن قال : لو ثبت تشبيه الحج بالدين ، لكنت مخالفا له ، لأنك زعمت أن من حج عنه ثم وجد قوة ، أنه لا يجزئه ، وليس الدين كذلك ، لأنه إذا أدي لم يحتج أن يؤدى ثانية ، وانفصل من ذلك أصحاب الشافعي بأنه إنما أمر بالحج عنه لعدمه الاستطاعة ببدنه ، فلما صح كان حينئذ قد توجه إليه فرض الحج ولزمه قضاؤه عن نفسه ، لقدرته على ذلك ببدنه ، فأشار على المعتدة بالشهور يطرأ عليها الحيض فتعود إليه ، وأدخل بعض أصحاب الشافعي أن مالكا يجيز أن يحج الرجل عن الميت إذا أوصى بذلك ، ولا يجيز الصلاة ولا الصيام أن يعملهما أحد عن أحد غيره ميت ولا حي ، وفي ذلك دليل على خلاف الحج للصلاة وأعمال البدن ، ولبعضهم على بعض تشغيب يطول ذكره ولا يجمل اجتلابه .

وفي هذا الحديث أيضا دليل على جواز حج الرجل عن غيره ، واختلف الفقهاء في ذلك فقال الحسن بن صالح بن حي : لا يحج أحد عن أحد إلا عن ميت لم يحج حجة الإسلام ، وهو قول مالك والليث .

وقال أبو حنيفة : للصحيح أن يأمر من يحج عنه ويكون ذلك تطوعا ، وقال : للمريض أن يأمر من يحج عنه حجة الإسلام ، فإن مات [ ص: 135 ] كان ذلك مسقطا لفرضه ، وإن أوصى أن يحج عنه كان ذلك في ثلثه ، وإن تطوع رجل بالحج عنه بعد الموت أجزأه . ولا يجوز عنده أن يواجر أحد نفسه في الحج .

وقال الثوري نحو قول أبي حنيفة : أخبرنا إبراهيم بن شاكر ، قال : حدثنا عبد الله بن عثمان ، قال : حدثنا طاهر بن عبد العزيز ، قال : حدثنا عباد بن محمد ، قال : حدثنا يزيد بن أبي حكيم ، قال : سمعت سفيان ، قال : إذا مات الرجل ولم يحج ، فليوص أن يحج عنه ، فإن هو لم يوص فحج عنه ولده فحسن ، إنما هو دين يقضيه ، وقد كان يستحب لذي القرابة أن يحج عن قرابته ، فإن كان لا قرابة له فمواليه إن كان ، فإن ذلك يستحب . فإن أحجوا عنه رجلا تطوعا فلا بأس ، قال : وإذا أوصى الرجل أن يحج عنه فليحج عنه من قد حج ، ولا ينبغي لرجل أن يحج عن غيره إذا لم يحج ، وإن لم يجد ما يحج به ، قال : وإذا كان الرجل عليه دين ، ولم يحج فليبدأ بدينه ، فإن كان عنده فضل يحج به حج ، وإن كان عنده قدر ما إن حج به أضر بعياله ، فلينفق على عياله ، ولا بأس أن يحج الرجل بدين إذا كان له عروض إن مات ترك وفاء ، وإن لم يكن للرجل شيء ولم يحج فلا يعجبني أن يستقرض ويسأل الناس فيحج به ، فإن فعل أو آجر نفسه أجزأه من حجة الإسلام ، قال : وإذا كان عنده ما يحج به ولم يكن حج حجة الإسلام فأراد أن يتزوج [ ص: 136 ] وخشي على نفسه ، فلا بأس أن يتزوج ويحج بعد أن يوسر ، هذا كله قول الثوري رحمه الله . وقال ابن القاسم عن مالك : ينبغي للأعزب إذا أفاد مالا أن يحج قبل أن ينكح ، قال : وحجه أولى من قضائه دينا عن أبيه ، قال : وقال مالك : ولتخرج المرأة مع وليها فإن أبى ولم يكن لها ولي ، ووجدت من يخرج معها من الرجال أو نساء مأمونين فلتخرج . وهو قول الشافعي . وسنذكر ما للعلماء من مذاهب في المرأة التي لا محرم لها يخرج معها عند ذكر حديث سعيد المقبري إن شاء الله .

وقال ابن أبي ليلى والأوزاعي ، والشافعي : يحج عن الميت ، وإن لم يوص ويجزيه ، قال الشافعي : ويكون ذلك من رأس المال .

وقال مالك : يجوز أن يحج عن الميت من لم يحج قط ، ولكن الاختيار أن يحج عن نفسه أولا ، وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي ، وقال الحسن بن صالح : لا يحج عن الميت إلا من قد حج عن نفسه ، ويكره أن تحج المرأة عن الرجل ولا يكره أن يحج الرجل عن المرأة ; لأن المرأة تلبس والرجل لا يلبس .

وقال الشافعي : لا يحج عن الميت إلا من قد حج عن نفسه ، فإن حج عن الميت صرورة ، كانت نيته للنفل لغوا . وقال الشافعي : جائز أن يواجر نفسه في الحج ولست أكرهه .

[ ص: 137 ] وقال مالك : أكره أن يواجر نفسه في الحج ، فإن فعل جاز . وهو قول الشافعي في رواية ، وعند أبي حنيفة لا يجوز ، ومن حجته أن الحج قربة إلى الله عز وجل ، ولا يصح أن يعمله غير المتقرب به .

وقال بعض أصحابه : ألا ترى أنه لا يجوز بإجماع أن يستأجر الذمي أن يحج عن مسلم حكمه ، وذلك لأنه قربة للمسلم .

ومن حجة مالك والشافعي على جوازذلك ، إجماعهم على كتاب المصحف ، وبناء المساجد ، وحفر القبور ، وصحة الاستئجار في ذلك ، وهو قربة إلى الله ، فكذلك عمل الحج عن الغير ، والصدقات قربة إلى الله عز وجل .

وقد أباح للعامل عليها أن يأخذ منها على قدر عمله ، ولا معنى لاعتبار الإجماع على أن الذمي لا يجوز استئجاره في ذلك ، لأنهم قد أجمعوا أن الذمي لا يحج عن المسلم تطوعا ، وأن ذلك جائز في المسلم .

وفي حديث الخثعمية هذا رد على الحسن بن صالح بن حي في قوله : إن المرأة لا يجوز أن تحج عن الرجل ، وحجة لمن أجاز ذلك .

وأما حجة من أبى جواز حج الرجل عن الرجل وهو صرورة لم يحج عن نفسه ، فحديث ابن عباس : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني ، قال : حدثنا عبدة بن سليمان ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن عزرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أن [ ص: 138 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا يقول : لبيك عن شبرمة ، فقال : من شبرمة ؟ قال : أخ لي . أو : قريب لي . فقال : حججت عن نفسك ؟ قال : لا ، قال : فحج عن نفسك ، ثم حج عن شبرمة .

ومن أبى القول بهذا الحديث ، علله بأنه قد روي هذا الحديث موقوفا على ابن عباس ، وبعضهم يجعله عن قتادة ، عن سعيد بن جبير ، لا يذكر عزرة ، وليست هذه عللا يجب بها التوقف عن القول بالحديث ، لأن زيادة الحافظ مقبولة ، حكمها حكم الحديث نفسه ، لو لم يجئ به غيره وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية