التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
813 [ ص: 26 ] حديث سادس لابن شهاب ، عن سالم مسند .

مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله أن عبد الله ( بن محمد ) بن أبي بكر الصديق أخبره ، عن عبد الله بن عمر ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألم تري إلى قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم ؟ قالت : فقلت : يا رسول الله أفلا تردها على قواعد إبراهيم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت


فقال ابن عمر : لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم .

[ ص: 27 ] في هذا الحديث من العلم أن قريشا بنت الكعبة ولم تتمها على قواعد إبراهيم . وقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة : ألم تري إلى قومك ، ولولا حدثان قومك بالكفر ، إنما عنى بذلك قريشا لبنيانهم الكعبة . قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : وكذب به قومك وقال وإنه لذكر لك ولقومك قال المفسرون : يعني قريشا .

والقواعد أساس البيت . قال الله عز وجل : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل قال أهل اللغة : الواحدة منها قاعدة ، قالوا : والواحد من النساء قاعد .

وفيه حديث الرجل مع أهله في باب العلم وغيره من أيام الناس ، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم الركنين اللذين يليان الحجر . قال الشافعي : وذلك فيما نرى - والله أعلم - لأنهما كسائر البيت الذي لا يستلم ، ولأنهما ليسا بركنين على حقيقة ، لما لم يكونا تامين على قواعد إبراهيم ، وسنذكر ما للعلماء في ذلك من الأقاويل بعد ذكر جملة كافية من خبر بنيان الكعبة يشفي الناظر في هذا الباب إن شاء الله .

[ ص: 28 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا أبو الأحوص قال : حدثنا الأشعث ، عن الأسود بن يزيد ، عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الجدر : أمن البيت هو ؟ قال : نعم . قلت : فلم لم يدخلوه في البيت ؟ قال : إن قومك قصرت بهم النفقة . قلت : فما شأن بابه مرتفعا ؟ قال : فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ، ولولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم ، لنظرت أن أدخل الجدر في البيت وألصق بابه بالأرض .

قال أبو عمر : الجدر لغة في الجدار ، والجدر أيضا والجدير مكان بني حوله جدار . قاله الخليل .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا إبراهيم بن المنذر قال : حدثنا محمد بن فليح ، عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب قال : كان بين الفجار وبنيان الكعبة خمسة عشرة سنة . قال ابن شهاب : وكان بين الفيل [ ص: 29 ] والفجار أربعون سنة . قال ابن شهاب : ثم إن الله بعث محمدا على رأس خمس عشرة من بنيان الكعبة ، فكان بين مبعثه وبين الفيل سبعون سنة . قال إبراهيم بن المنذر : قول ابن شهاب هذا وهم لا يشك فيه أحد من علمائنا ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل ، لا يختلفون في ذلك ، ونبئ على رأس أربعين سنة من الفيل صلى الله عليه وسلم .

أخبرني عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن مسلمة قال : أنبأنا ابن وهب قال : أخبرني ابن لهيعة ، عن محمد بن عبد الرحمن قال : إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم على رأس خمس عشرة سنة من بنيان الكعبة ، وكان بين غزوة ( أصحاب ) الفيل وبين الفجار أربعون سنة .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا إبراهيم بن المنذر قال : أنبأنا عبد العزيز بن أبي ثابت قال : حدثني عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان النوفلي ، عن أبيه ، عن محمد بن جبير بن مطعم قال : بني البيت على خمس وعشرين سنة من الفيل ، كذا قال وخالفه غيره فقال : خمسا وثلاثين . كذلك قال ابن إسحاق وذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : [ ص: 30 ] كان - يعني البيت - عريشا تقتحمه العتر حتى إذا كان قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بخمس عشرة سنة ، بنته قريش .

قال أبو عمر : الآثار في بنيان الكعبة وابتداء أمرها كثيرة يطول ذكرها ، وأنا أذكر منها ما يكتفي به الناظر في كتابنا هذا بحول الله وعونه إن شاء الله تعالى . ذكر سنيد قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ( وذكره عبد الرزاق أيضا ، عن معمر ، عن قتادة ) في قوله إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا قال : أول بيت وضعه ( الله ) في الأرض فطاف به آدم فمن بعده . وذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عطاء وابن المسيب وغيرهما أن الله عز وجل أوحى إلى آدم إذ أهبط إلى الأرض : ابن لي بيتا ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء . قال عطاء : فزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل من [ ص: 31 ] حراء ومن طور سيناء ومن لبنان ومن الجودي ومن طور زيتا وكان ربضه من حراء فكان ( هذا ) بناء آدم صلوات الله عليه ، ثم بناه إبراهيم عليه السلام . قال ابن جريج : وقال ناس : أرسل الله إليه سحابة فيها رأس ، فقال الرأس : يا إبراهيم إن ربك يأمرك أن تأخذ بقدر هذه السحابة . فجعل ينظر إليها ويخط قدرها ، ثم قال الرأس : أقد فعلت ؟ قال : نعم . فارتفعت فحفر فأبرز عن أساس ثابت في الأرض . وقال معمر : ، عن أيوب السختياني : بنيت الكعبة من خمسة أجبل : لبنان وطور زيتا وطور سيناء وحراء ومن الجودي ، وكان ربضه من حراء .

[ ص: 32 ] قال أبو عمر : الربض هاهنا الأساس المستدير بالبيت من الصخر ، ومنه يقال لما حول المدينة ربض ، هذا معنى ما ذكره الخليل وقالت طائفة من أهل العلم بالسير والخبر ، منهم وهب بن منبه وغيره : إن شئت بن آدم هو الذي بنى الكعبة . وزعم عبد المنعم بن إدريس ، عن أبيه ، عن وهب بن منبه قال : وكان شئت وصي أبيه آدم ، وهو الذي ولد البشر كلهم ، وهو الذي بنى الكعبة بالطين والحجارة ، وكانت هناك خيمة لآدم عليه السلام وضعها الله عز وجل له من الجنة .

أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى قال : حدثنا أحمد بن سعيد قال : حدثنا محمد بن إبراهيم بمكة قال : حدثنا أبو عبيد الله قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن بشر بن عاصم ، عن سعيد بن المسيب قال : سمعت علي بن أبي طالب يقول : إن إبراهيم خليل الله أقبل من أرمينيا ومعه السكينة تدله على موضع البيت ، فجاءت حتى تبوأت البيت كما تبوأ العنكبوت . قال : فرفع إبراهيم عن أحجار يطيقها ثلاثون رجلا ، أو قال : لا يطيقها [ ص: 33 ] ثلاثون رجلا . قال بشر بن عاصم : فقلت لسعيد بن المسيب : فإن الله عز وجل يقول : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ، قال : إنما كان هذا بعد . قال : وحدثنا سفيان بن عيينة ، عن مسعر ، عن سلمة ، عن أبي الأحوص قال : قال علي ( رضي الله عنه : ) السكينة لها وجه كوجه الإنسان ثم هي بعد ريح هفافة .

قال أبو عمر : كان علي رضي الله عنه يذهب - والله أعلم - إلى أن آدم لم يبن الكعبة .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا يحيى بن أيوب قال : حدثنا عباد بن عباد قال : حدثني شعبة بن الحجاج ، عن سماك بن حرب ، عن خالد بن عرعرة قال : خرج علينا علي فقام إليه ابن الكواء فقال : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ، أهو أول بيت وضع للناس ؟ قال : فأين كان قوم نوح وعاد ؟ ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا فيه آيات بينات مقام إبراهيم . قال : وحدثنا ( موسى ) بن إسماعيل قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن سماك بن حرب ، عن خالد بن عرعرة ، عن علي [ ص: 34 ] مثله . قال : إنه ليس أول بيت ، كان نوح قبله فكان في البيوت وكان إبراهيم قبله فكان في البيوت ، ولكنه أول بيت وضع للناس فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا .

( قال أبو عمر : ) يحتج من ذهب إلى هذا بحديث أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولا ؟ قال : المسجد الحرام . قلت : ثم أي ؟ قال : المسجد الأقصى . قلت : كم بينهما ؟ قال : أربعون سنة ففي هذا الحديث أنه ليس بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى إلا أربعون سنة .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا سريج بن النعمان قال : حدثنا أبو معاوية قال : حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر .

وروي عن ابن عباس وابن مسعود ما يخالف قول علي هذا ، ويوافق قوله الأول ، وذلك أنهما قالا : إن الله عز وجل أمر إبراهيم عليه السلام أن يبني هو وإسماعيل البيت ، فقاما عليهما السلام وأخذا المعاول لا يدريان أين البيت ، فبعث الله ريحا يقال له : الخجوج لها جناحان ورأس في صورة [ ص: 35 ] حية ، فكشفت لإبراهيم وإسماعيل ، عن أساس البيت الأول . وهذا يوافق ما رواه سعيد بن علي ، وهو أولى ، والله أعلم .

وأما بنيان قريش البيت ، فذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن أبي الطفيل قال : كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم ليس فيها مدر ، وكانت قدر ما تقتحمها العناق وكانت ثيابها توضع عليها تسدل سدلا عليها ، وكان الركن الأسود موضوعا على سورها باديا ، وكانت ذات ركنين هيئة هذه الحلقة ، فأقبلت سفينة من الروم حتى إذا كانوا قريبا من جدة انكسرت السفينة فخرجت قريش ليأخذوا خشبها فوجدوا روميا عندها ، فأخذوا الخشب فأعطاهم إياها ، وكانت السفينة تريد الحبشة . كان الرومي الذي في السفينة نجارا ، فقدموا بالخشب وقدموا بالرومي ، وقالت قريش : نبني بهذا الخشب بيت ربنا . فلما أرادوا هدمه إذا هم بحية على سور البيت مثل قطعة الجائز سوداء الظهر بيضاء البطن ، فجعلت كلما أتى أحد إلى البيت ليهدمه أو يأخذ من أحجاره سعت إليه فاتحة فاها . فاجتمعت قريش عند المقام فلجئوا إلى الله فقالوا : ربنا لم نرع ، أردنا تشريف بيتك وتزيينه ، فإن كنت [ ص: 36 ] ترضى بذلك ، وإلا فما بدا لك فافعل . فسمعوا خواتا في السماء فإذا هم بطائر أعظم من النسر أسود الظهر أبيض البطن والرجلين ، فغرز مخالبه في قفا الحية ثم انطلق بها تجر ذنبها ( أعظم ) من كذا وكذا ، حتى انطلق بها نحو أجياد ، فهدمتها قريش وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي تحملها قريش على رقابها ، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا . فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يضع النمرة على عاتقه ، فترى عورته من صغر النمرة ، فنودي : يا محمد خمر عورتك . فلم ير عريانا بعد ذلك . وكان بين بنيان الكعبة وبين ما أنزل الله عليه خمس سنين ، وبين مخرجه وبنيانها خمس عشرة سنة ، فلما كان جيش الحصين بن نمير فذكر حريقها في زمن ابن الزبير ، فقال ابن الزبير : إن عائشة أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لولا حداثة قومك بالكفر لهدمت الكعبة فإنهم تركوا منها سبعة أذرع ( في الحجر ) ضاقت بهم النفقة والخشب قال ابن خثيم فأخبرني ابن أبي مليكة ، عن عائشة أنها سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : وقال [ ص: 37 ] النبي صلى الله عليه وسلم : ولجعلت لها بابين : شرقيا وغربيا ، يدخلون من هذا ويخرجون من هذا ففعل ذلك ابن الزبير . وكانت قريش قد جعلت لها درجا يرقى الذي يأتيها عليها ، فجعلها ابن الزبير لاصقة بالأرض .

قال ابن خثيم : وأخبرني ابن سابط أن زيدا أخبره أنه لما بناها ابن الزبير ، كشفوا ، عن القواعد فإذ الحجر مثل الخلفة ، فرأى الحجارة مشتبكة بعضها ببعض ، إذا حركت بالعتلة تحرك الذي من الناحية الأخرى . قال ابن سابط : فأرانيه زيد ليلا بعد العشاء في ليلة مقمرة ، فرأيتها أمثال الخلف مشتبكا أطراف بعضها ببعض .

قال معمر : وأنبأنا الزهري قال : لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلم أجمرت امرأة الكعبة ( فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة ) فاحترقت ، فتشاورت قريش في هدمها وهابوا هدمها ، فقال لهم الوليد بن المغيرة : ما تريدون بهذا ؟ الإصلاح ( تريدون ) أم الفساد ؟ فقالوا : بل نريد الإصلاح . قال : فإن الله تعالى لا يهلك المصلح . قالوا : فمن الذي يعلوها ؟ قال [ ص: 38 ] الوليد بن المغيرة : أنا أعلوها وأهدمها . فارتقى الوليد بن المغيرة على ظهر البيت ومعه الفأس ، فقال : اللهم إنا لا نريد إلا الإصلاح . ثم هدم ، فلما رأته قريش قد هدم منها ولم يأتهم ما خافوا من العذاب هدموا معه ، حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن : أي القبائل تلي رفعه ، حتى كاد يشجر بينهم ، فقالوا : تعالوا نحكم أول من يطلع علينا من هذه السكة . فاصطلحوا على ذلك ، فاطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاحا نمرة ، فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب ثم أمر سيد كل قبيلة ، فأعطاه ناحية من الثوب ثم ارتقى هو ، فرفعوا إليه الركن ، فكان هو يضعه .

وذكر ابن جريج ، عن مجاهد معنى حديث أبي الطفيل المتقدم ذكره ، ومعنى حديث الزهري هذا ، وحديثهما أكمل وأتم ، وفي هذا الباب حديث تفرد به إبراهيم بن طهمان ، عن مالك ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد هممت أن أهدم الكعبة وأبنيها على قواعد إبراهيم وأجعل لها بابين وأسويها بالأرض فإنهم إنما رفعوها أن لا يدخلها إلا من أحبوا .

[ ص: 39 ] أخبرنا سعيد بن عثمان قال : حدثنا أحمد بن دحيم قال : حدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا سعيد بن عبد الرحمن أبو عبد الله المخزومي قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار أنه سمع عبيد بن عمير يقول : اسم الذي بنى الكعبة لقريش " باقوم " وكان روميا ، وكان في سفينة فحمتها الريح - يقول : حبستها - فخرجت إليها قريش فأخذوا خشبها ، وقالوا له : ابنها على بنيان الكنائس . قال سفيان : قال عمرو بن دينار : لما أرادت قريش أن يبنوا الكعبة خرجت منها حية فحالت بينهم وبينها ، وكانت تشرف على الجدار . قال عمرو : وسمعت عبيد بن عمير يقول : فجاء طائر أبيض فأخذ بأنيابها فذهب بها نحو أجياد ، فيما أحسب . وذكر ابن إسحاق قال : قال الزبير بن عبد المطلب فيما كان من شأن الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها :


عجبت لما تصوبت العقاب إلى الثعبان وهي لها اضطراب     وقد كانت يكون لها كشيش
وأحيانا يكون لها وثاب     إذا قمنا إلى التأسيس شدت
تهيبنا البناء وقد تهاب      [ ص: 40 ] فلما أن خشينا الرجز جاءت
عقاب تتلئب لها انصباب     فضمتها إليها ثم خلت
لنا البنيان ليس له حجاب     فقمنا حاشدين إلى بناء
لنا منه القواعد والتراب     غداة نرفع التأسيس منه
وليس على مسوينا ثياب     أعز به المليك بني لؤي
فليس لأصله منهم ذهاب     وقد حشدت هناك بنو عدي
ومرة قد تعمدها كلاب     فبوأنا المليك بذاك عزا
وعند الله يلتمس الثواب



قال ابن إسحاق فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة وذلك بعد الفجار بخمس عشرة سنة ، اجتمعتقريش لبنيان الكعبة وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها ، وأنها ( كانت ) رضما فوق القامة ، فأرادوا رفعها وتسقيفها ، وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة ، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة ، وكان الذي وجد عنده الكنز دويك ، مولى لبني مليح بن عمرو بن خزاعة ، فقطعت [ ص: 41 ] قريش يده ، وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك ، وكان البحر قد رمى سفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت فأخذوا خشبها وأعدوه لتسقيفها ، وكان بمكة رجل قبطي نجار فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها ، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كان يطرح فيها ما يهدى لها ( فتتشرف ) كل يوم على جدار الكعبة ، وكانت مما يهابون ؛ وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها ، فكانوا يهابونها ، فبينما هي يوما تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع ، بعث الله إليها طائرا فاختطفها فذهب بها ، فقالت قريش : إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا ، عندنا عامل رفيق وعندنا خشب ، وقد كفانا الله الحية . فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم فتناول من الكعبة حجرا ، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه ، فقال : يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا ، لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا ولا [ ص: 42 ] مظلمة أحد من الناس . والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم .

قال ابن إسحاق : وحدثني عبد الله بن أبي نجيح ( أنه حدث ) عن عبد الله بن صفوان أنه قال حين نظر إلى ابن الجعد بن هبيرة بن أبي وهب يطوف بالبيت : جد هذا - يعني أبا وهب - هو الذي أخذ حجرا من الكعبة . فذكر الخبر سواء . إلى قوله : مظلمة أحد من الناس .

قال ابن إسحاق : ثم إن قريشا تجزأت الكعبة فكان شق الباب لبني عبد مناف وبني زهرة ، وكان من الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم ، وقبائل قريش انضموا إليهم ، وكان ظهر الكعبة لبني جمع وبني سهم ابني عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي ، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب بن لؤي وهو الحطيم . قال : ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه ، فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم في هدمها . فأخذ المعول ثم قام [ ص: 43 ] عليها وهو يقول : اللهم لم نرع . قال ابن هشام : ويقال لم نزغ . اللهم إنا لا نريد إلا الخير ، ثم هدم من ناحية الركن فتربص الناس تلك الليلة وقالوا : ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت ، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا بهدمها ، فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله ، فهدم وهدم الناس ( معه ) حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة أخذ بعضها بعضا . قال ابن إسحاق : فحدثني بعض من روى ( هذا ) الحديث أن رجلا من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين ليقلع بها أحدهما ، فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها ، فانتهوا عن ذلك الأساس .

[ ص: 44 ] قال : وحدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية ، فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجل من اليهود ، فإذا هو : أنا الله ذو بكة ، خلقتها يوم خلقت السماوات والأرض وصورت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها ، مبارك لأهلها في الماء واللبن . قال : وحدثت أنهم وجدوا في المقام كتابا فيه : مكة بيت الله الحرام يأتيها رزقها رغدا من ثلاثة سبل ، لا يحلها أول من أهلها . قال ابن إسحاق : ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها ، كل قبيلة تجمع على حدة ، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن فاختصموا فيه ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى ، حتى تحاوروا وتخالفوا واعتدوا للقتال ، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاهدوا هم وبنو عدي بن كعب بن [ ص: 45 ] لؤي على الموت ، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة ، فسموا لعقة الدم ، فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا ، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا ، فزعم بعض أهل الرواية أنأبا أمينة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وكان يومئذ أسن قريش كلها ، فقال : يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل عليكم من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه . ففعلوا فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأوه قالوا : هذا الأمين رضينا ، هذا محمد . فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هلم إلي ثوبا . فأتي به فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ، ثم قال : لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ، ثم ارفعوه جميعا . ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه ، وضعه هو بيده ثم بني عليه . قال : وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي : الأمين . قال : وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة ذراعا ، كانت تكسى القباطي ، ثم كسيت البرود ، وأول من كساها الديباج : الحجاج ( بن يوسف )

[ ص: 46 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا ثابت بن يزيد أبو زيد قال : حدثنا هلال بن خباب ، عن مجاهد ، عن مولاه أنه حدثه أنه كان فيمن بنى الكعبة في الجاهلية ، قال : ولي حجر أنا نحته بيدي أعبده من دون الله وأجيء باللبن الخاثر الذي أنفسه على نفسي وعلى ولدي فأصبه عليه ، فيجيء الكلب حتى يلحسه ثم يشغر فيبول عليه . قال : فبنينا حتى بلغنا موضع الحجر وما يرى الحجر أحد ، فإذا هو وسط حجارة تكاد أن تترايا فيها وجوهنا ، فقال بطن من قريش : نحن نضعه ، وقال آخرون : نحن . فقالوا : اجعلوا بينكم حكما . قالوا : أول من يجيء من هذا الفج . فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أتاكم الأمين ، فقالوا له فوضعه في ثوب ثم دعا بطونهم فأخذوا بنواحيه فمشى معهم حتى وضعه هو . وذكر الواقدي ، عن ابن أبي سبرة ، عن يحيى بن شبل ، عن أبي جعفر محمد بن علي قال : كان باب الكعبة [ ص: 47 ] على عهد العماليق وجرهم وإبراهيم عليه السلام بالأرض حتى بنته قريش وردموا الردم الأعلى وصرفوا السيل عن الكعبة وكسوا يومئذ البيت الوصائل . قال الواقدي : وحدثنا معمر ، عن همام بن منبه سمع أبا هريرة يقول : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن سب أسعد الحميري ، وهو تبع وهو أول من كسا البيت ، وهو تبع الآخر .

أخبرنا سعيد بن عثمان قال : حدثنا أحمد بن دحيم قال : حدثنا محمد بن إبراهيم الديبلي قال : حدثنا سعيد بن عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، عن أبيه أن عمر بن الخطاب قدم مكة فأرسل إلى شيخ من بني زهرة ، وكان قد أدرك الجاهلية ، قال عبيد الله بن أبي يزيد : قال أبي : فذهبت معه وعمر بن الخطاب جالس في الحجر فسأله عمر ، عن بناء الكعبة فقال : إن قريشا تقربت لبناء الكعبة فعجزت فتركوا بعض البيت في الحجر ، فقال عمر : صدقت .

وبهذا الإسناد عن سفيان ، عن داود بن شابور ، عن مجاهد قال : لما أراد ابن الزبير أن يهدم البيت ويبنيه قال [ ص: 48 ] للناس : اهدموا . فأبوا أن يهدموا وخافوا أن ينزل عليهم العذاب . قال مجاهد : فخرجنا إلى منى فأقمنا بها ثلاثا ننتظر العذاب . قال : وارتقى ابن الزبير على جدار الكعبة هو بنفسه فهدم ، فلما رأوا أنه لم يصبه شيء اجترءوا على ذلك . قال : فهدموا ، قال : فلما بناها جعل لها بابين وأوطأهما بالأرض بابا يدخلون منه وبابا يخرجون منه ، وزاد فيها مما يلي الحجر ستة أذرع ، وزاد في طولها تسعة أذرع . قال : فلما ظهر الحجاج رد الذي كان ابن الزبير أدخل من الحجر فيها ، فقال عبد الملك بن مروان : وددنا أنا كنا تركنا أبا خبيب وما تولى من ذلك ( يعني ابن الزبير ) .

وذكر عبد الرزاق قال : أخبرنا أبي قال : سمعت مرثد بن شراحيل يحدث أنه حضر ذلك ، قال : أدخل ابن الزبير على عائشة سبعين رجلا من خيار قريش فأخبرتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : لولا حداثة عهد قومك بالشرك لبنيت البيت على قواعد إسماعيل وإبراهيم ، وتدري لم قصروا عن قواعد إبراهيم ؟ قالت : قلت : لا . قال : قصرت بهم [ ص: 49 ] النفقة . قال : وكانت الكعبة قد وهت من حريق أهل الشام . قال : فهدمها وأنا يومئذ بمكة ، فكشف عن ربض الحجر أخذ بعضه ببعض فتركه مكشوفا ثمانية أيام يتشهد عليه . قال : فرأيت ربضه ذلك كخلف الإبل خمس حجارات ، وجه حجر ، ووجه حجر ، ووجه حجران . قال : ورأيت الرجل يأخذ العتلة فيهزها من ناحية الركن الآخر فيهتز الركن الآخر . قال : ثم بناه على ذلك الربض وصنع له بابين لاصقين بالأرض شرقيا وغربيا . فلما قتل ابن الزبير هدمه الحجاج من ناحية الحجر ثم أعاده على ما كان عليه . قال : فكتب إليه عبد الملك وددت أنك تركت ابن الزبير وما تحمل . قال مرثد : وسمعت ابن عباس يقول : لو وليت منه ما كان ولي ابن الزبير لأدخلت الحجر كله في البيت . وقال ابن عباس : فلم يطاف بالحجر إن لم يكن من البيت ؟

وروينا أن الرشيد هارون ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بنى الحجاج من الكعبة وأن يرده إلى بنيان ابن الزبير ، لما جاء في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وامتثله ابن [ ص: 50 ] الزبير فقال له مالك : ناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك ، لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه فتذهب هيبته من صدور الناس .

قال أبو عمر : في حديث مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم المذكور في هذا الباب دليل على أن الحجر من البيت ، وقد أوضحنا ذلك بما ذكرنا من الآثار ، وإذا صح أن الحجر من البيت فواجب إدخاله في الطواف ، وأجمع العلماء أن كل من طاف بالبيت لزمه أن يدخل الحجر في طوافه ، وفي إجماعهم على ذلك ما يكفي . واختلفوا فيمن لم يطف من وراء الحجر ولم يدخل الحجر في طوافه ، فالذي عليه جمهور أهل العلم أن ذلك لا يجزئ وأن فاعل ذلك في حكم من لم يطف ، فمن لم يطف الطواف الواجب كاملا ، رجع من بلاده حتى يطوف ويكمله ، فهو فرض مجتمع عليه ، وممن قال ما ذكرنا في الطواف وراء الحجر مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور ، وهو قول عطاء وابن عباس ، وروينا عن ابن عباس أنه كان يقول في هذه المسألة : الحجر من البيت ويتلو قول الله عز وجل وليطوفوا بالبيت العتيق ويقول : [ ص: 51 ] طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر . وقال مالك والشافعي ومن قال بقولهم : من لم يدخل الحجر في طوافه ولم يطف من ورائه في شوط أو شوطين أو أكثر - ألغى ذلك وبنى على ما كان طاف طوافا كاملا قبل أن يسلك في الحجر ولا يعتد بما سلك في الحجر .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : من سلك في الحجر ولم يطف من ورائه - وذكر ذلك وهو بمكة - أعاد الطواف ، وإن كان شوطا قضاه ، وإن كان أكثر قضى ما بقي عليه من ذلك ، فإن خرج عن مكة وانصرف إلى الكوفة فعليه دم وحجه تام . وروي عن الحسن البصري نحو ذلك . قال : من فعل ذلك فعليه الإعادة ، فإن حل أهراق دما .

وفي هذا الحديث أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم من الأركان إلا ركنين : اليماني والأسود . وعلى هذا مذهب مالك والشافعي وفقهاء الحجاز والعراق من أهل الرأي والحديث ، ولا أعلم في ذلك خلافا إلا في الطبقة الأولى من الصحابة رضي الله عنهم ، فإنه روي عن جابر بن عبد الله ومعاوية بن أبي سفيان وأنس بن مالك وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين أنهم كانوا يستلمون الأركان ( كلها ) وروي عن عروة وأبي الشعثاء مثل ذلك ، وروي عنهما خلافه .

[ ص: 52 ] واختلف عن ابن عباس ومعاوية في ذلك ، فروى شعبة ، عن قتادة ، عن أبي الطفيل قال : قدم معاوية وابن عباس فطاف ابن عباس فاستلم الأركان كلها فقال معاوية : إنما استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركنين اليمانيين . وقال ابن عباس : ليس شيء من أركانه مهجورا . وروى هذا الخبر عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن أبي الطفيل فقلب القصة فيه ، وجعل مكان ابن عباس معاوية ومكان معاوية ابن عباس .

أخبرنا أحمد بن محمد قال : حدثنا أحمد بن الفضل قال : حدثنا محمد بن جرير قال : حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن شريك ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن أبي الطفيل قال : طاف معاوية بالبيت ومعه ابن عباس فكان معاوية يستلم الأركان كلها ، فإذا استلم الركنين اللذين في الحجر . فقال له ابن عباس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يستلم هذين ، فقال له معاوية : إنه ليس من البيت شيء مهجور ( وجعل ابن عباس يتخافتها كلما استلم ويقول : [ ص: 53 ] إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم هذين . ويقول له معاوية أن ليس في البيت شيء مهجور ) .

قال أبو عمر : هذه الرواية أثبت من رواية قتادة ؛ لأن مجاهدا روى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يستلم إلا الركنين اليمانيين ، وأنه أنكر على معاوية استلامه ، فلما قال له معاوية : ليس من البيت شيء مهجور . قال له ابن عباس لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة والذي عليه جماعة فقهاء الأمصار وأهل المعرفة بالآثار استلام الركنين اليمانيين ، وذلك لحديث ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وهو حديث لا مطعن لأحد فيه ، رواه عن ابن عمر سالم ونافع وعبيد بن جريج ويوسف بن ماهك وغيرهم . والركنان اللذان لا يستلمان هما : الركن الشامي الذي يلي الركن الأسود والركن الغربي الذي يقابل اليماني ، وهما اللذان يليان الحجر ، وقد نهى عمر بن الخطاب يعلى بن أمية ، عن استلام الركنين الغربيين وهما هذان المذكوران ، وقال عمر ليعلى : لنا في رسول الله أسوة حسنة .

[ ص: 54 ] فحصلت الرواية في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر وعبد الله بن عباس ولا حجة في قول أحد مع السنة الثابتة ، وروى معمر ، عن الزهري ، عن سالم أن أباه أخبر بقول عائشة : إن الحجر بعضه من البيت ، فقال ابن عمر : والله ( إني ) لأظن عائشة إن كانت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إني لأظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك استلامهما إلا أنهما ليسا على قواعد البيت ، ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك .

قال أبو عمر : مالك أحسن إقامة لإسناد هذا الحديث ، عن معمر ، وأحسن سياقة له منه ، ومالك أثبت الناس في الزهري ، والله أعلم .

حدثنا سعيد بن نصر ويحيى بن عبد الرحمن قراءة مني عليهما أن محمد بن أبي دليم حدثهما قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا إبراهيم بن حسان قال : حدثنا أنس بن عياض قال : حدثني هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : ما أبالي صليت في الحجر أو في البيت . ورواه مالك وابن عيينة وجماعة ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة مثله .

التالي السابق


الخدمات العلمية