التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
164 [ ص: 55 ] حديث سابع لابن شهاب ، عن سالم مرسل عند يحيى وأكثر الرواة .

مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم . قال : وكان لا ينادي حتى يقال له : أصبحت أصبحت


هكذا رواه يحيى مرسلا وتابعه على ذلك أكثر الرواة ، عن مالك ووصله القعنبي وابن مهدي وعبد الرزاق وأبو قرة ) [ ص: 56 ] ( موسى بن طارق وعبد الله بن نافع ومطرف بن عبد الله الأصم وابن أبي أويس والحنيني ومحمد بن عمر الواقدي وأبو قتادة الحراني ومحمد بن حرب الأحرش وزهير بن عباد الرواسي وكامل بن طلحة - كل هؤلاء وصلوه فقالوا فيه : عن سالم ، عن أبيه . وسائر رواة الموطأ أرسلوه ، وممن أرسله ابن قاسم والشافعي وابن بكير وأبو المصعب الزهري وعبد الله بن يوسف التنيسي وابن وهب في الموطأ ومصعب الزبيري ومحمد بن الحسن ومحمد بن المبارك الصوري وسعيد بن عفير ومعن بن عيسى وجماعة يطول ذكرهم ، وقد روي عن ابن بكير متصلا ولا يصح عنه إلا مرسلا ، كما في الموطأ له ، وأما أصحاب ابن شهاب فرووه متصلا مسندا عن ابن شهاب ، منهم ابن عيينة وابن جريج وشعيب بن أبي حمزة والأوزاعي ومعمر ومحمد بن إسحاق وابن أبي سلمة ، وعند معمر ومحمد بن إسحاق في هذا حديث آخر ) .

[ ص: 57 ] حدثنا خلف بن قاسم قال : حدثنا ابن أبي العقب الدمشقي بدمشق قال : حدثنا أبو زرعة قال : حدثنا أبو اليمان قال : أخبرنا شعيب ، عن الزهري قال : قال سالم بن عبد الله : سمعت عبد الله بن عمر يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم ورواه معمر ومحمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .

والحديث صحيح للزهري ، عن ( . . . ) حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا ابن أبي أسامة قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم . قال : وكان ابن أم مكتوم لا يؤذن حتى يقال له : أصبحت أصبحت فأذن .

وحدثنا أحمد بن قاسم بن عيسى قال : حدثنا ابن حبابة قال : حدثنا البغوي قال : حدثنا علي بن الجعد قال : حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة فذكره .

[ ص: 58 ] وفي هذا الحديث من الفقه : الأذان بالليل لصلاة الصبح ؛ إذ لا أذان عند الجميع للنافلة في صلاة الليل ولا غيرها ، ولا أذان إلا للفرائض المكتوبات ، وأوكد ما يكون فللجماعات . وسيأتي القول في وجوب الأذان وسنته ، وما للعلماء في ذلك من المذاهب وفي كيفية الأذان والإقامة في باب أبي الزناد وباب يحيى بن سعيد ، إن شاء الله . ولم يختلف على مالك في حديثه في هذا الباب ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مسندا ، وقد اختلف الفقهاء في جواز الأذان بالليل لصلاة الصبح ، فقال أكثر العلماء بجواز ذلك ، وممن أجازه مالك وأصحابه والأوزاعي والشافعي ، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وداود والطبري ، وهو قول أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي الكوفي ، وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم : إن بلالا ينادي بليل .

وفي قوله هذا إخبار منه أن شأن بلال أن يؤذن للصبح بليل . يقول : فإذا جاء رمضان فلا يمنعكم أذانه من سحوركم ، وكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ، فإن من شأنه أن يقارب الصباح بأذانه .

[ ص: 59 ] وقال أبو حنيفة والثوري ومحمد بن الحسن : لا يجوز الأذان لصلاة الفجر حتى الفجر ، ومن أذن لها قبل الفجر لزمه إعادة الأذان .

وحجة الثوري وأبي حنيفة ومن قال بقولهما : ما رواه وكيع ، عن جعفر بن برقان ، عن شداد مولى عياض بن عامر ، عن بلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تؤذن حتى يتبين لك الفجر هكذا ، ومد يده عرضا ، ورواه معمر ، عن جعفر بن برقان بإسناده ومعناه ، إلا أنه قال : شداد مولى عياش . وهذا حديث لا تقوم به حجة ولا بمثله ؛ لضعفه وانقطاعه .

واحتجوا أيضا بما رواه حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي : ألا إن العبد نام ، ألا إن العبد نام . فرجع فقالها . وهذا حديث انفرد به حماد بن سلمة دون أصحاب أيوب وأنكروه عليه [ ص: 60 ] وخطئوه فيه ؛ لأن سائر أصحاب أيوب يروونه عن أيوب ، قال : أذن بلال مرة بليل ، فذكره مقطوعا . وهكذا ذكره عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب قال : أذن بلال مرة بليل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : اخرج فناد : إن العبد نام . فخرج وهو يقول : ليت بلالا ثكلته أمه وابتل من نضح دم جبينه ، ثم نادى : إن العبد نام .

وروى زبيد الإيامي ، عن إبراهيم قال : كانوا إذا أذن المؤذن بليل أتوه فقالوا له : اتق الله وأعد أذانك . واحتجوا ( أيضا ) بما رواه شريك ، عن محل ، عن إبراهيم قال : شيعنا علقمة إلى مكة فخرج بليل فسمع مؤذنا يؤذن بليل ، فقال : أما هذا فقد خالف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، لو كان نائما كان خيرا له ، فإذا طلع الفجر أذن . ومحل ليس بالقوي .

واحتجوا أيضا بما رواه عبد العزيز بن أبي رواد ، عن نافع ، عن مؤذن لعمر يقال له مسروح ، أذن الصبح فأمره عمر أن يرجع ينادي : ألا إن العبد نام ، ألا إن العبد نام . وهذا إسناد غير متصل ؛ لأن نافعا لم يلق عمر . ولكن الدراوردي وحماد بن زيد قد رويا هذا الخبر ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر مثله ، إلا أن [ ص: 61 ] الدراوردي قال : يقال له مسعود . وهذا هو الصحيح ، والله أعلم أن عمر قال ذلك لمؤذنه ، لا ما ذكر أيوب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله لبلال .

وإذا كان حديث ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيحا : قوله : إن بلالا يؤذن بليل ، فلا حجة في قول أحد مع السنة ، ولو لم يجز الأذان قبل الفجر لنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا ، عن ذلك ، ونحن لا نعلم أن عمر قال ما روي عنه في هذا الباب إلا بخبر واحد ، عن واحد ، وكذلك خبر ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فالمصير إلى المسند أولى من طريق الحجة ، والله أعلم . والذي أحبه أن يكون مؤذن آخر بعد الفجر .

وفيه اتخاذ مؤذنين ، وإذا جاز اتخاذ اثنين منهم جاز أكثر ، إلا أن يمنع منه ما يجب التسليم له . وفيه جواز أذان الأعمى وذلك عند أهل العلم إذا كان معه مؤذن آخر يهديه للأوقات . وفيه دليل على ( جواز ) شهادة الأعمى على ما استيقنه من الأصوات . ألا ترى أنه كان إذا قيل له أصبحت قبل ذلك وشهد عليه ( وعمل به ) وابن أم مكتوم رجل من قريش من بني عامر بن لؤي ، اختلف في اسمه ، وقد ذكرناه ( ونسبناه في كتابنا في [ ص: 62 ] الصحابة وذكرنا ) الاختلاف في ذلك هناك .

وفيه دليل على أكل السحور ، وعلى أن الليل كله موضع الأكل والشرب والجماع لمن شاء ، كما قال الله عز وجل : ( وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) .

وفي هذا دليل على أن السحور لا يكون إلا قبل الفجر ؛ لقوله : إن بلالا ينادي بليل . ثم منعهم من ذلك عند أذان ابن أم مكتوم وهو إجماع لم يخالف فيه إلا الأعمش فشذ ، ولم يعرج على قوله . والنهار الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، على هذا إجماع علماء المسلمين ، فلا وجه للكلام فيه .

وأما قول أمية بن أبي الصلت : .


والشمس تطلع كل آخر ليلة حمراء يصبح لونها يتورد

فهذا على القرب لا على الحقيقة ، والعرب تسمي الشيء باسم ما قرب منه ، ومن هذا قول الله عز وجل : فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن الآية ، وهذا على القرب عند الجميع لا الحقيقي . وليست الأشعار واللغات مما يثبت بها شريعة ولا دين ، ولكنها يستشهد بها على أصل المعنى المستغلق إن احتيج إلى ذلك ، والله أعلم وبه التوفيق .

[ ص: 63 ] وقول ابن شهاب : وكان ابن أم مكتوم لا ينادي حتى يقال له : أصبحت أصبحت . معناه أيضا المقاربة ؛ أي : قاربت الصباح ( وهذا ) على ما فسر العلماء مما ذكرنا قوله : فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن يريد بالبلوغ هاهنا مقاربة البلوغ لا انقضاء الأجل ؛ لأن الأجل لو انقضى - وهو انقضاء العدة - لم يجز ( لهم ) إمساكهن ، وهذا إجماع لا خلاف فيه ، فدل على أن قرب الشيء قد يعبر به عنه ، والمراد مفهوم . وبالله التوفيق .

ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر أصحابه أن يأكلوا ويشربوا حتى يؤذن من لا يؤذن إلا وقد أصبح ، وإذا كان هذا معلوما صح أن معنى قول ابن شهاب في ابن أم مكتوم ما ذكرنا من مقاربة الصباح ، وقد أجمع العلماء على أن من استيقن الصباح لم يجز له الأكل ولا الشرب بعد ذلك ، وفي إجماعهم على ذلك ما يوضح ما ذكرناه .

واختلفوا فيمن أكل بعد الفجر وهو يظن أنه ليل ، أو أكل وهو شاك في الفجر ، فقال مالك : من تسحر بعد طلوع الفجر أو أكل قبل غروب الشمس وهو لا يعلم ، فعليه القضاء إن كان واجبا ، وإن كان تطوعا مضى ولا شيء عليه ، وهو قول ابن علية في الواجب خاصة . قال : هو عندي بمنزلة من [ ص: 64 ] صلى قبل الوقت . وقال أبو حنيفة والثوري والليث بن سعد والشافعي : عليه القضاء - في الذي يأكل وهو يرى أنه ليل ثم يعلم أنه نهار - وأما الذي يأكل وهو شاك في الفجر ، فقال أبو حنيفة : أحب إلي أن يقضي إذا كان أكثر رأيه أنه أكل بعد الفجر . وقال مالك : عليه القضاء ، وقال الشافعي وعبيد الله بن الحسن : لا شيء عليه ، وقال الثوري : كل ما شككت حتى تستيقن . وقال الشافعي من بين هؤلاء : من أفسد صومه التطوع عامدا أساء ولا شيء عليه . وليس هذا موضع ذكر هذه المسألة . ولمالك في موطئه أحاديث في السحور حسان ، سيأتي موضعها من كتابنا هذا ، إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية