التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1725 حديث تاسع لإسحاق ، عن أنس مسند أيضا

مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول : قال أبو طلحة لأم سليم : لقد سمعت صوت رسول الله - صلى الله عليه - ضعيفا أعرف فيه الجوع ، فهل عندك من شيء ؟ فقالت : نعم ، قال : فأخرجت أقراصا من شعير ، ثم أخذت خمارا لها ثم لفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدي ، وردتني ببعضه ، ثم أرسلتني إلى رسول الله ، صلى الله عليه . قال : فذهبت به فوجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا في المسجد [ ص: 289 ] ومعه الناس ، فقمت عليهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أرسلك أبو طلحة ، فقلت : نعم ، فقال : بطعام ، قال : قلت : نعم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن معه : قوموا . فانطلقوا وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته ، فقال أبو طلحة : يا أم سليم قد جاء رسول الله والناس ، وليس عندنا من الطعام ما نطعمهم ، فقالت : الله ورسوله أعلم ، قال : فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل رسول الله وأبو طلحة معه حتى دخلا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هلمي يا أم سليم ما عندك ، فأتت بذلك الخبز ، فأمر به ففت ، وعصرت عليه أم سليم عكة لها ، فأدمته ثم قال رسول الله ما شاء الله أن يقول ، ثم قال : إيذن لعشرة ، فأذن لهم ، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ، ثم قال : إيذن لعشرة ، فأذن لهم ، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ، ثم قال : إيذن لعشرة ، فأكل القوم كلهم وشبعوا ، والقوم سبعون أو ثمانون رجلا .


قال أبو عمر : هذا من أثبت ما يروى من الحديث وأحسنه اتصالا ، وكذلك سائر حديث إسحاق عن أنس .

قال أبو عمر : احتج بعض أصحابنا بهذا الحديث في جواز شهادة الأعمى على الصوت ، وقال : لم يمنع أبا طلحة ضعف صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تمييزه لعلمه به ، فكذلك الأعمى إذا عرف الصوت ، وعارضه بعض من لا يرى شهادة الأعمى جائزة على الكلام بأن أبا طلحة قد تغير عنده صوت رسول الله - صلى الله عليه - مع علمه بصوته [ ص: 290 ] ولولا رؤيته له لاشتبه عليه في حين سماعه منه وما عرفه ، والتشغيب في هذه المسألة طويل .

وفي هذا الحديث ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من ضيق الحال ، وشظف العيش ، وأنه كان - صلى الله عليه - يجوع حتى يبلغ به الجوع والجهد إلى ضعف الصوت وهو غير صائم .

وفيه أن الطعام الذي لمثله يدعى الضيف - ولا يدعى إلا لأرفع ما يقدر عليه - كان عندهم الشعير ، وقد كان أكثر طعامهم التمر في أول الإسلام ، وكان يمر بهم الشهر والشهران ما توقد في بيت أحدهم نار ، وذلك محفوظ معناه من حديث عائشة ، وغيرها .

وفيه قبول مواساة الصديق وأكل طعامه ، وأن ذلك ليس بصدقة ، وإنما كان صلة وهدية ، ولو كان صدقة ما أكله رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .

وفيه أن الرجل إذا دعي إلى طعام جاز لجلسائه أن يأتوا معه إذا دعاهم الرجل ، وإن لم يدعهم صاحب الطعام ، وذلك عندي محمول على أنهم علموا أن صاحب الطعام تطيب لهم نفسه بذلك ، ووجه آخر أن يكون الطعام يكفيهم ، وقد قال مالك : لا ينبغي لمن دعي إلى طعام أن يحمل مع نفسه غيره إذ لا يدري هل يسر بذلك صاحب الطعام أم لا ، قال مالك : إلا أن يقال له : ادع من لقيت .

وفيه اكتراث المومن عند ضيق الحال إذا نزل به ضيف وليس معه ما يكفيه من الطعام .

[ ص: 291 ] وفيه فضل فطنة أم سليم ; لحسن جوابها زوجها حين شكى إليها كثرة من حل به مع قلة طعامه ، فقالت له : الله ورسوله أعلم ، أي لم يأت بهم إلا وسيطعمهم .

وفيه الخروج إلى الطريق لمن قصد له إذا كان أهلا لذلك لأنه من البر .

وفيه أن صاحب الدار لا يستأذن في داره ، وأن من دخل معه يستغني عن الإذن .

وفيه أن الصديق الملاطف يأمر في دار صديقه بما يحب ، ويظهر دالته في الأمر والنهي والتحكم ; لأنه اشترط عليهم أن يفت الخبز وهو فعل يرضاه أهل الكرم من الضيف ، ولقد أحسن القائل :


يستأنس الضيف في أبياتنا أبدا فليس يعرف خلق أينا الضيف

وفيه أن الإنسان لا يدخل عليه بيته إلا معه أو بإذنه ، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - إيذن لعشرة ، وقد استحب أهل العلم أن لا يكون على الخوان الذي عليه الطعام أكثر من عشرة ، وفيه أن الثريد أعظم بركة من غيره من الطعام ، ولذلك اشترط به رسول الله ، والله أعلم .

وفيه أن لصاحب الطعام أن يقدم إلى طعامه ممن حضره من شاء من غير قرعة ، وإن كان قد دعاهم جميعا إذا علم أن كل واحد منهم يصل من الطعام إلى ما يكفيه في ذلك الوقت .

[ ص: 292 ] وفيه إباحة الشبع للصالحين ، وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان آخرهم أكلا ، وذلك من مكارم الأخلاق ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ساقي القوم آخرهم شربا .

وفيه العلم الساطع النير ، والبرهان الواضح من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ، وقد روي هذا المعنى وشبهه من وجوه كثيرة ، منها ما حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن عبد الواحد بن أيمن ، عن أبيه ، قال : قلت لجابر بن عبد الله ، حدثنا بحديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرويه عنك ، قال : فقال جابر : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق نحفره ، فلبثنا ثلاثة أيام لا نطعم طعاما ولا نقدر عليه ، فعرضت في الخندق كدية فجئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله هذه كدية قد عرضت في الخندق ، فرششنا عليها الماء ، فقام رسول الله وبطنه معصوب بحجر ، فأخذ المعول - أو المسحاة - ثم سمى ثلاثا ثم ضرب فعادت كثيبا أهيل ، فلما رأيت ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت : يا رسول الله إيذن لي ، فأذن لي ، فجئت امرأتي فقلت : ثكلتك أمك ، إني قد رأيت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا لا صبر لي عليه ، فما عندك ؟ قالت : عندي [ ص: 293 ] صاع من شعير ، قال : فطحنا الشعير وذبحنا العناق وأصلحناها وجعلناها في البرمة وعجنت الشعير ، فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلبثت ساعة ثم استأذنت الثانية فأذن لي ، فجئت فإذا العجين قد أمكن ، فأمرتها بالخبز وجعلت القدر على الأثافي ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فساررته ، فقلت : يا رسول الله إن عندنا طعاما لنا ، فإن رأيت أن تقوم معي أنت ورجل أو رجلان معك فعلت ، فقال : كم هو ؟ وما هو ؟ فقلت : صاع من شعير وعناق ، قال : ارجع إلى أهلك فقل لها لا تنزع القدر من الأثافي ، ولا تخرج الخبز من التنور حتى آتي ، ثم قال للناس : قوموا إلى بيت جابر ، فاستحييت حياء لا يعلمه إلا الله ، فقلت لامرأتي : ثكلتك أمك قد جاء رسول الله بأصحابه أجمعين ، فقالت : أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألك كم الطعام ؟ قلت : نعم ، فقالت : الله ورسوله أعلم ، قد أخبرته بما كان عندنا ، قال : فذهب عني بعض ما أجد وقلت لقد صدقت ، قال : فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل وقال لأصحابه : لا تضاغطوا ، قال : ثم برك على التنور وعلى البرمة ، فجعلنا نأخذ من التنور الخبز ونأخذ اللحم من البرمة فنثرد ونغرف ونقرب إليهم ، وقال رسول الله : ليجلس على الصحفة سبعة أو ثمانية ، فلما أكلوا كشفنا التنور والبرمة ، فإذا هما قد عادا إلى أملأ مما كانا ، فنثرد ، ونغرف ونقرب [ ص: 294 ] إليهم ، فلم يزل ذلك كلما فتحنا عن التنور وكشفنا عن البرمة وجدناهما أملأ مما كانا ، حتى شبع المسلمون كلهم ، وبقي طائفة من الطعام ، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه - : إن الناس قد أصابتهم مخمصة فكلوا وأطعموا ، قال : فلم نزل يومنا نأكل ونطعم ، قال : وأخبرني جابر أنهم كانوا ثمانمائة ، أو ثلاثمائة ، شك أيمن .

حدثنا خلف بن قاسم الحافظ قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن ناصح المفسر ، قال : حدثنا أحمد بن علي بن سعيد قال : حدثنا يحيى بن معين قال : حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى ، عن سعيد الجريري ، عن أبي الورد ، عن أبي محمد الحضرمي ، عن أبي أيوب الأنصاري قال : صنعت لرسول الله ولأبي بكر طعاما قدر ما يكفيهما وأتيتهما به ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اذهب فادع لي ثلاثين من أشراف الأنصار ، قال : فشق ذلك علي ، وقلت : ما عندي شيء أزيده ، قال : فكأني تغافلت ثم قال : اذهب فادع لي ثلاثين من أشرافالأنصار ، قال : فدعوتهم فجاءوا فقال : اطعموا ، فأكلوا ثم صدروا ثم شهدوا أنه رسول الله ، ثم بايعوه قبل أن يخرجوا ، ثم قال : اذهب فادع لي بستين من الأنصار ، قال أبو أيوب : فوالله لأنا بالستين أجود مني بالثلاثين ، قال : فدعوتهم ، فقال [ ص: 295 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلوا ، فأكلوا حتى صدروا ، وشهدوا أنه رسول الله ، وبايعوه قبل أن يخرجوا ، ثم قال : اذهب فادع لي بتسعين من الأنصار ، قال : فلأنا أجود بالتسعين والستين مني بالثلاثين ، قال : فدعوتهم فأكلوا حتى صدروا ، وشهدوا أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبايعوه قبل أن يخرجوا ، قال : فأكل من طعامي ذلك مائة وثمانون رجلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية