التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
218 [ ص: 183 ] حديث ثان لابن شهاب عن الأعرج .

مالك عن ابن شهاب عن عبد الرحمن الأعرج عن عبد الله بن بحينة قال : صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ، ثم قام فلم يجلس فقام الناس معه فلما قضى صلاته فانتظرنا تسليمه ، كبر فسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم ثم سلم .


قد ذكرنا ابن بحينة في الصحابة بما يغني عن ذكره هاهنا .

[ ص: 184 ] وفي هذا الحديث بيان أن الوهم والنسيان لا يسلم منه أحد من المخلوقين ، وقد يكون ما نزل به من ذلك ومن مثله ليس لأمته صلى الله عليه وسلم . ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم : إني لأنسى أو أنسى لأسن .

وفي هذا الحديث من الفقه أن المصلي إذا قام من اثنتين واعتدل قائما لم يكن له أن يرجع ، وإنما قلنا : واعتدل قائما ; لأن الناهض لا يسمى قائما حتى يعتدل على الحقيقة ، وإنما القائم : المعتدل . وفي حديثنا هذا : ثم قام . وإنما قلنا : لا ينبغي له إذا اعتدل قائما أن يرجع ; لأنه معلوم أن من اعتدل قائما في هذه المسألة لا يخلو من أن يذكر بنفسه أو يذكره من خلفه بالتسبيح ، ولا سيما قوم قيل لهم : من نابه شيء في صلاته فليسبح [ ص: 185 ] وهم أهل النهى وأولى من عمل بما حفظ ووعى ، وأي الحالين كانت فلم ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجلوس بعد قيامه ، فكذلك ينبغي لكل من قام من اثنتين أن لا يرجع ، فإن رجع إلى الجلوس بعد قيامه لم تفسد صلاته عند جمهور العلماء ، وإن اختلفوا في سجود سهوه وحال رجوعه وقد قال بعض المتأخرين : تفسد صلاته . وهو قول ضعيف لا وجه له ; لأن الأصل ما فعله ، وترك الرجوع رخصة ، وتنبيه على أن الجلسة لم تكن فرضا ، والله أعلم .

واختلف العلماء في هذه المسألة ، فقال مالك : من قام من اثنتين تمادى ولم يجلس وسجد لسهوه قبل السلام على حديث ابن بحينة هذا ، فإن عاد إلى الجلوس بعد قيامه هذا ، فصلاته تامة وتجزيه سجدتا السهو . قال ابن القاسم وأشهب : يسجدهما بعد [ ص: 186 ] السلام . وقال علي بن زياد : يسجدهما قبل السلام لأنه قد وجب عليه في حين قيامه ورجوعه إلى الجلوس زيادة فكأنه زاد ونقص .

وقال الشافعي ( إذا ذكر ولم يستتم قائما جلس ، فإن استتم قائما لم يرجع ( وهو قول علقمة والأسود ( وقتادة والضحاك بن مزاحم والأوزاعي ، وفي قول للشافعي : إذا رجع إلى الجلوس سجد سجدتي السهو ، وفي قول للأسود ( وعلقمة : لا يسجد للسهو بأن رجع .

وقال حماد بن أبي سليمان : إذا ذكر ساعة يقوم جلس ، وقال إبراهيم النخعي : يقعد ما لم يستفتح القراءة ، وقد روي عن مالك أن المصلي إذا فارقت الأرض أليته وهم بالقيام مضى كما هو ولا يرجع . وقال حسان بن عطية : [ ص: 187 ] إذا تجافت ركبتاه عن الأرض مضى . وقال الحسن البصري : ينصرف ويقعد وإن قرأ ما لم يركع .

قال أبو عمر : قد روي في هذا الباب حديث وإن كان في إسناده من لا تقوم به حجة وهو جابر الجعفي ، فإنه أولى ما قيل به في هذا الباب وعليه أكثر أهل الفتوى : أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا الحسن بن عمرو عن عبد الله بن الوليد ( ح ( وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا مصعب بن ماهان ، جميعا عن سفيان عن جابر قال : حدثنا المغيرة بن شبيل أحمس عن قيس بن أبي حازم عن المغيرة [ ص: 188 ] بن شعبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا قام الإمام في الركعتين ، فإن ذكر قبل أن يستوي قائما ( فليجلس وإن استوى قائما ( فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو .

قال أبو داود : وليس في كتابي عن جابر الجعفي إلا هذا الحديث .

قال أبو عمر : في هذا الحديث وفي حديث ابن بحينة وغيره من ترك الرجوع لمن قام من اثنتين دليل على صحة ما ذهب إليه أصحابنا ومن قال بقولهم : الوسطى سنة ليست بفريضة ; لأنها لو كانت من فروض الصلاة لرجع الساهي إليها متى ذكرها فقضاها ثم سجد لسهوه كما يصنع من ترك ركعة أو سجدة ، وكان حكمها حكم الركوع والسجود والقيام ، ولروعي [ ص: 189 ] فيها ما يراعى في السجود والركوع من الولاء والرتبة ، ولم يكن بد من الإتيان بها ، فلما لم يكن ذلك حكمها وكانت سجدتا السهو تنوب عنها ولم تنب عن شيء من عمل البدن غيرها ، علم أنها ليست بفريضة وأنها سنة ، ولو كانت فريضة ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجوع إليها ، ألا ترى أنه أمر بالبناء على اليقين كل من سها في ركوعه أو سجوده ليكمل فريضته على يقين ؟ وأجمع العلماء على أن الركوع والسجود والقيام والجلسة الأخيرة في الصلاة فرض كله ، وأن من سها عن شيء منه وذكره رجع إليه فأتمه وبنى عليه ولم يتماد وهو ذاكر له ; لأنه لا يجبره سجود السهو ، وبهذا يتبين لك وجوب فرضه ، والدليل من القرآن على ذلك قوله تعالى وقوموا لله قانتين فأمر بالقيام في الصلاة لمن قدر عليه لأنه لا تكلف نفس إلا وسعها ولا خلاف [ ص: 190 ] بين العلماء أن من صلى جالسا فريضة ، وهو قادر على القيام أن ذلك لا يجزيه ، وأن القيام فرض على كل من قدر عليه ، وكذلك الركوع والسجود لقول الله عز وجل اركعوا واسجدوا ومعلوم أنه لا يتهيأ ركوع ولا سجود إلا بقيام وجلوس ، ألا ترى أن أحدا لا يقدر على السجدة الثانية إلا بجلوس بين السجدتين ؟ والجلوس بين السجدتين فرض ( لا خلاف فيه ، وكذلك الجلسة الآخرة عند جمهور العلماء فرض ( واجب ( أيضا ( وما أعلم أحدا خالف فيها إلا بعض البصريين بحديث ضعيف انفرد به من لا حجة في نقله ، فكيف بانفراده ؟ وسنذكر ذلك إن شاء الله .

[ ص: 191 ] وإنما اختلفوا في الجلسة الوسطى وحدها من حركات البدن كلها في الصلاة ، فذهب أصحابنا وغيرهم إلى ما ذكرنا ، وحجتهم ما وصفنا ، وذهب آخرون إلى أنها فرض واجب ، قالوا : ولكنها مخصوصة بأن لا ينصرف إليها وأن تجبر بسجدتي السهو بدليل حديث ابن بحينة هذا وما كان مثله ، وقالوا : هي أصل في نفسها مخصوصة بحكم كالعرايا من المزابنة ، والقراض من الإجارات .

وأجمعوا أنه لا يقاس عمل البدن في السهو عليها ، إلا فرقة شذت وغلطت ، واعتلوا أنها لو كانت سنة لما فسدت صلاة من تركها عامدا ; لأن السنن حكمها عندهم أن من ترك منها عامدا فقد قصر عن حفظ نفسه ولم يبلغ حد الكمال ، ولا يجب عليه مع ذلك إعادة ، واستدلوا بأن المضمضة والاستنشاق [ ص: 192 ] عند من لم يجعلهما فرضا من العلماء لا يفسد بتركهما صلاة من تركهما عامدا ، وهما عند من لم يوجبهما فرضا من أوكد السنن وكذلك قراءة السورة مع أم القرآن وهي سنة مسنونة ، وكذلك التشهد عند من لم يوجبه فرضا هو سنة ، ومثل هذا كثير ، وقالوا : خرجت الجلسة الوسطى بدليلها من بين فروض الصلاة وانفردت بحكمها ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم خصها بذلك كما خص المأموم إذا أحرم وراء إمامه وهو راكع أن ينحط إلى ركوعه بإثر إحرامه دون أن يقف ، هذا مما لا خلاف فيه بين العلماء ، والوقوف عليه لو كان منفردا فرض . قالوا : ولما كان قوله صلى الله عليه وسلم إنما جعل الإمام ليؤتم به يمنع المأموم من أن يقف بعد إحرامه ومن أن ( يجلس في ( ثانية له وأن يقوم بعد أولى له - كان دليله على ( مخالفة رتبة الصلاة اتباع إمامه ، وجاز له في اتباعه ما لو [ ص: 193 ] فعله عامدا هو وحده فسدت صلاته ، أو فعله ساهيا لم تجزه ، وكان دليله على ( ذلك كله ( قوله صلى الله عليه وسلم : إنما جعل الإمام ليؤتم به مع إجماع العلماء ، وخص بهذا الدليل تلك الجمل ( العظام ( والأصول ، فغير نكير أن يكون ترك انصرافه صلى الله عليه وسلم إلى الجلسة الوسطى دليلا على أنه خصها من بين فرائض الصلاة ( بحكم تجبر فيه بسجدتي السهو من بين سائر الفرائض في الصلاة ( وهي مع ذلك فرض كسائر حركات البدن ; إذ ليس من حركات البدن ( في الصلاة ( شيء غير فرض . قالوا : فالجلسة الوسطى ( أصل في نفسها ( لا يقاس عليها غيرها ; لأنها مخصوصة .

وقد قال إسماعيل بن إسحاق في كتاب أحكام القرآن في باب قوله عز وجل يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد الآية بعد كلام كثير يحتج فيه على [ ص: 194 ] من جعل السترة من فرائض الصلاة ( قال ( وهذا مما يبين لك أن لبس الثوب ليس من فرائض الصلاة ; لأن المفترض في الصلاة حركات البدن من حين يدخل في الصلاة إلى أن يخرج منها في تكبير أو قراءة أو ركوع أو سجود ، ولبس الثوب إنما يكون قبل أن يدخل في الصلاة ، ثم يبقى في الصلاة كما كان قبل أن يدخل ، وإنما هو زينة للإنسان وستر له في الصلاة وغيرها . قال : ولو كان الثوب من فروض الصلاة لوجب على الإنسان أن ينوي به الصلاة عند اللبس كما ينوي بتكبيرة الافتتاح ( الدخول ( في الصلاة ( هذا كله قول إسماعيل وإنما جلبناه لقوله : إن حركات البدن مفترضات في الصلاة ( ولم يستثن فيها شيئا .

[ ص: 195 ] وقد ذهبت فرقة إلى إيجاب الجلسة الوسطى فرضا ، ورأت الانصراف إليها ما لم يعمل المصلي بعدها من العمل ما يمنعه من الرجوع إليها ، وشذت في ذلك . وقولها عندي مردود بدليل السنة المذكورة في هذا الباب من حديث ابن بحينة والمغيرة بن شعبة .

وذهب ابن علية إلى أن الجلسة الآخرة من أركان الصلاة وليست بفرض ; قياسا على الجلسة الوسطى ، واحتج في الوسطى بحديث ابن بحينة وفي الآخرة بحديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : إذا رفع أحدكم رأسه من السجود الآخر فقد تمت صلاته ، وإن أحدث فقد أجزأته صلاته وهذا حديث لا يثبت من جهة النقل ، والناس على خلافه ، والجلسة الوسطى لا تخلو ( من ( أن تكون مخصوصة فلا يجوز القياس ( عليها ( أو تكون سنة فذلك أبعد من أن يقاس عليها الفرض . قد قامت [ ص: 196 ] الدلائل على فرض القيام والركوع والسجود من القرآن والسنة والإجماع ، وقد ذكرناها . وكل أعمال البدن قياسا على ذلك إلا ما خصته السنة من الجلسة الوسطى ، فلا وجه لقول ابن علية مع شذوذه أيضا فيه ( والقول ( بأن الجلسة الوسطى ليست من فرائض الصلاة أولى بالصواب ، والله أعلم . لأني رأيت الفرائض يستوي في تركها السهو والعمد إلا في المأثم . ألا ترى أنه تفسد صلاة من سها عن مسح رأسه ومن تعمد ذلك ، ومن سها عن سجدة ، ومن تعمد ذلك . وسائر الفرائض في الصلاة والطهارة على هذا إلا أن المتعمد آثم ، والساهي قد رفع الله عنه الإثم . فلو كانت الجلسة الوسطى فرضا للزم الساهي عنها ( الانصراف إليها ( والإتيان بها ولفسدت صلاته بترك الرجوع إليها والنبي صلى الله عليه وسلم قد سبح به لها فما انصرف إليها . وحسبك بهذا حجة لمن يعاند ، والله نسأله العصمة والتوفيق .

[ ص: 197 ] حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبيد الله بن عمر الجشمي ( ح ( وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا الحسن بن سلام السويقي ، قال : حدثنا زهير بن حرب ، قالا : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا المسعودي ، عن زياد بن علاقة ، قال : صلى بنا المغيرة بن شعبة ، فنهض في الركعتين ، فسبح به من خلفه فأشار أن قوموا . فلما أتم الصلاة .

وفي حديث أبي داود : فنهض إلى الركعتين فقلنا : سبحان الله . فقال : سبحان الله ومضى فلما أتم صلاته وسلم سجد السجدتين ، ثم قال : هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفي حديث أبي داود : سجد سجدتي السهو فلما انصرف قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع كما صنعت .

[ ص: 198 ] قال أبو داود : وكذلك رواه ابن أبي ليلى عن الشعبي عن المغيرة بن شعبة ( يرفعه ورواه أبو العميس عن ثابت بن عبيد قال : ( ( صلى بنا المغيرة بن شعبة مثل حديث زياد بن علاقة ، قال أبو داود : أبو عميس نضر المسعودي . وفعل سعد بن أبي وقاص مثل ما فعل المغيرة ( وعمران بن حصين والضحاك بن قيس ومعاوية بن أبي سفيان . وأفتى بذلك ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ، هذا كله قول أبي داود .

وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحسن بن سلام قال : حدثنا عبد الله بن موسى قال : حدثنا ابن أبي ليلى عن الشعبي عن المغيرة بن شعبة أنه قام في الركعتين فسبحوا به فمضى في صلاته ، فلما سجد [ ص: 199 ] سجدتي السهو ثم حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم فصنع مثل ذلك .

وقرأت على عبد الوارث بن سفيان ، أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا أبو قلابة ، قال : حدثنا بكر بن بكار ، قال : حدثنا علي بن مالك ، عن عامر الشعبي ، عن المغيرة بن شعبة ، أنه سها فقام في الركعتين الأوليين فسبحوا به فمضى ، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين بعد ما سلم ، ثم قال : هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبو معاوية محمد بن حازم ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن سعد بن أبي وقاص ، أنه نهض في الركعتين [ ص: 200 ] فسبحوا به فاستتم قائما ، ثم سجد سجدتي السهو حين انصرف ، ثم قال : كنتم تروني أجلس ، إنما صنعت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع .

قال أحمد بن زهير : وحدثنا أبي ، عن محمد بن عبيد ، عن إسماعيل ، عن قيس ، عن سعد ، موقوف . وقد سئل يحيى بن معين عن حديث أبي معاوية الضرير ، عن إسماعيل عن قيس ، عن سعد ، في القيام من الركعتين ، قال يحيى : خطأ ليس يرفع . قال أحمد بن زهير : وحدثنا أبو نعيم قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن بيان ، عن قيس ، قال : أمنا سعد فقام في الركعتين الأوليين ، فسبح به من خلفه فذكر الحديث موقوفا .

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا يونس بن محمد المؤدب قال : حدثنا ليث [ ص: 201 ] عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الرحمن بن شماسة حدثه ، أن عقبة بن عامر قام في صلاته وعليه جلوس ، فقال الناس : سبحان الله ( سبحان الله ( فعرف الذي يريدون ، فلما أتم صلاته سجد سجدتين وهو جالس ، ثم قال : إني سمعت قولكم ، وهذه السنة .

قال أبو عمر : ذكرنا هذه الآثار لما فيها من التسبيح بالساهي القائم من اثنتين ، وإعلامه بسهوه ذلك ، وإبايته من الانصراف . وذلك دليل على أن الجلسة الوسطى ليست من فرائض الصلاة ، وهذه الآثار موافقة لحديث ابن بحينة من وجه ، مخالفة له من آخر ; لأن فيها السجود بعد السلام ، وبهذه الآثار يحتج من رأى السجود بعد السلام في الزيادة والنقصان .

واختلف العلماء في سجود السهو ، فقال ابن شهاب الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، والشافعي : السجود كله قبل السلام . وروي هذا [ ص: 202 ] القول عن أبي هريرة ، وابن أبي السائب ، وعبد الله بن الزبير ، ومعاوية ، وابن عباس ، وبه قال مكحول .

والحجة لقائله : حديث عبد الله بن بحينة هذا من رواية ابن شهاب ، ويحيى بن سعيد ، عن الأعرج ، عن ابن أبي بحينة ، وهو أقوى إسنادا من حديث المغيرة وأثبت ، وحجتهم في الزيادة : حديث أبي سعيد الخدري ، وابن عباس وعبد الرحمن بن عوف ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في البناء على اليقين والسجود ( في ذلك قبل السلام ( وقد ذكرنا الحديث ( في ذلك في باب زيد بن أسلم ( .

حدثني خلف بن القاسم الحافظ ، قال : حدثني عبد الرحمن بن عمر بن راشد البجلي بدمشق قال : حدثنا أبو زرعة قال : حدثنا أبو مسهر عن محمد بن مهاجر ، عن أخيه عمرو بن مهاجر ، أن الزهري قال لعمر بن عبد العزيز : السجدتان قبل [ ص: 203 ] السلام . فقال عمر : أبى ذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن يا زهري .

وحدثنا خلف بن القاسم ، قال : حدثنا أبو ميمون عبد الرحمن بن عمر ، قال : حدثنا أبو زرعة ، قال : أخبرنا سعيد بن أبي مريم ، قال : أخبرني يحيى بن أيوب ، قال : أخبرني محمد بن عجلان ، أن ابن شهاب أخبره ، أن عمر بن عبد العزيز صلى للناس المغرب فسها ، فنهض في الركعتين فقال الناس : سبحان الله . فلم يجلس ، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين ثم انصرف فسأل ابن شهاب ، فقال : أصبت إن شاء الله ، والسنة على غير الذي صنعت . فقال له عمر : فكيف ؟ قال : تجعلهما قبل السلام . قال عمر : إني قلت : إنه دخل علي ولم يدخل عليهم . قال ابن شهاب : ما دخل عليك دخل عليهم .

وقال سفيان الثوري والحسن بن صالح وأبو حنيفة وأصحابه : [ ص: 204 ] السجود كله بعد السلام . وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود ، وسعد بن أبي وقاص ، وعمار بن ياسر ، والضحاك بن قيس ، وعمران بن حصين ، واختلف في ذلك عن معاوية بن أبي سفيان ، وعن ابن عباس وعن ابن الزبير ، وبه قال الحسن البصري ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وعمر بن عبد العزيز ، وإبراهيم النخعي ، وابن أبي ليلى ، ويجزيه عند أبي حنيفة وأصحابه أن يسجدهما قبل السلام .

وقال مالك وأصحابه : كل سهو كان نقصانا في الصلاة فسجوده قبل السلام على حديث ابن بحينة ، وكل سهو هو زيادة في الصلاة فالسجود فيه بعد السلام ( ( على حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين وبهذا قال أبو ثور .

[ ص: 205 ] وقال إسحاق : كل موضع ليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ، فإنه يسجد فيه في الزيادة بعد السلام ، وفي النقصان قبل السلام .

فلا خلاف عن مالك أن السهو إذا اجتمع فيه زيادة ونقصان أن السجود له قبل السلام . وقال أحمد بن حنبل : سجود السهو على ما جاءت به الأخبار إذا نهض من اثنتين سجدهما قبل السلام على حديث ابن بحينة .

قال أبو عمر : هذا يدلك على أن حديث ابن بحينة أصح عند أحمد بن حنبل - وهو إمام أهل الحديث - من حديث المغيرة بن شعبة على ما ذكرت لك . قال أحمد بن حنبل : وإذا شك فرجع إلى اليقين سجدهما قبل السلام أيضا ، على حديث أبي سعيد الخدري . قال : وإذا سلم من اثنتين سجدهما بعد السلام ، على حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين . قال : وإذا شك فكان [ ص: 206 ] ممن يرجع إلى التحري سجدهما بعد السلام على حديث ابن مسعود . قال : وكل سهو يدخل عليه سواء ما ذكرنا يسجد له قبل السلام . وبهذا كله من قول أحمد قال سليمان بن داود وأبو خيثمة .

قال أبو عمر : قد روى خصيف عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يشك فلا يدري كم صلى ، أنه يبني على أكثر ظنه ، ويسجد قبل السلام . ذكره النسائي عن عمرو بن هشام عن محمد بن سلمة عن خصيف ، وهو خلاف لأحمد بن حنبل وهو موافق لحديث أبي سعيد الخدري ، وقد تقدم في باب زيد بن أسلم القول في التحري وفي البناء على اليقين ، وهما عندنا شيء واحد ، وبالله التوفيق .

[ ص: 207 ] وقال داود : لا يسجد أحد للسهو إلا في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم والسجود عنده في القيام من اثنتين بعد السلام ، على حديث المغيرة بن شعبة ، وزعم أنه زاد على حديث ابن بحينة زيادة يجب قبولها ، وحجته حديث علقمة عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ، فإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فإذا سلم فليسجد سجدتين وقد أوضحنا الحجة لهذه الأقوال من جهة النظر في باب زيد بن أسلم ، والحمد لله .

واختلفوا في التشهد في سجدتي السهو والسلام منهما ، فقالت طائفة : لا تشهد فيهما ولا تسليم . وروي ذلك عن أنس بن مالك والحسن البصري ورواية عن عطاء وهو قول الأوزاعي [ ص: 208 ] والشافعي ; لأن السجود كله عندهما قبل السلام ، فلا وجه لإعادة التشهد عندهما ، وقد روي عن عطاء : إن شاء تشهد وسلم وإن شاء لم يفعل .

وقال آخرون : يتشهد فيهما لا يسلم . قاله يزيد بن قسيط ، ورواية عن الحكم وحماد والنخعي وقتادة والحكم ، وبه قال مالك وأكثر أصحابه : والليث بن سعد ( والثوري ( وأبو حنيفة وأصحابه .

وقال أحمد بن حنبل : إن سجد قبل السلام لم يتشهد وإن سجد بعد السلام تشهد . وبهذا قال جماعة من أصحاب مالك . وروي أيضا عن مالك .

وقال ابن سيرين : يسلم منهما ولا يتشهد فيهما .

قال أبو عمر : من رأى السلام فيهما ، فعلى أصله في التسليمة الواحدة والتسليمتين ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سلم في سجدتي السهو من حديث عمران بن حصين ، وهو [ ص: 209 ] حديث ثابت في السجود بعد السلام . ومن رأى السجود كله قبل السلام فلا يحتاج إلى هذا لأن السلام من الصلاة هو السلام على ما في حديث ابن بحينة هذا ، وأما التشهد في سجدتي السهو فلا أحفظه من وجه صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما التكبير في الخفض والرفع في سجدتي السهو فمحفوظ ثابت في حديث ابن بحينة وغيره من رواية ابن شهاب وغيره : حدثني محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا أحمد بن عمرو قال : أنبأنا ابن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث ويونس بن يزيد أن ابن شهاب أخبرهم عن عبد الرحمن الأعرج أن عبد الله بن بحينة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في اثنتين من الظهر فلم يجلس فلما قضى صلاته سجد [ ص: 210 ] في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم وسجدهما الناس معه لمكان ما نسي من الجلوس .

وحدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عمرو بن عثمان قال : حدثنا أبي وبقية قالا : حدثنا شعيب عن الزهري عن عبد الرحمن الأعرج عن عبد الله بن بحينة مثل حديث مالك ، وزاد : فكان منا التشهد في قيامه : من نسي أن يتشهد وهو جالس .

حدثني أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا الحكم بن موسى قال : حدثنا هقل عن الأوزاعي قال : حدثني الزهري قال : حدثني ابن هرمز قال : حدثني عبد الله بن بحينة [ ص: 211 ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهى عن قعود قام منه فلما فرغ وانتظر سلامه كبر فسجد ثم كبر فرفع رأسه ثم كبر فسجد ثم كبر فرفع رأسه ثم سلم لم يذكر ابن عيينة : " كبر " .

وأما اختلاف العلماء في حكم الجلوس الأخير في الصلاة : فأما الفرض في ذلك فعلى خمسة أقوال ، أحدها أن الجلسة الأخيرة فرض والسلام فرض . وحكى مثل هذا الصعب في مختصره عن مالك وأهل المدينة وممن قال ذلك الشافعي وأبو داود وأحمد بن حنبل في رواية ، وحجتهم أن بيانه صلى الله عليه وسلم فرض ; لأن أصل فرضها مجمل يفتقر إلى البيان ، فكل عمله فيها فرض إلا ما خرج بدليل سنة أو إجماع ، واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم : صلوا كما رأيتموني أصلي وبأشياء يطول ذكرها ، منها حديث علي [ ص: 212 ] ابن طلق عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا نسي أحدكم في الصلاة فلينصرف وليتوضأ وليعد الصلاة قالوا : وما لم يسلم فهو في الصلاة ; لأن المصلي لا يتحلل منها بغير السلام .

والقول الثاني أن الجلوس فيها فرض والسلام فرض ، وليس التشهد بواجب . وممن قال ذلك مالك وأصحابه ، وأحمد في رواية ، وحجتهم أن عمل البدن كله فرض للإجماع على فرض القيام والركوع والسجود ، فكذلك كل عمل البدن إلا ما خرج بدليل ، وهي الجلسة الوسطى ، وحجتهم أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج قط من صلاته إلا بالتسليم . وقال : تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ، وقام من اثنتين ولم يتشهد ، فسقط التشهد لذلك ، ولأنه ذكر ولا شيء من الذكر واجب غير قراءة أم القرآن وتكبيرة الإحرام والسلام .

والقول الثالث أن الجلوس مقدار التشهد فرض ، وليس التشهد ولا السلام بواجب فرضا . وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين .

[ ص: 213 ] واحتجوا له بنحو ما تقدم في بيان مجمل الصلاة وعمل البدن بحديث عبد الرحمن بن زياد بن الأنعم وهو الإفريقي أن عبد الرحمن بن رافع وبكر بن سوادة حدثاه عند عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أحدث الرجل وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم فقد تمت صلاته هكذا رواه ابن المبارك عن الإفريقي .

[ ص: 214 ] والقول الرابع أن الجلوس والتشهد واجبان ، وليس السلام بواجب . قاله جماعة ، منهم إسحاق بن راهويه ، واحتج بحديث ابن مسعود حين علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وقال : إذا فرغت من هذا فقد تمت صلاتك وقضيت ما عليك .

والقول الخامس أن ليس الجلوس منها ولا التشهد ولا السلام بواجب . إنما ذلك كله سنة مسنونة . هذا قول بعض البصريين وإليه ذهب ابن علية وصرح بقياس الجلسة الأخيرة على الأولى فخالف الجمهور وشذ ، إلا أنه يرى الإعادة على من ترك شيئا من ذلك كله .

واحتج برواية من روى في حديث الإفريقي المذكور : إذا رفع رأسه فأحدث فقد تمت صلاته ولم يذكر جلوسا ، وهذا حديث لا يصح لضعف سنده واختلافهم في لفظه ، وبالله التوفيق .

وقد ذكرنا اختلاف العلماء في كيفية السلام ووجوبه في باب ابن شهاب عن أبي بكر بن أبي حثمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية