التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
34 ( حديث ثان لابن شهاب ، عن أبي إدريس الخولاني ) .

مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من توضأ فليستنثر ، ومن استجمر فليوتر .


قال أبو عمر :

لا يصح عن مالك ، ولا عن ابن شهاب في هذا الحديث غير هذا الإسناد ، وقد وهم فيه عثمان الطرايفي ، عن مالك . أخبرنا محمد حدثنا علي بن عمر ، حدثنا أبو محمد الحسين بن أحمد بن صالح ، حدثنا عبد الله بن محمد بن ناجية ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن المفضل ، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن ، حدثنا [ ص: 13 ] مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من توضأ فليستنثر ، ومن استجمر فليوتر .

قال أبو الحسن علي بن عمر : هذا وهم ، ولا يصح فيه عن مالك ولا عن الزهري غير حديث أبي إدريس الخولاني ، وقد رواه أسيد بن عاصم ، عن بشر بن عمر ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك أيضا خطأ ، والصواب ما في الموطأ .

وقد مضى القول في الاستنثار ، وحكمه ، وما للعلماء في ذلك من الأقوال في باب حديث زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن الصنابحي ، وأما الاستجمار فهو الاستطابة بالأحجار ، ومعناه إزالة الأذى من المخرج بالأحجار قال ابن الأنباري : معنى الاستجمار التمسح بالأحجار ، والجمار عند العرب : الحجارة الصغار ، وبه سميت جمار مكة قال : ومنه الحديث الذي يروى : إذا توضأت فانثر ، وإذا استجمرت فأوتر .

قال أبو عمر :

هذا اللفظ يرويه منصور ، عن هلال بن يساف ، عن سلمة بن قيس الأشجعي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ابن الأنباري : ومعنى الوتر عندهم أن يوتر من الجمار ، وهي الحجارة [ ص: 14 ] الصغار يقال : قد جمر الرجل يجمر تجميرا ، إذا رمى جمار مكة قال عمر بن أبي ربيعة :


فلم أر كالتجمير منظر ناظر ولا كليالي الحج أفلتن ذا هوى

أفلتن : يعني أهلكن ، والفلت بفتح اللام : الهلاك ، ومنه قيل : المسافر على فلت إلا ما وقى الله منه .

قال أبو عمر :

ويروى أفتن ذا هوى ، ويفتن ذا هوى ، وهذا شعر عرضت فيه قصة طريفة لعمر بن أبي ربيعة مع سليمان بن عبد الملك ، وهي حكاية عجيبة حدثنيها عبد الله بن محمد بن يوسف قال : أنبأنا العاندي قال : أنبأنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني قال : حدثنا أبو العباس أحمد بن عبد الله بن بكر بن عمار الثقفي البغدادي قال : حدثني عبد الرحمن بن عبد الله الكوفي ، عن مصعب الزبيري ، عن الضحاك بن عثمان أن سليمان بن عبد الملك حج في خلافته فأرسل إلى عمر بن أبي ربيعة فأتاه فقال له : أنت القائل :


وكم من قتيل لا يباء به دم     ومن غلق رهنا إذا ضمه منى
ومن مالئ عينيه من شيء غيره     إذا راح نحو الجمرة البيض كالدما
يسحبن أذيال المروط بأسوق      ( خوال إذا أولين أعجازها روا ؟ )
أوانس يسلبن الحليم فؤاده     فيا طول ما شوق ويا حسن مجتلا
فلم أر كالتجمير منظر ناظر     ولا كليالي الحج أفلتن ذا هوى

[ ص: 15 ] ( قال : نعم قال : لا جرم ، والله لا تشهد الحج مع الناس العام ، وأخرجه إلى الطائف ) .

وذكر هذا الخبر محمد بن خلف أنبأنا وكيع قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا مصعب بن عبد الله قال : حج سليمان بن عبد الملك ، وهو خليفة فأرسل إلى عمر بن أبي ربيعة فقال له : ألست القائل :


فكم من قتيل لا يباء به دم     ومن غلق رهنا إذا ضمه منى

فذكر الأبيات ، والخبر سواء إلا أنه قال :


يسجن أذيال المروط بأسوق      ( خدال وأعجاز مئاكمها روى )

، ولم يذكر الضحاك بن عثمان .

وعرضت له فيه أيضا مع عمر بن عبد العزيز قصة يليق بأهل الدين الوقوف عليها ، ذكر الزبير بن بكار قال : حدثني محمد بن كناسة ، ‌‌عن أبي بكر بن عياش أن عمر بن أبي ربيعة قال هذا الشعر في أم عمر بنت مروان في خبر ذكره قال الزبير : وحدثني مصعب بن عثمان أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة لم يكن له هم إلا عمر بن أبي ربيعة ، والأحوص ، فكتب إلى عامله بالمدينة : إني قد عرفت عمر ، والأحوص بالخبث والشر ، فإذا أتاك كتابي هذا فاشددهما ، واحملهما إلي ، فلما أتاه الكتاب حملهما إليه ، فأقبل على عمر ثم قال : هيه ؟


فلم أر كالتجمير منظر ناظر     ولا كليالي الحج أفلتن ذا هوى
ومن مالئ عينيه من شيء غيره     إذا راح نحو الجمرة البيض كالدما

[ ص: 16 ] أما والله لو اهتممت بحجك لم تنظر إلى شيء غيرك ، فإذا لم يفلت الناس منك في هذه الأيام فمتى يفلتون ثم أمر بنفيه فقال : يا أمير المؤمنين أوخير من ذلك ؟ قال : ما هو ؟ قال : أعاهد الله عز وجل على أن لا أعود لمثل هذا الشعر ، ولا أذكر النساء في شعر أبدا ، وأجدد توبة على يديك قال : أوتفعل ؟ قال : نعم ، فعاهد الله على توبته ، وخلاه ثم دعا الأحوص فقال : هيه


الله بيني وبين قيمها     يهرب مني بها وأتبع

بل الله بين قيمها ، وبينك ثم أمر بنفيه ، فكلمه فيه رجال من الأنصار فأبى ، وقال : والله لا أرده ما دام لي سلطان ; فإنه فاسق مجاهر ، والتجمير أيضا في لسان العرب : أن يرمى بالجند في ثغر من ثغور المسلمين ثم لا يؤذن لهم في الرجوع قال حميد الأرقط :


فاليوم لا ظلم ولا تجمير     ولا لغاز إن غزا تجمير

وقال بعض الغزاة المجمرين :


معاوي إما أن تجمر أهلنا     إلينا وإما أن نؤب معاويا
أجمرتنا إجمار كسرى جنوده     ومنيتنا حتى مللنا الأمانيا

واختلف العلماء في إزالة الأذى من المخرج بالماء أو بالأحجار ، هل هو فرض واجب ، أم سنة مسنونة ؟ فذهب مالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما إلى أن ذلك ليس بواجب فرضا ، وإنه سنة لا ينبغي تركها ، وتاركهما عمدا مسيء ، فإن صلى كذلك فلا إعادة [ ص: 17 ] عليه ، إلا أن مالكا يستحب له الإعادة في الوقت ، وعلى ذلك أصحابه ، والإعادة في الوقت ليست بواجبة عنده ، ولا عند كل من قال كقوله ، وإنما هو استدراك لما فاته من السنة في الوقت ، ولو وجب في السنن أن تعاد بعد الوقت لكانت كالفرائض في وجوبها .

وقال الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأبو ثور ، والطبري : الاستنجاء واجب لا تجزئ صلاة من صلى دون أن يستنجي بالأحجار أو بالماء ، وموضع المخرج مخصوص عند الجميع بالأحجار ، وأما سائر البدن والثياب فلا مدخل للأحجار فيها ، ويجوز عند مالك ، وأبي حنيفة ، وأصحابه الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار إذا ذهب النجس ; لأن الوتر يقع على الواحد فما فوقه ، والوتر عندهم مستحب ، وليس بواجب ، وإذا كان الاستنجاء عندهم ليس بواجب ، فالوتر فيه أحرى بأن لا يكون واجبا ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك : من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج .

وحدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا عيسى بن يونس ، عن ثور بن يزيد ، عن الحصين الحرابي ، عن أبي سعيد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من [ ص: 18 ] استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج الحديث .

وقال الشافعي : لا يجوز أن يقتصر على أقل من ثلاثة أحجار ، وهو قول أحمد بن حنبل ، وإلى هذا ذهب أبو الفرج المالكي ، ومن الحجة لهذا القول : ما حدثناه محمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أنبأنا إسحاق بن إبراهيم قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن سلمان قال : قال له رجل : إن صاحبكم ليعلمكم حتى الخراءة قال : أجل نهانا أن نستقبل القبلة لغائط ، أو بول ، أو نستنجي بأيماننا ، ونكتفي بأقل من ثلاثة أحجار قال : وأخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن محمد بن عجلان قال : أخبرنا القعقاع ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أنا لكم مثل الوالد أعلمكم ، فإذا ذهب أحدكم إلى الخلاء فلا يستقبل القبلة ، ولا يستدبرها ، ولا يستنجي بيمينه ، وكان يأمر بثلاثة أحجار ، وينهى ، عن الروث ، والرمة .

وقال مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم : كل ما قام مقام الأحجار من سائر الأشياء الطاهرة ، فجائز أن يستنجى به ما لم يكن مأكولا .

وقال الطبري : كل طاهر وكل نجس أزال النجس أجزأ ، وقال داود ، وأهل الظاهر : لا يجوز الاستنجاء بغير الأحجار الطاهرة ، [ ص: 19 ] والأحجار عندهم مخصوصة بتطهير المخرج كما أن المخرج مخصوص بأن يطهر بالأحجار فيجزئ فيه عن الماء دون ما عداه .

وقال مالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما : إن استنجى بعظم أجزأه ، وبئس ما صنع .

وقال الشافعي : لا يجزئ ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى ، عن الروث ، والرمة ، ونهى أن يستنجى بعظم ، والرمة : العظام ، فلما طابق النهي لم يجز .

وذكر أبو داود ، عن أحمد بن حنبل قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا زكرياء بن إسحاق حدثنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتمسح بعظم أو بعر .

ولا فرق عند مالك ، وأبي حنيفة ، وأصحابهما في مخرج البول والغائط بين المعتادات ، وغير المعتادات أن الحجارة تجزئ فيها في السبيلين جميعا ، وهو المشهور من قول الشافعي .

وقد روي عن الشافعي : أنه لا يجزئ فيما عدا الغائط والبول إلا الماء قال : وكذلك ما عدا المخرج وما حوله مما يمكن التحفظ منه فإنه ، لا يجزئ فيه الأحجار ، ولا يجزئ فيه إلا الماء ، وسيأتي القول في المذي ، وحكم غسل الذكر منه في باب أبي النضر إن شاء الله .

[ ص: 20 ] وعند أصحاب مالك أن ما حول المخرج مما لا بد منه في الأغلب والعادة لا يجزئ فيه إلا الماء ، وهكذا حكى ابن خويز منداد عنهم .

وقد قالت طائفة : إن الأحجار تجزئ في مثل ذلك ، لأن مالا يمكن التحفظ منه من الشرج حكمه حكم المخرج ، قال : واختلف أصحاب الشافعي فقالوا مرة : يجزئ فيه مثل قولنا ، وأما أبو حنيفة ، وأصحابه ، فعلى أصلهم أن النجاسة إذا لم تكن رطبة تزول بكل ما أزال عينها وأذهبها غير الماء ، وقدر الدرهم معفو عنه أصلا عند جميع العراقيين .

وقال داود : النجاسة لا يزيلها إلا الماء ، وإذا زالت بأي وجه زالت أجزأ ، ولا يحد قدر الدرهم .

قال مالك : تجوز الصلاة بالاستنجاء بالأحجار والماء أحب إليه ، ويغسل ما هنالك فيما يستقبل .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : يستنجي بثلاثة أحجار ، فإن لم تنق زاد حتى ينقى ، وإن أنقاه حجر واحد أجزأه ، وكذلك غسله بالماء إن أنقاه بغسلة واحدة ، وذلك في المخرج ، وما عدا المخرج فإنما يغسل بالماء ، وهذا كله قول مالك ، وأصحابه .

وقال الأوزاعي : يجوز ثلاثة أحجار ، والماء أطهر .

[ ص: 21 ] وقال الشافعي : يجوز بالأحجار ما لم يعد المخرج ، فإن عدا المخرج لم يجز إلا الماء ، والمهاجرون كانوا لا يستنجون بالماء ، وهو قول سعيد بن المسيب .

وروي عن حذيفة أنه سئل عن الاستنجاء بالماء فقال : إذا لا تزال يدي في نتن .

وأما الأنصار فكانوا يتبعون الأحجار بالماء ، وأثنى الله عز وجل بذلك على أهل قباء .

والماء عند فقهاء الأمصار أطهر ، وأطيب ، والأحجار رخصة تجزئ ، ومن العلماء من جعل الاستنجاء واجبا ، وسائر العلماء يستحبون الوتر ، وقد روى ثور بن يزيد الشامي ، عن الحصين الجواني ، عن أبي معبد ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من اكتحل فليوتر ، من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج ، ومن استجمر فليوتر ، ومن فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج ، وذكر الحديث .

وهو حديث ليس بالقوي ; لأن إسناده ليس بالقائم ، فيه مجهولون ذكره أبو داود ، عن إبراهيم بن موسى الرازي ، عن عيسى بن يونس ، عن ثور ، وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن [ ص: 22 ] قال : حدثنا محمد بن بكر التمار قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن العلاء قال : حدثنا معاوية بن هشام ، عن يونس بن الحارث ، عن إبراهيم بن أبي ميمونة ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نزلت هذه الآية في أهل قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين قال : وكانوا يستنجون بالماء .

التالي السابق


الخدمات العلمية