التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
336 ( ابن شهاب ، عن رجل من آل خالد بن أسيد : حديث واحد )

مالك ، عن ابن شهاب ، عن رجل من آل خالد بن أسيد أنه سأل عبد الله بن عمر فقال : يا أبا عبد الرحمن إنا نجد صلاة الخوف ، وصلاة الحضر في القرآن ، ولا نجد صلاة السفر ؟ ، فقال ابن عمر : يا ابن أخي إن الله بعث إلينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، ولا نعلم شيئا فإنما نفعل كما رأيناه يفعل .


هكذا رواه جماعة الرواة ، عن مالك ، ولم يقم مالك إسناد هذا الحديث أيضا ; لأنه لم يسم الرجل الذي سأل ابن عمر ، وأسقط من الإسناد رجلا ، والرجل الذي لم يسمه هو أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف .

وهذا الحديث يرويه ابن شهاب ، عن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن عبد الله بن أسيد ، عن ابن عمر .

[ ص: 162 ] كذلك رواه معمر بن سعد ، ويونس بن يزيد من غير رواية ابن وهب .

وقال ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن عبد الملك بن أبي بكر ، عن أمية بن عبد الله بن خالد ، فجعل موضع عبد الله بن أبي بكر عبد الملك بن أبي بكر فغلط ، ووهم .

ولابن شهاب ، عن عبد الملك بن أبي بكر غير هذا الحديث روي عنه ، عن أبي هريرة قوله : إني لأصلي في الثوب الواحد ، وإن ثيابي لعلى المشجب ، ورواية ابن شهاب ، عن أبيهما لا تجهل .

فأما حديث معمر فذكر عبد الرزاق قال : أنبأنا معمر ، عن الزهري ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عبد الرحمن بن أمية بن عبد الله أنه قال لابن عمر : هذه صلاة الخوف ، وصلاة الحضر في القرآن ، ولا نجد صلاة المسافر ، فقال ابن عمر : بعث الله إلينا نبيه عليه الصلاة والسلام ، ونحن أجفا الناس ، نصنع كما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

هكذا في كتاب عبد الرزاق عبد الله بن أبي بكر ، عن عبد الرحمن بن أمية ، وإنما هو عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أمية بن عبد الله ، وهو من غلط الكاتب - والله أعلم - .

[ ص: 163 ] وإنما قلنا إن ذلك في كتاب عبد الرزاق ; لأنا وجدناه في كتاب الدبري ، وغيره عنه كذلك .

وكذلك ذكره الذهلي محمد بن يحيى ، وقال : لا أدري هذا الوهم أمن معمر جاء أم من عبد الرزاق ؟

قال أبو عمر :

هو عندي من كتاب عبد الرزاق - والله أعلم - .

وأخبرنا عبد الرحمن بن يحيى قال : حدثنا أحمد بن سعيد قال : حدثنا محمد بن زبان قال : حدثنا محمد بن رمح قال : أنبأنا الليث بن سعد قال : أنبأنا ابن شهاب ، عن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه قال لعبد الله بن عمر : إنا نجد صلاة الحضر ، وصلاة الخوف في القرآن ، ولا نجد صلاة السفر ، فقال ابن عمر : إن الله تعالى بعث إلينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، ونحن لا نعلم شيئا ، فإنما نفعل كما رأيناه يفعل .

وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا مطلب بن شعيب قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني الليث قال : حدثني يونس ، عن ابن شهاب أن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد أخبره : أنه سأل عبد الله بن عمر فذكره .

[ ص: 164 ] وذكر النيسابوري قال : حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد مولى الحطة قال : حدثني أبي ، عن يونس ، عن ابن شهاب قال : أخبرني عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد أخبره أنه سأل عبد الله بن عمر بهذا الخبر .

قال أبو عمر :

أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد كان عاملا لعبد الملك بن مروان على خراسان ، وله إخوة كثيرة ذكرهم أهل النسب ، ومن أعمامه من يسمى أمية بن خالد ، ولخالد بن أسيد جده بنون كثير أيضا أسنهم عبد الرحمن بن خالد .

في هذا الحديث من الفقه أن قصر الصلاة في السفر من غير خوف سنة لا فريضة ; لأنها لا ذكر لها في القرآن ، وإنما القصر المذكور في القرآن إذا كان سفرا ، وخوفا ، واجتمعا جميعا ; قال الله عز وجل ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) فلم يبح القصر إلا مع هذين الشرطين ، ومثله في القرآن قوله عز وجل ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ) يعني الحرائر فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المومنات إلى قوله ( ذلك لمن خشي العنت منكم ) فلم يبح نكاح الإماء إلا بعدم [ ص: 165 ] الطول إلى الحرة ، وخوف العنت جميعا ثم قال عز وجل ( فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة ) أي فأتموا الصلاة فهذه صلاة الحضر ، وقد تقدمت صلاة الخوف مع السفر ، وقد نص عليهما جميعا القرآن .

وقصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة من أربع إلى اثنتين إلا المغرب في أسفاره كلها آمنا لا يخاف إلا الله تعالى .

فكان ذلك منه سنة مسنونة - صلى الله عليه وسلم - زيادة منه في أحكام الله كسائر ما سنه وبينه مما ليس له في القرآن ذكر مما لو ذكرنا بعضه لطال الكتاب بذكره ، وهو ثابت عند أهل العلم أشهر من أن يحتاج فيه إلى القول في غير موضعه .

فحديث ابن عمر في هذا الباب قوله : إنما نفعل كما رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ، مع حديث عمر : حيث سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، عن القصر في السفر من غير خوف فقال له : تلك صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم ، فاقبلوا صدقته يدلان على أن الله عز وجل قد يبيح في كتابه الشيء بشرط ثم يبيح ذلك الشيء على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بغير ذلك الشرط ، ألا ترى أن القرآن إنما أباح القصر لمن كان خائفا ضاربا في الأرض ، وأباحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آمنا .

والدليل على أن قصر الصلاة في السفر من غير خوف سنة مسنونة مع ما تقدم من حديث هذا الباب ، ما حدثنا عبد الله بن [ ص: 166 ] محمد بن أبي بكر حدثنا أبو داود حدثنا أحمد بن حنبل ، ومسدد قالا : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج قال : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار ، عن عبد الله بن بابيه ، عن يعلى بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب : إقصار الناس الصلاة اليوم ، وإنما قال الله عز وجل ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) فقد ذهب ذلك ، فقال : عجبت مما عجبت منه ، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته .

قال أبو داود ، وحدثنا خشيش بن أصرم حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن جريج فذكر بإسناده مثله قال علي بن المديني : عبد الرحمن بن أبي عمار ، وعبد الله بن بابيه مكيان ثقتان .

قال أبو عمر :

اختلف على عبد الرزاق في اسم ابن أبي عمار ، فروى عنه خشيش بن أصرم أنه قال فيه كما قال يحيى بن سعيد القطان عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار فيما ذكر أبو داود .

وقد روي عن عبد الرزاق أنه قال فيه ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن أبي عمار ، ولذلك قال فيه محمد بن بكر البرساتي ، وأبو عاصم النبيل ، وحماد بن مسعدة ، عن ابن جريج قال : سمعت عبد الله بن أبي عمار ، وقال فيه ابن إدريس ، وأبو إسحاق الفزاري ، عن ابن أبي عمار لم يقل عبد الله ، ولا عبد الرحمن .

[ ص: 167 ] ورواه الشافعي ، عن عبد المجيد بن عبد العزيز ، عن ابن جريج قال : حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار كما قال يحيى القطان ، وهو الصواب إن شاء الله لا شك فيه .

فروي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار بن جريج وغيره .

وأما أبوه عبد الله بن أبي عمار فروى عنه ابن أبي مليكة ، وعكرمة بن خالد ، ويوسف بن ماهر ، ويروى هذا عن عمر بن الخطاب ، ومعاذ بن جبل ، وأما عبد الله بن بابيه ، ويقال ابن باباه ، ويقال ابن بابي ، فرجل مكي أيضا مولى آل حجير بن أبي إهاب ، يروي عن جبير بن مطعم ، وابن عمر ، وعبد الله بن عمرو ، روى عنه عمرو بن دينار ، وأبو الزبير ، وابن نجيح ، وكلهم ثقات .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي أبو إسماعيل قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا مالك بن مغول ، عن أبي حنظلة قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتين ، فقلت : وأين قوله ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) ونحن آمنون فقال : سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

فهذا ابن عمر قد أطلق عليها سنة ، وكذلك قال ابن عباس ، فأين المذهب عنهما ؟

حدثنا قاسم بن محمد قال : حدثنا خالد بن سعد قال : حدثنا أحمد بن عمر قال : حدثنا محمد بن سنجر قال : حدثنا [ ص: 168 ] هشام بن عبد الملك ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن موسى بن سلمة قال : سألت ابن عباس قال : قلت أكون بمكة فكيف أصلي ؟ قال : ركعتين سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - .

وأخبرنا عبد الرحمن بن أبان قال : حدثنا محمد بن يحيى بن عبد العزيز قال : حدثنا أحمد بن خالد ، وحدثنا خلف بن سعيد قال : حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا أحمد بن خالد قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال : أنبأنا عبد الرزاق قال : أنبأنا ابن جريج قال : سأل حميد الضمري ابن عباس فقال : إني أسافر أفأقصر الصلاة في السفر أم أتمها ؟ فقال ابن عباس : ليس بقصرها ، ولكنه تمامها ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آمنا لا يخاف إلا الله ، فصلى ركعتين حتى رجع ، ثم خرج أبو بكر آمنا لا يخاف إلا الله فصلى ركعتين حتى رجع ، ثم خرج عمر آمنا لا يخاف إلا الله فصلى اثنتين حتى رجع ، ثم فعل ذلك عثمان ثلثي إمارته أو شطرها ، ثم صلاها أربعا ، ثم أخذ بها بنو أمية .

قال ابن جريج ، وبلغني أنه إنما أوفاها عثمان أربعا بمنى فقط من أجل أن أعرابيا ناداه في مسجد الخيف بمنى فقال : يا أمير المومنين ما زلت أصليهما ركعتين منذ رأيتك عام الأول ، فخشي عثمان أن يظن جهال الناس أنما الصلاة ركعتان .

قال عبد الرزاق : وأخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر قال : صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 169 ] بمنى ركعتين ، ومع أبي بكر ركعتين ، ومع عمر ركعتين ، ومع عثمان صدرا من خلافته ، ثم صلاها أربعا قال الزهري : فبلغني أن عثمان إنما صلاها أربعا ; لأنه أزمع أن يعتمر بعد الحج .

قال : وأخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسافر من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا الله ، فيصلي ركعتين ركعتين .

قال : وأخبرنا هشام بن حسان ، عن ابن سيرين ، عن ابن عباس مثله ، وقال الأثرم ، عن أحمد بن حنبل قال : زعموا أن عثمان إنما أتم في سفره ; لأنه تزوج بمنى فصلى أربعا .

قال : وابن عباس يقول : إذا قدمت على أهلك أو ماشية لك فأتم الصلاة ، قال : وقال بعض الناس : لا إنما صلى خلفه أعرابي ركعتين ، فجعل يصلي أبدا ركعتين ، فبلغه ذلك ، فصلى أربعا ليعرف الناس كيف الصلاة .

قال الأثرم : وحدثنا عفان قال : حدثنا حماد بن سلمة قال : حدثنا أيوب ، عن الزهري : أن عثمان أتم الصلاة ; لأن الأعراب حجوا ، فأراد أن يعلمهم أن الصلاة أربع .

حدثنا قاسم بن محمد قال : حدثنا خالد بن سعد قال : حدثنا أحمد بن عمرو قال : حدثنا محمد بن سنجر قال : حدثنا الفضل بن دكين قال : حدثنا شريك ، عن جابر ، عن عامر ، عن ابن عباس ، وابن عمر قالا : سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ، وهما تمام وقالا : الوتر في السفر من السنة .

[ ص: 170 ] قال : وحدثنا ابن جريج ، عن عطاء قال : قلت له فيما جعل القصر ، وقد أمن الناس ؟ يعني : فما لهم يقصرون آمنين ؟ قال : السنة قلت : رخصة قال : نعم .

قال : وقال لي عمرو بن دينار : أما قوله ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) فإنما ذلك إذا خافوا ، وسن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الركعتين فهما وفاء ، وليس بقصر .

فهذا عطاء بن أبي رباح يصرح بأنهما سنة ، وعمرو بن دينار مثله ، وكذلك قال القاسم بن محمد : حدثني عبد الرحمن بن يحيى قال : حدثنا علي بن محمد قال : حدثنا أحمد بن داود قال : حدثنا سحنون قال : أنبأنا ابن وهب قال : أنبأنا ابن لهيعة ، عن بكير بن الأشج ، وعثمان ، عن القاسم بن محمد : أن رجلا قال : عجبت من عائشة حين كانت تصلي أربعا في السفر ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين ، فقال له القاسم بن محمد : عليك بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من الناس من لا يعاب .

قال أبو عمر :

قول القاسم هذا في عائشة يشبه قول سعيد بن المسيب حيث قال ليس من عالم ، ولا شريف ، ولا ذو فضل إلا وفيه عيب ، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه ، ومن كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله .

[ ص: 171 ] قال أبو عمر :

وقد قال قوم في إتمام عائشة أقاويل ليس منها شيء يروى عنها ، وإنما هي ظنون ، وتأويلات لا يصحبها دليل .

قال ابن شهاب : تأولت ما تأول عثمان ، وهذا ليس بجواب موعب ، وأضعف ما قيل في ذلك : إنها أم المؤمنين ، وإن الناس حيث كانوا بنوها ، وكان منازلهم منازلها ، وهذا أبعد ما قيل في ذلك من الصواب ، وهل كانت أما للمؤمنين ، إلا أنها زوج أبي المؤمنين - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الذي سن الغزو في أسفاره في غزواته وحجه وعمره - صلى الله عليه وسلم - .

وفي قراءة أبي بن كعب ، ومصحفه ، " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم " ، وهو أب لهم .

أخبرني خلف بن القاسم قال : حدثنا أحمد بن صالح بن عمر المقرئ حدثنا أحمد بن جعفر المنادي حدثنا العباس بن محمد بن حاتم الدوري حدثنا عبد الرحمن بن مصعب أبو يزيد القطان قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله عز وجل ( هؤلاء بناتي ) قال : كل نبي أبو أمته .

وذكر الفريابي ، عن سفيان ، عن طلحة ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أنه كان يقرأ هذه الآية ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) ، وهو أب لهم ، وأزواجه أمهاتهم .

وأخبرنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا ابن وضاح حدثنا موسى بن معاوية حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) قال : لم يكن بناته ، ولكن نساء أمته ، وكل نبي هو أبو أمته .

[ ص: 172 ] وأحسن ما قيل في قصر عائشة ، وإتمامها ، أنها أخذت برخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتري الناس أن الإتمام ليس فيه حرج ، وإن كان غيره أفضل ( فإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ) ، ولعلها كانت تذهب إلى أن القصر في السفر رخصة ، وإباحة ، وأن الإتمام أفضل فكانت تفعل ذلك ، وهي التي روت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنه لم يخير بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما .

فلعلها ذهبت إلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يختر القصر في أسفاره إلا توسعة على أمته ، وأخذا بأيسر أمر الله .

وبنحو هذا القول ذكرنا جواب عطاء بن أبي رباح فيما تقدم عنه أن القصر سنة ، ورخصة ، وهو الذي روى عن عائشة ما حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا المغيرة بن زياد ، عن عطاء ، عن عائشة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتم في سفره ويقصر .

وقد أتم جماعة في السفر منهم سعد بن أبي وقاص ، وعثمان بن عفان ، وعائشة ، وقد عاب ابن مسعود عثمان بالإتمام وهو بمنى ، ثم لما أقام الصلاة عثمان مر ابن مسعود فصلى خلفه فقيل له في ذلك فقال : الخلاف شر ، ولو أن القصر عنده فرض ما صلى خلف عثمان أربعا .

[ ص: 173 ] أخبرنا أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا طلحة ، عن عطاء ، عن عائشة قالت : كان قد فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد صام وأفطر ، وأتم وقصر في السفر .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن الجهم حدثنا عبد الوهاب قال : أنبأنا طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، عن عائشة أنها قالت : كل ذلك كان يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام وأفطر ، وقصر الصلاة وأتم .

وقد روى زيد العمي وطلحة بن عمرو ، وإن لم يكن ممن يحتج به فإنه ممن يستظهر به ، عن أنس قال : كنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسافر فيتم بعضنا ، ويقصر بعضنا ، ويصوم بعضنا ، ويفطر بعضنا ، فلا يعيب أحد على أحد .

وإن كان زيد العمي ، وطلحة بن عمرو ممن لا يحتج بهما ، فإن الأحاديث الثابتة ، والاعتبار بالأصول تصحح ما جاء به مع فعل عائشة رحمها الله تعالى .

فإن قال قائل : ما معنى قول عائشة : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر ، فزيد في صلاة الحضر ، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى ، قيل له : أما ظاهر هذا القول فيدل على أن الركعتين في السفر فرض ، ولكن الآثار ، والنظر ، والاعتبار كل ذلك يدل ما دل عليه ظاهر الحديث ، وسنبين ذلك في باب صالح بن كيسان من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى .

[ ص: 174 ] وقد أوردنا في هذا الباب ما فيه بيان لمن تدبر ، وحسبك بتوهين ظاهر حديث عائشة ، وخروجه عن ظاهره مخالفتها له ، وإجماع جمهور فقهاء المسلمين أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم .

ومن الدليل أيضا على أن القصر في السفر سنة وتوسعة ، وإن كان ما ذكرنا في هذا الباب كافيا ، حديث يعلى بن أمية ، عن عمر بن الخطاب حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي عمار ، عن عبد الله بن بابيه ، عن يعلى بن أمية قال : سألت عمر بن الخطاب قلت : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) ، وقد آمن الناس فقال : عجبت مما تعجب منه ، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته .

وهذا كله يدل على أن القصر سنة وتوسعة ، وكذلك قال ابن عمر ، وابن عباس ، وعطاء ، وعمرو بن دينار ، والقاسم بن محمد كلهم قال : سنة مسنونة ، ولم يقل واحد منهم : إنها فريضة ، وقد ذكرنا الأخبار عنهم فيما تقدم من هذا الباب فتدبره .

ومعلوم أن الصلاة ركن عظيم من أركان الدين ، بل أعظم أركانه بعد التوحيد ، ومحال أن يضاف إلى أحد من الصحابة الذين أتموا في أسفارهم ، وإلى سائر السلف الذين فعلوا فعلهم أنهم زادوا في فرضهم عامدين ما يفسد عليهم به فرضهم .

[ ص: 175 ] هذا ما لا يحل لمسلم أن يتأوله عليهم ، ولا ينسبه إليهم .

وقد حكى أبو مصعب ، عن مالك ، وأهل المدينة في مختصره قال : القصر في السفر سنة للرجال والنساء ، وحسبك بهذا في مذهب مالك مع أنه لم يختلف قوله أن من أتم في السفر يعيد ما دام في الوقت ، وذلك استحباب عند من فهم لا إيجاب ، أخبرنا إبراهيم بن شاكر قال : حدثنا عبد الله بن عثمان قال : حدثنا سعد بن معاذ قال : حدثنا الربيع بن سليمان ، عن الشافعي قال : القصر في الخوف مع السفر بالقرآن والسنة ، والقصر في السفر من غير خوف بالسنة .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المومن قال : حدثنا عبد الحميد بن أحمد الوراق قال : أنبأنا الخضر بن داود قال : أنبأنا أبو بكر يعني الأثرم قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا أبان قال : حدثنا قتادة ، عن صفوان بن محرز القاري أنه سأل عبد الله بن عمر عن الصلاة في السفر فقال : ركعتان من خالف السنة فقد كفر .

ورواه معمر ، عن قتادة ، عن مورق العجلي قال : سئل ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتين ركعتين من خالف السنة كفر .

قال أبو عمر :

الكفر هاهنا كفر النعمة ، وليس بكفر ينقل عن الملة كأنه قال : كفر لنعمة التأسي التي أنعم الله على عباده بالنبي [ ص: 176 ] - صلى الله عليه وسلم - ففيه الأسوة الحسنة في قبول رخصته كما في امتثال عزيمته - صلى الله عليه وسلم - .

والكلام في هذا على قول المعتزلة والخوارج يطول ، وليس هذا موضعه لخروجنا عما له قصدنا ، وبالله توفيقنا .

واختلف الفقهاء فيمن صلى أربعا في السفر عامدا أو ساهيا ، فقال مالك : من صلى في سفر تقصر فيه الصلاة أربعا أعاد في الوقت صلاة سفر ، ولم يفرق بين عامد وناس ، هذه رواية ابن القاسم ، قال ابن القاسم : ولو رجع إلى بيته في الوقت لأعادها أربعا قال : ولو أحرم مسافر ، وهو ينوي أربعا ثم بدا له فسلم من اثنتين لم يجزه .

وروى ابن وهب عن مالك في مسافر أم قوما فيهم مسافر ومقيم ، فأتم الصلاة بهم جاهلا قال : أرى أن يعيدوا الصلاة جميعا ، وهذا قد يحتمل أن تكون الإعادة في الوقت .

وقال ابن المواز : من صلى أربعا ناسيا لسفره أو لإقصاره أو ذاكرا لذلك ، وقال سحنون : أو جاهلا فليعد في الوقت .

ولو افتتح على ركعتين فأتمها أربعا تعمدا أعادها أبدا ، وإن كان سهوا سجد لسهوه وأجزأته .

وقال سحنون : بل يعيد لكثرة سهوه ، وقال محمد : ليس هو سهو مجتمع عليه .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : إن قعد في اثنتين قدر التشهد مضت صلاته ، وإن لم يقعد فصلاته فاسدة .

وقال الثوري : إذا قعد في اثنتين لم يعد .

[ ص: 177 ] وقال : حماد بن أبي سليمان إذا صلى أربعا متعمدا أعاد ، وإن كان ساهيا لم يعد .

وقال الحسن بن حي : إذا صلى أربعا متعمدا أعاد إذا كان ذلك منه الشيء اليسير ، فإذا طال ذلك في سفره وكثر لم يعد .

وقال عمر بن عبد العزيز : الصلاة في السفر ركعتان حتم لا يصلح غيرهما .

وقال الأوزاعي : إن قام المسافر لثالثة ، وصلاها عند ذكر ، فإنه يلغيها ، ويسجد سجدتي السهو .

وقال الحسن البصري فيمن صلى في سفر أربعا متعمدا : بئس ما صنع ، وقضت عنه ، ثم قال للسائل : لا أبا لك ترى أصحاب محمد تركوها لأنها ثقلت عليهم .

وقال الشافعي : القصر في غير الخوف سنة ، وأما في الخوف مع السفر فبالقرآن والسنة ، ومن صلى أربعا فلا شيء عليه ، ولا أحب لأحد أن يتم في السفر رغبة عن السنة ، كما لا أحب لأحد نزع خفيه رغبة عن السنة ، وليس للمسافر أن يصلي ركعتين إلا أن ينوي القصر مع الإحرام ، فإن أحرم ولم ينو القصر كان على أصل فرضه أربعا .

قال أبو عمر :

قول الشافعي في هذا الباب أعدل الأقاويل إن شاء الله ، وقول مالك قريب منه نحوه ; لأن أمره بالإعادة في الوقت استحباب [ ص: 178 ] وكذلك قول أحمد بن حنبل في هذا الباب قال الأثرم : قلت له : للرجل أن يصلي في السفر أربعا قال : لا يعجبني ثم قال : السنة ركعتان .

وأما قول الكوفيين فضعيف لا أصل له إلا أصل لا يثبت ، وقد أوضحنا فساد أصلهم ، واعتبارهم القعود مقدار التشهد في غير هذا الموضع .

ومما يدل على ما اخترناه إتمام من أتم من الصحابة ، ولم ينكر ذلك عليه ، وقد أخبر الله عنهم أنهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، فما لم ينكروه وأقروه فحق وصواب .

وقلنا : إن القصر أولى لأنه المشهور من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفره ، وهو فعل أكثر الصحابة والتابعين ، فإن تكن رخصة ، ويسرا ، وتوسعة ، فلا وجه للرغبة عنها ، فإن الله قد أحب أن تقبل رخصته وصدقته ونأتيها ، وإن تكن فضيلة فهو الذي ظننا ، وكيف كانت الحال ، فامتثال فعله في كل ما أبيح لنا أفضل إن شاء الله .

وعلى هذا قال جماعة من أهل العلم : إن المسح أفضل من الغسل لأنه كان يمسح - صلى الله عليه وسلم - على خفيه ، وهو المبين لعباد الله عز وجل مراد الله من كتابه ، وهو الهادي إلى صراط مستقيم صراط الله - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 179 ] أخبرنا عبد الرحمن بن أبان بن عثمان قال : حدثنا محمد بن يحيى بن عبد العزيز ، وأخبرنا خلف بن سعيد قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن علي قال : أخبرنا أحمد بن خالد قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أنبأنا ابن جريج ، عن عطاء قال : لا أعلم أحدا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوفي الصلاة في السفر إلا سعد بن أبي وقاص وعائشة ، فإنهما كانا يوفيان الصلاة في السفر ويصومان ، قال : وسافر سعد في نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأوفى سعد الصلاة وصام ، وقصر القوم وأفطروا ، فقالوا لسعد : كيف نفطر ونقصر الصلاة ، وأنت تتمها وتصوم فقال : دونكم أمركم فإني أعلم شأني قال : فلم يحرمه سعد عليهم ، ولم ينههم عنه .

قال ابن جريج : فقلت لعطاء : فأي ذلك أحب إليك قال : قصرها ، وكل ذلك قد فعله الصالحون ، والأخيار .

قال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : أنها كانت تتم في السفر .

قال : وأنبأنا الثوري ، عن عاصم ، عن أبي قلابة أنه كان يقول : إن صليت في السفر أربعا ، فقد صلى من لا بأس به ، وإن صليت ركعتين فقد صلى من لا بأس به .

واختلف الفقهاء أيضا في مقدار السفر الذي تقصر فيه الصلاة ، فقال مالك ، والشافعي والليث : أربعة برد ، وهو قول ابن [ ص: 180 ] عباس ، وابن عمر قال مالك : ثمانية وأربعون ميلا ، ومسيرة يوم وليلة ، وهو قول الليث .

وقال الشافعي : ستة وأربعون ميلا بالهاشمي ، أو يوم وليلة ، وهو قول الطبري .

وقال الأوزاعي : اليوم التام ، وهذه كلها أقاويل متقاربة ، وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، والحسن بن حي : لا يقصر أحد في أقل من مسيرة ثلاثة أيام ولياليها .

وقال داود : من سافر في حج أو عمرة أو غزو قصر في قصير السفر وطويله ، ومن حجته حديث شعبة ، عن يزيد بن خمير ، عن حبيب بن عبيد ، عن جبير بن نفير قال : خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية له على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلا ، فصلى ركعتين فقلت له فقال : رأيت عمر صلى بذي الحليفة ركعتين ، فقلت له فقال : إنما أفعل كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل

واختلفوا أيضا فيمن له أن يقصر فقال مالك : من خرج إلى الصيد متلذذا لم أحب له أن يقصر ، ومن خرج في معصية لم يجز له أن يقصر ، ومن كان الصيد معاشه قصر .

وقال الشافعي : إن سافر في معصية فلا يقصر ، ولا يمسح مسح المسافر ، وهو قول داود والطبري .

وقال أحمد بن حنبل : لا يقصر مسافر إلا في حج أو عمرة أو غزو .

[ ص: 181 ] ورواه عن ابن مسعود ، وهو قول داود إلا أن داود قال : في حج أو عمرة أو غزو .

ولأحمد بن حنبل قول آخر مثل قول الشافعي : من سافر في غير معصية قصر ، ومسح .

وقصر علي رضي الله عنه في خروجه إلى صفين ، وخرج ابن عباس إلى ماله بالطائف فقصر الصلاة .

وقال نافع : كان ابن عمر يطالع ماله بخيبر فيقصر الصلاة ، وأكثر الفقهاء على إباحة القصر للمسافر تاجرا ، وفي أمر أبيح له الخروج إليه .

وكان الأوزاعي يقول في رجل خرج في بعث إلى بعض المسلمين : يقصر ويفطر في رمضان في مسيره ذلك ، وافق ذلك طاعة أو معصية .

واختلف أصحاب داود في ذلك فقال بعضهم بقوله : لا قصر إلا في حج أو عمرة أو جهاد ، وقال بعضهم : للعاصي أن يقصر .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، والأوزاعي : يقصر المسافر عاصيا كان أو مطيعا .

واختلفوا في مدة الإقامة فقال مالك ، والشافعي ، والطبري ، وأبو ثور : إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم ، وهو قول سعيد بن المسيب في رواية عطاء الخراساني عنه .

[ ص: 182 ] وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري : إذا نوى إقامة خمس عشرة يوما أتم ، وإن كان أقل قصر ، وهو قول ابن عمر ، وقول سعيد بن المسيب في رواية هشيم ، عن داود بن هند عنه .

وقال الأوزاعي : إن نوى إقامة ثلاثة عشر يوما أتم ، وإن نوى أقل قصر .

وعن سعيد بن المسيب قول ثالث : إذا أقام ثلاثا أتم .

وعن السلف في هذه المسألة أقاويل متباينة منها : إذا أزمع المسافر على مقام اثنتي عشرة أتم الصلاة رواه نافع ، عن ابن عمر قال نافع : وهو آخر فعل ابن عمر وقوله .

وروى عكرمة ، عن ابن عباس قال : أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع عشرة يقصر الصلاة ، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا ، وإن زدنا أتممنا .

وروي عن علي وابن عباس : من أقام عشر ليال أتم الصلاة .

والطرق عنهما في ذلك ضعيفة ، وبذلك قال محمد بن علي ، والحسن بن صالح .

وروي عن سعيد بن جبير ، وعبد الله بن عتبة : من أقام أكثر من خمس عشرة أتم ، وبه قال الليث بن سعد .

وروي عن الحسن : أن المسافر يصلي ركعتين أبدا حتى يدخل مصرا من الأمصار .

[ ص: 183 ] وقال أحمد بن حنبل : إذا أجمع المسافر مقام إحدى وعشرين صلاة مكتوبة قصر ، وإن زاد على ذلك أتم .

فهذه تسعة أقوال في هذه المسألة ، وفيها قول عاشر : أن المسافر يقصر أبدا حتى يرجع إلى وطنه أو ينزل وطنا له .

وروي عن أنس : أنه أقام سنتين بنيسابور يقصر الصلاة .

وقال أبو مجلز : قلت لابن عمر : آتي المدينة فأقيم بها السبعة أشهر ، والثمانية طالبا حاجة فقال : صل ركعتين .

وقال أبو إسحاق السبيعي : أقمنا بسجستان ، ومعنا رجال من أصحاب ابن مسعود سنتين نصلي ركعتين .

وأقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين ، وكان الثلج حال بينهم وبين القفول .

وأقام مسروق بالسلسلة سنتين ، وهو عامل عليها يصلي ركعتين ركعتين حتى انصرف يلتمس بذلك السنة .

وذكر يعقوب بن شيبة حدثنا معاوية بن عمر حدثنا زائدة ، عن منصور ، عن شقيق قال : خرجت مع مسروق إلى السلسلة حين استعمل عليها فلم يزل يقصر حتى بلغ ، ولم يزل يقصر في السلسلة حتى رجع ، فقلت : يا أبا عائشة ما يحملك على هذا ، قال : اتباع السنة .

[ ص: 184 ] وقال أبو حمزة نصر بن عمران : قلت لابن عباس : إنا نطيل المقام بالغزو بخراسان فكيف ترى ؟ قال : صل ركعتين ، وإن أقمت عشر سنين .

محمل هذه الأحاديث عندنا على من لا نية له في الإقامة لواحد من هؤلاء المقيمين هذه المدد المتقاربة ، وإنما ذلك مثل أن يقول : أخرج اليوم أخرج غدا ، وإذا كان هكذا فلا عزيمة هاهنا على الإقامة .

وقال الأثرم : سئل أحمد بن حنبل ، عن حديث أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام عشرا يقصر الصلاة فقال : قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة لصبح رابعة قال : فرابعة ، وخامسة ، وسادسة ، وسابعة ، وثامنة التروية ، وتاسعة ، وعاشرة ، قال : فإنما حسب أنس مقامه بمكة ومنى لا وجه لحديث أنس غير هذا .

قال أحمد : فإذا قدم لصبح رابعة قصر ، وما قبل ذلك يتم قال : أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - اليوم الرابع ، والخامس ، والسادس ، والسابع ، وصلى الصبح بالأبطح في اليوم الثامن ، فهذه إحدى وعشرون صلاة قصر فيها في هذه الأيام ، وقد أجمع على إقامتها ، فمن أجمع أن يقيم كما أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - قصر ، فإن أجمع على أكثر من ذلك أتم .

قلت له : فلم لا تقصر فيما زاد على ذلك ؟ قال : لأنهم اختلفوا فنأخذ بالاحتياط ، ونتم .

[ ص: 185 ] قيل لأحمد بن حنبل : فإذا قال : أخرج اليوم أخرج غدا يقصر قال : هذا شيء آخر هذا لم يعزم .

قال أبو عمر :

أصح شيء في هذه المسألة قول مالك ، ومن تابعه ، والحجة في ذلك حديث العلاء بن الحضرمي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه جعل للمهاجر أن يقيم بمكة ثلاثة أيام ثم يصدر .

ومعلوم أن الهجرة إذا كانت مفترضة قبل الفتح كان المقام بمكة لا يجوز ولا يحل ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمهاجر ثلاثة أيام لتقضية حوائجه ، وتهذيب أسبابه ، ولم يحكم لها بحكم المقام ، ولا جعلها في حيز الإقامة ; لأنها لم تكن دار مقام ، فإذا لم يكن كذلك ، فما زاد على الثلاثة أيام إقامة لمن نواها ، وأقل ذلك أربعة أيام ، ومن نوى إقامة ثلاثة أيام فما دونها فليس بمقيم ، وإن نوى ذلك ، كما أنه لو نوى إقامة ساعة أو نحوها لم يكن بساعته تلك داخلا في حكم المقيم ، ولا في أحواله .

ومن الحجة أيضا في ذلك أن عمر رضي الله عنه حين أجلى اليهود جعل لهم إقامة ثلاثة أيام في قضاء أمورهم ، وإنما نفاهم عمر لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يبقى دينان بأرض العرب .

ألا ترى أنهم لا يجوز تركهم بأرض العرب مقيمين بها ، فحين نفاهم عمر ، وأمرهم بالخروج ، لم يكن عنده الثلاثة أيام إقامة .

[ ص: 186 ] وهذا بين لمن لم يعاند ، ويصده عن الحق هواه وعماه .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا يحيى بن عبد المجيد قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، وحفص بن عبد الرحمن بن حميد ، عن عبد الرحمن بن حميد قال : سمعت السائب بن يزيد يحدث عمر بن عبد العزيز ، عن العلاء بن الحضرمي : أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يقيم المهاجر قال سفيان : بعد نسكه ثلاثا قال حفص : بعد الصدر ثلاثا .

وأخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن مالك قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدثني أبي قال : حدثنا سفيان بن عيينة قال : حدثني عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن السائب بن يزيد ، عن العلاء بن الحضرمي إن شاء الله : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يمكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا قال عبد الله : قال أبي : ما كان أشد على ابن عيينة أن يقول : حدثنا .

واحتج أبو ثور لقوله في هذه المسألة بأن قال : لما أجمعوا على ما دون الأربع أنه يقصر فيها ، واختلفوا في الأربع فما فوقها ، كان عليه أن يتم ، وذلك أن فرض التمام لا يزول باختلاف .

واختلف الفقهاء أيضا في المسافر يدخل في [ ص: 187 ] في صلاة المقيم فقال مالك : إذا أدرك منها ركعة صلى صلاة المقيم ، وإن لم يدرك ركعة صلى ركعتين ، وهو قول الزهري ، وقتادة ، وقول الحسن البصري ، وإبراهيم النخعي على اختلاف عنهما .

وقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي ، وأصحابهم : يصلي صلاة مقيم ، وإن أدركه في التشهد ، وروي ذلك عن ابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، وإبراهيم ، وسعيد بن جبير ، وجابر بن زيد ، ومكحول ، وهو قول معمر بن راشد ، وبه قال أحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور .

واختلفوا أيضا في مسافر صلى بمقيمين ، فقال مالك : إذا سلم المسافر ، فأحب إلي أن يقدموا رجلا يتم بهم ، وفي ذلك سعة ، وقال الشافعي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي : يصلون فرادى ، ولا يقدمون أحدا .

وحجتهم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل مكة : أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ، وقد فعله عمر ، ولم يأمر أن يتم أحدهم بهم .

واختلفوا أيضا في المسافر يؤم قوما فيهم مسافرون ومقيمون فيحدث بعد ركعة فيقدم مقيما ، فقال مالك : يصلي المقيم تمام صلاة الأول ثم يشير إلى من خلفه بالجلوس ثم يقوم وحده فيتم صلاته أربعا ثم يقعد ، ويتشهد ، ويسلم من خلفه من المسافرين ، ويقوم من خلفه من المقيمين فيتموا لأنفسهم ، وقال أبو حنيفة [ ص: 188 ] وأصحابه ، والثوري : يتم المستخلف صلاة الأول ثم يتأخر ، ويقدم مسافرا يسلم بهم فيسلم معه المسافرون ، ويقوم المقيمون فيقضون وحدانا .

وقال الشافعي ، والأوزاعي ، والليث بن سعد : يتمون كلهم صلاة مقيم .

قال أبو عمر :

مسائل السفر تكثر جدا ، وإنما ذكرنا منها ما كان في معنى حديثنا ، وما يعين على فتح ما انغلق منها من معناه ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية