التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
212 وحديث مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة قال : بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 202 ] ركع ركعتين من إحدى صلاتي النهار ، الظهر أو العصر ، فسلم من اثنتين ، فقال له ذو الشمالين رجل من بني زهرة بن كلاب : أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما قصرت ، وما نسيت فقال له ذو اليدين : قد كان بعض ذلك يا رسول الله ، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس فقال : أصدق ذو اليدين ؟ فقالوا : نعم فأتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بقي من الصلاة ثم سلم .


مالك ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن مثل ذلك .

هكذا الحديث في الموطأ عند جميع الرواة .

وبهذا الإسناد عن ابن شهاب خاصة منقطع ، وهو في الموطأ مسند متصل من طريق قد ذكرناها فيما سلف من كتابنا هذا .

وأما حديث ابن شهاب فقد وصله الأوزاعي ، ومعمر ، وابن جريج ، وغيرهم من أصحاب ابن شهاب .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أبو الأحوص محمد بن الهيثم قال : حدثنا محمد بن كثير ، عن الأوزاعي ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة ، وعبيد الله بن عبد الله ، عن أبي هريرة قال : سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ركعتين ، فقام ابن عبد عمرو بن فضيلة من خزاعة حليف لبني زهرة ، فقال : [ ص: 203 ] أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت ؟ فقال : كل ذلك لم يكن ، ثم أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس فقال : أصدق ذو الشمالين ؟ قالوا : نعم ، فأتم ما بقي من صلاته ثم سجد سجدتي السهو .

ورواه عبد الحميد بن حبيب ، عن الأوزاعي ، عن ابن شهاب قال : حدثني ابن المسيب ، وأبو سلمة ، وعبد الله بن عبد الله : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر أبا هريرة ، وقال فيه : فأتم ما بقي من الصلاة لم يسجد السجدتين اللتين يسجدان في وهم الصلاة حين ثبته الناس .

حدثنا محمد بن عبد الله قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا إسحاق بن أبي حسان قال : حدثنا هشام بن عمار قال : حدثنا عبد الحميد فذكره .

ورواه صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب أن أبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة أخبره أنه بلغه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين ثم سلم ، وذكر الحديث ، وفيه فأتم ما بقي من صلاته ، ولم يسجد السجدتين اللتين يسجدان إذا شك الرجل في صلاته حين لقنه الناس .

قال صالح : قال ابن شهاب : وأخبرني هذا الخبر سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، وأخبرنيه أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وأبو بكر بن عبد الرحمن ، وعبيد الله بن عبد الله .

ورواه ابن إسحاق ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وأبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة قال : [ ص: 204 ] كل حدثني بذلك قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس الظهر فسلم من اثنتين ، وذكر الحديث ، وقال فيه : قال الزهري : ولم يخبرني رجل منهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجد سجدتي السهو .

فكان ابن شهاب يقول : إذا عرف الرجل ما نسي من صلاته فأتمها ، فليس عليه سجود سهو .

وذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : حدثني ابن شهاب ، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن عمن يقتنعان بحديثه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين في صلاة العصر أو صلاة الظهر ثم سلم فقال له ذو الشمالين بن عبد عمرو : يا نبي الله أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لم تقصر ، ولم أنس ، فقال ذو الشمالين : بلى يا نبي الله قد كان بعض ذلك ، فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس فقال : أصدق ذو اليدين ؟ قالوا : نعم يا نبي الله ، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتم الصلاة حين استيقن .

قال عبد الرزاق قال معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وأبي بكر بن سلميان بن أبي حثمة ، عن أبي [ ص: 205 ] هريرة قال : صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر أو العصر ، فسها في ركعتين فانصرف ، فقال له ذو الشمالين بن عبد عمرو ، وكان حليفا لبني زهرة : أخفت الصلاة أم نسيت ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما يقول ذو اليدين ؟ فقالوا : صدق يا نبي الله ، فأتم بهم الركعتين اللتين نقص .

قال الزهري : وكان ذلك قبل بدر ثم استحكمت الأمور بعد ، هكذا يقول ابن شهاب إن ذلك قبل بدر ، وإنه ذو الشمالين .

وقد ثبت عن أبي هريرة من رواية مالك ، وغيره من وجوه كثيرة غير ما ذكر في ذلك كله .

وقد أوضحنا ذلك كله ، وشرحناه ، وبسطناه في باب أيوب من كتابنا هذا فأغنى عن إعادته هاهنا ، ولم نذكر في باب أيوب اختلاف العلماء في كيفية السلام من الصلاة ، ونذكره هنا لقوله في هذا الحديث فسلم من اثنتين ، ولقوله في آخره فأتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بقي من الصلاة ثم سلم .

اختلف العلماء قديما وحديثا في كيفية السلام من الصلاة ، واختلفت الآثار في ذلك أيضا ، واختلف أئمة الفتوى بالأمصار في وجوه السلام من الصلاة ، وهل هو من فروضها أم لا ؟ فقال مالك ، وأصحابه ، والليث بن سعد : يسلم المصلي من الصلاة نافلة كانت أو فريضة تسليمة واحدة ، السلام عليكم ، ولا يقل ورحمة الله ، وقال سائر أهل [ ص: 206 ] العلم : يسلم تسليمتين الأولى عن يمينه يقول فيها : السلام عليكم ورحمة الله ، وممن قال بهذا كله : سفيان الثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي ، وأصحابه ، والحسن بن حي ، وأحمد بن حنبل ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، وداود بن علي ، وأبو جعفر الطبري .

وقال ابن وهب ، عن مالك : يسلم تلقاء وجهه السلام عليكم بتسليمة واحدة .

وقال أشهب ، عن مالك : أنه سئل عن تسليم المصلي وحده فقال : يسلم واحدة عن يمينه ، فقيل له : وعن يساره فقال : ما كانوا يسلمون إلا واحدة ، وإن من الناس من يفعله ، وقال مرة أخرى : إنما حدثت التسليمتان من زمن بني هاشم ، فقال مالك : والمأموم يسلم تسليمة عن يمينه ، وأخرى عن يساره ثم يرد على الإمام .

وروي عن سعيد بن المسيب مثله ، وقال عنه ابن القاسم : من صلى لنفسه يسلم عن يمينه ويساره ، وقال : وأما الإمام فيسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه يتيامن بها قليلا ، واختلف قوله في موضع رد المأموم على الإمام فمرة قال : يسلم عن يمينه ويساره ثم يرد على الإمام ومرة قال : يرد على الإمام بعد أن يسلم عن يمينه .

قال أبو عمر :

الذي تحصل من مذهب مالك رحمه الله أن الإمام يسلم واحدة تلقاء وجهه ويتيامن بها قليلا ، والمصلي لنفسه يسلم اثنتين ، والمأموم يسلم ثلاثا إن كان عن يساره أحد .

[ ص: 207 ] وقال الليث بن سعد : أدركت الأئمة ، والناس يسلمون تسليمة واحدة تلقاء وجوههم السلام عليكم ، وكان الليث يبدأ بالرد على الإمام ثم يسلم عن يمينه ، وعن يساره .

قال أبو عمر :

روى الدراوردي ، عن مصعب بن ثابت ، عن إسماعيل بن محمد ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة السلام عليكم .

وقد وهم فيه الدراوردي ، وإنما الحديث لمصعب بن ثابت ، عن إسماعيل بن محمد ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه ويساره حتى يرى بياض خديه من هنا .

هكذا رواه ابن المبارك وغيره ، عن مصعب بن ثابت بإسناده .

وأما حديث عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه كان يسلم تسليمة واحدة فلا يصح مرفوعا لأنه لم يرفعه إلا وهب بن محمد ، عن هشام بن عروة ، وهو ضعيف ضعفه ابن معين وغيره .

وفي التسليمتين حديث ابن مسعود ثابت صحيح ، رواه عبد الرحمن بن الأسود ، عن أبيه ، وعلقه عن عبد الله قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر يسلمون عن أيمانهم ، وعن شمائلهم في الصلاة ، السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله ، ورواها ابن عمر وأبو حميد الساعدي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 208 ] قال أبو عمر :

اختلف القائلون بالتسليمتين في وجوبهما فرضا ، فقالت طائفة منهم : كلا التسليمتين سنة ، ومن لم يأت بالسلام بعد أن يقعد مقدار التشهد فقد تمت صلاته .

قالوا : وإنما السلام إعلام بانقضاء الصلاة وتمامها .

واحتجوا بأن السلام إذا وضع في غير موضعه كالكلام فكذلك هو في آخر الصلاة .

وممن قال ذلك : أبو حنيفة ، وأصحابه ، والأوزاعي ، وأكثر أهل الكوفة إلا الحسن بن حي ، فإنه أوجب التسليمتين جميعا بقوله عليه السلام : تحليلها التسليم ثم بين بفعله كيف التسليم .

وقال آخرون منهم الشافعي : التسليمة الأولى يخرج بها من صلاته واجبة ، والأخرى سنة .

ومن حجته قوله - صلى الله عليه وسلم - : تحليلها التسليم ، والتسليمة الواحدة يقع عليها اسم تسليم ، وهذه أيضا حجة من قال بالتسليمة الواحدة ، وبالله التوفيق .

وقال الثوري : إذا كنت إماما فسلم عن يمينك وعن يسارك السلام عليكم ورحمة الله ، فإن كنت غير إمام فإذا سلم الإمام فسلم عن يمينك وعن يسارك ، تنوي به الملائكة ، ومن معك من المسلمين .

[ ص: 209 ] وقال الشافعي : نأمر كل مصل أن يسلم عن يمينه وعن يساره ، إماما كان أو منفردا أو مأموما ، ويقول في كل واحدة منهما : السلام عليكم ورحمة الله ، وينوي بالأولى من عن يمينه ، وبالثانية من عن يساره ، وينوي المأموم الإمام بالتسليمة التي إلى ناحيته في اليمين أو في اليسار قال : ولو اقتصر على تسليمة واحدة لم يكن عليه إعادة .

التالي السابق


الخدمات العلمية