التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
453 [ ص: 303 ] حديث ثاني عشر لإسحاق ، عن رافع بن إسحاق .

مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن رافع بن إسحاق مولى لآل الشفاء ، وكان يقال له مولى أبي طلحة ، أنه سمع أبا أيوب الأنصاري صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمصر يقول : والله ما أدري كيف أصنع بهذه الكرابيس ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب أحدكم إلى الغائط أو البول فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بفرجه .


هكذا قال مالك في هذا الحديث " مولى لآل الشفاء " وقال في الحديث الذي قبله " مولى الشفاء " فيما رواه يحيى بن يحيى عنه ، وقد قال عن مالك في الموضعين جميعا طائفة من الرواة " مولى الشفاء " وقال آخرون عنه في الموضعين جميعا " مولى آل الشفاء " وقال قوم كما قال يحيى ، وهذا إنما جاء من مالك ، والشفاء اسم امرأة من الصحابة من قريش ، وهي الشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس بن خالد من بني عدي بن كعب ، وهي أم سليمان بن أبي خيثمة ، وقد ذكرناها في كتابنا في الصحابة ، وكان حماد بن سلمة يقول : عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن رافع بن إسحاق مولى أبي أيوب ، وكان مالك يقول : وكان يقال له مولى أبي طلحة ، وهو من تابعي أهل المدينة ، ثقة فيما نقل وحمل ، وحديثه هذا حديث متصل صحيح .

[ ص: 304 ] وفيه من الفقه أن على من سمع الخطاب أن يستعمله على عمومه إذا لم يبلغه شيء يخصه ; لأن أبا أيوب سمع النهي من رسول الله - صلى الله عليه - عن استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط ، مطلقا غير مقيد بشرط ، ففهم منه العموم ، فكان ينحرف في مقاعد البيوت ، ويستغفر الله أيضا ، ولم يبلغه الرخصة التي رواها ابن عمر وغيره ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في البيوت .

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المومن قال : أخبرنا محمد بن يحيى بن عمر الطائي قال : حدثنا علي بن حرب الطائي قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن أبي أيوب يبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تستقبلوا القبلة بغائط وبول ، ولا تستدبروها قال أبو أيوب : فقدمنا الشام ، فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة ، فننحرف عنها ونستغفر الله ، وهكذا يجب على كل من بلغه شيء أن يستعمله على عمومه حتى يثبت عنده ما يخصه أو ينسخه .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا عفان ، وأخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال : أخبرنا محمد بن بكر بن داسة قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قالا جميعا : أخبرنا وهيب بن خالد قال : حدثنا عمرو بن يحيى ، عن أبي زيد ، عن معقل بن أبي معقل [ ص: 305 ] الأسدي ، قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تستقبل القبلتان ببول أو بغائط ، ورواه سليمان بن بلال ، عن عمرو بن يحيى بإسناده مثله ، ذكره أبو بكر بن أبي شيبة ، عن خالد بن مخلد ، عن سليمان ، وكان مجاهد ، وإبراهيم النخعي ، ومحمد بن سيرين يكرهون أن نستدبر إحدى القبلتين أو نستقبل بغائط أو بول - الكعبة وبيت المقدس - .

وفي حديث يحيى بن سعيد ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمه واسع بن حبان ، عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول : إن ناسا يقولون : إذا قعدت لحاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس ، وقد اختلف في متن هذا الحديث على يحيى بن سعيد ، أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد ، وحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قالا جميعا : حدثنا حفص بن غياث ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمه واسع بن حبان ، عن ابن عمر قال : رأيت النبي عليه السلام قاعدا على لبنتين يقضي حاجته متوجها نحو القبلة .

وزاد عبد الوارث في حديثه : أو بيت المقدس ، ورواه مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمه ، عن ابن عمر قال : لقد ارتقيت على ظهر بيت لنا فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لبنتين ، مستقبل بيت المقدس لحاجته .

[ ص: 306 ] وهكذا رواه عبد الوهاب الثقفي ، وسليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد بلفظ حديث مالك ومعناه ، وأخبرنا عبد الوارث قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح قال : حدثني الليث قال : حدثني محمد بن العجلان ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن واسع بن حبان ، عن عبد الله بن عمر أنه قال : يتحدث الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغائط بحديث ، وقد اطلعت يوما على ظهر بيت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته محجر عليه بلبن ، فرأيته مستقبل القبلة .

وقرأت على أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن ، فأقر به ، أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال : حدثنا هشيم ، عن يحيى بن سعيد - يعني الأنصاري - ، قال أبو عبيد : وحدثني يحيى بن سعيد القطان ، عن عبيد الله بن عمر ، كلاهما عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمه ، عن ابن عمر قال : ظهرت على أجار لحفصة - وقال بعضهم : سطح - فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا على حاجته مستقبل بيت المقدس مستدبر الكعبة .

قال أبو عمر : هذه الرواية فيها موافقة لما قاله مالك من استقبال بيت المقدس ، وهذا إن شاء الله أثبت الروايات في حديث ابن عمر [ ص: 307 ] وقد تابع مالكا على ما قاله من ذلك الثقفي ، وسليمان بن بلال ، وقد ذكرنا ذلك في باب يحيى بن سعيد ، والحمد لله .

وقد قال المروزي : رواية يحيى القطان ، عن عبيد الله بن عمر في هذا الحديث تشهد لما قاله مالك ، والثقفي ، وسليمان بن بلال ، في ذكر بيت المقدس خاصة .

قال أبو عمر : لما روى ابن عمر أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعدا لحاجته مستقبل بيت المقدس مستدبر الكعبة ، أو مستقبل القبلة ، على حسب ما مضى من الرواية في ذلك ، واستحال أن يأتي ما نهى عنه - صلى الله عليه وسلم - علمنا أن الحال التي استقبل فيها القبلة بالبول واستدبرها غير الحال التي نهى عنها ، فأنزلنا النهي عن ذلك في الصحاري ، والرخصة في البيوت ; لأن حديث ابن عمر في البيوت ، ولم يصح لنا أن يجعل أحد الخبرين ناسخا للآخر ; لأن الناسخ يحتاج إلى تاريخ أو دليل لا معارض له ، ولا سبيل إلى نسخ قرآن بقرآن ، أو سنة بسنة ، ما وجد إلى استعمال الآيتين أو السنتين سبيل .

وروى مروان الأصفر قال : رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم جلس يبول إليها ، فقلت : يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا ؟ قال : إنما نهي عن ذلك في الفضاء ، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس ،ذكره أبو داود ، عن محمد بن يحيى [ ص: 308 ] بن فارس ، عن صفوان بن عيسى ، عن الحسن بن ذكوان ، عن مروان الأصفر ، عن ابن عمر .

وقد فسره الشعبي كما ذكرنا نحوا من تفسير ابن عمر ، ذكر وكيع ، وعبيد الله بن موسى ، عن عيسى بن أبي عيسى الخياط ، وهو عيسى ابن مسيرة ، عن الشعبي أنه قال له : قال أبو هريرة : لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ، وقال ابن عمر : حانت مني التفاتة ، فرأيت النبي عليه السلام في كنيفه مستقبل القبلة ، فقال الشعبي : صدق أبو هريرة ، وصدق ابن عمر ، قول أبي هريرة في البرية ، وقول ابن عمر في الكنف .

قال الشعبي : أما كنفكم هذه فلا قبلة فيها ، هذا لفظ حديث وكيع .

وحدثنا خلف بن أحمد ، حدثنا أحمد بن مطرف ، حدثنا أيوب بن سليمان ، ومحمد بن عمر بن لبابة قالا : حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم قال : حدثني عبيد الله بن موسى ، عن عيسى الخياط ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كنيفه مستقبل القبلة ، قال [ ص: 309 ] يحيى : وأخبرنا عيسى الخياط ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ، قال عيسى : فذكرت ذلك للشعبي ، فقال : صدق أبو هريرة ، وصدق ابن عمر ، أما قول أبي هريرة فذلك في الصحراء لا يستقبلها ولا يستدبرها ، وأما قول ابن عمر فالكنيف بيت صنع للتبرز ليس فيه قبلة ، استقبل حيث شئت .

قال أبو عمر : هذا قول مالك وأصحابه ، والشافعي وأصحابه ، وهو قول ابن المبارك ، وإسحاق بن راهويه .

وكان الثوري والكوفيون يذهبون إلى أن لا يجوز استقبال القبلة بالبول والغائط لا في الصحاري ولا في البيوت ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وأبو ثور ، واحتجوا بحديث أبي أيوب وسائر الأحاديث الواردة في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها بالغائط والبول وهي كثيرة ، رواها جماعة من الصحابة ، منهم أبو هريرة ، وعبد الله بن مسعود ، وسهل بن حنيف ، وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي ، وسليمان .

ورد أحمد بن حنبل حديث جابر ، وحديث عائشة الواردين عن النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة في هذا الباب ، وضعف حديث جابر ، وتكلم في حديث عائشة بأنه انفرد به خالد بن أبي الصلت ، عن عراك بن مالك ، عن عائشة ، وقال في حديث ابن عمر : إنما فيه نسخ استقبال بيت المقدس واستدباره بالغائط والبول ، قال : هذا الذي لا أشك فيه ، وأشك في الكعبة .

وذكر الأثرم عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال : من ذهب إلى حديث عائشة - يعني حديث خالد بن أبي الصلت - فإن مخرجه حسن ، ولكنه [ ص: 310 ] يعجبني أن يتوقى القبلة ، وأما بيت المقدس فليس في نفسي منه شيء أنه لا بأس به .

وقال آخرون : جائز استقبال القبلة وبيت المقدس على كل حال واستدبارهما بالبول والغائط في الصحاري وفي البيوت ، وذكروا حديث جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط ، قال : ثم رأيته بعد ذلك يستقبل القبلة ببوله قبل موته بعام ، رواه محمد بن إسحاق ، عن أبان بن صالح ، عن مجاهد ، عن جابر .

قالوا : وهذا يبين أن النهي عن ذلك منسوخ ، وذكروا ما رواه خالد بن أبي الصلت ، عن عراك بن مالك ، عن عائشة ، حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا وكيع ، عن حماد بن سلمة ، عن خالد الحذاء ، عن خالد بن أبي الصلت ، عن عراك بن مالك ، عن عائشة ، قالت : ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قوم [ ص: 311 ] يكرهون أن يستقبلوا بفروجهم القبلة ، قالت : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فعلوها ، استقبلوا بمقعدي القبلة ، قالوا : فلما تعارضت الآثار في هذا الباب لم يجب العمل بشيء منها لتهاترها كالبينتين المتعارضتين .

قالوا : والأصل أن لا حظر إلا ما يرد به الخبر عن الله أو عن رسوله مما لا معارض له ، روي هذا المعنى عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، حكاه أبو صالح عن الليث ، عن ربيعة ، وقال به قوم ، منهم داود وأصحابه ، وهو قول عروة بن الزبير .

واحتج بعض من ذهب هذا المذهب بما ذكرنا من حديث جابر ، وحديث عائشة ، وزعموا أن النسخ فيها واضح لما كان عليه الأمر من كراهية ذلك ، وقالوا : ليس خالد بن أبي الصلت بمجهول ; لأنه روى عنه خالد الحذاء ، والمبارك بن فضالة ، وواصل مولى ابن عيينة ، وكان عاملا لعمر بن عبد العزيز ، فكيف يقال فيه مجهول ؟ وذكروا حديث شعبة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه كان يستقبل القبلة بالغائط والبول ، وحديث بكر بن مضر ، عن جعفر ، عن ربيعة ، عن عراك بن مالك ، عن عائشة أنها كانت تنكر قولهم : إذا خرج أحدكم إلى الخلاء فلا يستقبل القبلة .

قال أبو عمر : ليس الإنكار بحجة ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما وصفناه ، وأما ما روي عن ابن عمر فمحمله عندنا على أن ذلك في البيوت ، وقد بان ذلك برواية مروان الأصفر وغيره عن ابن عمر .

[ ص: 312 ] والصحيح عندنا الذي يذهب إليه ما قاله مالك وأصحابه ، والشافعي ; لأن في ذلك استعمال السنن على وجوهها الممكنة فيها دون رد شيء ثابت منها ، وليس حديث جابر بصحيح عنه فيعرج عليه ; لأن أبان بن صالح الذي يرويه ضعيف ، وقد رواه ابن لهيعة ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن قتادة ، عن النبي عليه السلام على خلاف رواية أبان بن صالح ، عن مجاهد ، عن جابر ، وهو حديث لا يحتج بمثله .

وحديث عائشة قد دفعه قوم ، ولو صح لم يكن فيه خلاف لما ذهبنا إليه ; لأن المقعد لا يكون إلا في البيوت ، وليس بذلك بأس عندنا في كنف البيوت ، وإنما وقع نهيه والله أعلم على الصحاري والفيافي والفضاء دون كنف البيوت ، وخرج عليه حديثه - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان متبرز القوم ، ألا ترى إلى ما في حديث الإفك من قول عائشة رحمها الله : وكانت بيوتنا لا مراحيض لها ، وإنما أمرنا أمر العرب الأول ، يعني البعد في البراز .

وقال بعض أصحابنا : إن النهي إنما وقع على الصحاري لأن الملائكة تصلي في الصحاري ، وليس المراحيض كذلك .

وأما قوله في الحديث " كيف أصنع بهذه الكرابيس " فهي المراحيض ، واحدها كرباس ، مثل سربال وسرابيل ، وقد قيل إن الكرابيس مراحيض الغرف ، وأما مراحيض البيوت ، فإنها يقال لها الكنف ، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث " فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بفرجه " دليل على أن القبل يسمى فرجا ، وأن الدبر أيضا يسمى فرجا .

[ ص: 313 ] وقد اختلف الفقهاء في وضوء من مس ذكره أو دبره على ما سنذكره في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله .

إسحاق ، عن زفر بن صعصعة حديث واحد

التالي السابق


الخدمات العلمية