التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1579 مالك ، عن ابن شهاب ، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان بن أمية : أن صفوان بن أمية قيل له : إنه من لم يهاجر هلك ، فقدم صفوان بن أمية المدينة فنام في المسجد ، وتوسد رداءه ، فجاءه سارق فأخذ رداءه ، فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تقطع يده فقال صفوان : إني لم أرد هذا يا رسول الله ، هو عليه صدقة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فهلا [ ص: 216 ] قبل أن تأتيني به


هكذا روى هذا الحديث جمهور أصحاب مالك مرسلا ، ورواه أبو عاصم النبيل ، عن مالك ، عن الزهري ، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان ، عن جده قال : قيل لصفوان : من لم يهاجر هلك ، وساق الحديث على ما في الموطأ ، ولم يقل أحد فيما علمت في هذا الحديث ، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان ، عن جده غير أبي عاصم .

ورواه شبابة بن سوار ، عن مالك ، عن الزهري ، عن عبد الله بن صفوان ، عن أبيه : أن صفوان إلخ .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن الزهري ، عن عبد الله بن صفوان ، عن أبيه : أن صفوان قيل له : من لم يهاجر هلك ، فدعا براحلته فركبها حتى أتى المدينة فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قد قيل لي من لم يهاجر هلك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ذهبت الهجرة فارجع إلى بطحاء مكة ، فنام صفوان في المسجد ، وتوسد رداءه ، فأخذ من تحت رأسه ، فجاء بسارقه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر به أن يقطع فقال صفوان بن أمية : يا رسول الله إني لم أرد هذا ردائي عليه صدقة .

فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أفلا قبل أن تأتيني به
.

ورواه أبو علقمة الفروي ، عن مالك كما رواه شبابة بن سوار عنه بإسناده سواء .

حدثنا بحديث شبابة بن سوار ، عن مالك ، خلف بن قاسم .

حدثني أبو عيسى العباس بن أحمد الأزدي ، وأبو محمد الحسن [ ص: 217 ] بن رشيق ، ونصر بن علي البزار قالوا : حدثنا أبو العلاء محمد بن أحمد بن جعفر الكوفي قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا شبابة بن سوار المدائني حدثنا مالك بن أنس ، عن ابن شهاب فذكره ، وقد ذكر الطحاوي حديث شبابة ، عن محمد بن أحمد بن جعفر ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن شبابة ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبد الله بن صفوان ، عن أبيه فذكره .

هكذا ابن شهاب ، عن عبد الله بن صفوان ، عن أبيه .

وقال الطحاوي : جائز أن يسمع ابن شهاب هذا الحديث من عبد الله بن صفوان بن أمية ، عن أبيه ، ومن صفوان بن عبد الله ، عن جده ، وذلك غير مستنكر لابن شهاب في أحاديثه عن غير هذين ممن يحدث عنه .

وغير مستنكر سماعه من عبد الله بن صفوان ; لأن عبد الله بن صفوان قتل مع عبد الله بن الزبير في اليوم الذي قتل فيه من سنة ثلاث وسبعين ، قال : والزهري يومئذ سنه أربع عشرة سنة ; لأن مولده كان في السنة التي قتل فيها الحسين بن علي رضي الله عنه ، وهي سنة إحدى وستين قال : فإن قال قائل : قد يجوز أن يكون عبد الله بن صفوان هذا هو عبد الله بن صفوان بن عبد الله قيل له : ما نعلم لصفوان بن عبد الله ابنا أخذ عنه شيئا من العلم ، وإنما عبد الله بن صفوان هذا هو عبد الله بن صفوان بن أمية .

[ ص: 218 ] قال أبو عمر :

قد روى هذا الحديث عطاء ، وطاوس ، عن صفوان بن أمية ، ورواه حماد بن سلمة ، عن قتادة ، وقيس بن سعد ، وحبيب المعلم ، وحميد بن قيس كلهم ، عن عطاء .

ورواه حماد أيضا ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس جميعا ، عن صفوان بن أمية : أنه كان نائما في المسجد تحت رأسه خميصة ، فجاء لص فانتزعها من تحت رأسه ، وذكر الحديث .

ولم يسمعه عطاء من صفوان بن أمية ; لأن شعبة وسعد بن أبي عروبة روياه عن قتادة ، عن عطاء ، عن طارق بن المرقع ، عن صفوان بن أمية : أن رجلا سرق برده فرفعه ، إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر بقطعه ، فقال : يا رسول الله قد تجاوزت عنه قال : أفلا قبل أن تأتيني به أبا وهب فقطعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

أخبرناه عبد الله بن محمد بن يحيى ، وعبد الرحمن بن عبد الله بن خالد قالا : حدثنا أحمد بن جعفر بن مالك قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدثنا أبي قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن عطاء ، عن طارق بن المرقع ، عن صفوان بن أمية فذكره حرفا بحرف .

وذكره النسائي ، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل بإسناده مثله سواء .

[ ص: 219 ] وأخبرنا قاسم بن محمد قال : حدثنا خالد بن سعد قال : حدثنا أحمد بن عمرو قال : حدثنا محمد بن سنجر قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا وهب ، عن عطاء ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن صفوان أنه قيل له : إنه لا يدخل الجنة إلا من قد هاجر ، فقال لا أترك منزلي حتى آتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتاه برجل فقال : يا رسول الله إن هذا سرق خميصة لي ، والرجل معه ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطعه فقال : يا رسول الله إني قد وهبتها له قال : فهلا قبل أن تأتيني به قال : فقلت يا رسول الله إنهم يقولون : لا يدخل الجنة إلا من قد هاجر فقال لا هجرة بعد فتح مكة ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا .

وطاوس سماعه من صفوان بن أمية ممكن ; لأنه أدرك زمن عثمان .

وذكر يحيى القطان ، عن زهير ، عن ليث ، عن طاوس قال : أدركت سبعين شيخا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وقد قيل : إن طاوسا توفي ، وهو ابن بضع وسبعين سنة ، في سنة ست ومائة .

قال : فإذا كان سنه هذا فغير ممكن سماعه من صفوان بن أمية ; لأن صفوان توفي سنة ست وثلاثين .

وقيل : كانت وفاته بمكة عند خروج الناس إلى الجمل .

[ ص: 220 ] وقد روي هذا الحديث ، عن طاوس ، وعكرمة ، عن ابن عباس ، ذكره البزار من حديث الأشعث بن سوار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس .

ومن حديث زكرياء بن إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا لفظ حديث الأشعث ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان صفوان بن أمية نائما في المسجد ، فجاءه رجل ، فأخذ رداءه من تحت رأسه فاتبعه فأدركه ، فأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : هذا سرق ردائي من تحت رأسي ، فأمر به أن يقطع فقال : إن ردائي لم يبلغ أن يقطع فيه هذا ، قال : أفلا قبل أن تأتيني به .

قال البزار : ورواه جماعة ، عن عكرمة مرسلا .

وحدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن سماك ، عن حميد ابن أخت صفوان ، عن صفوان بن أمية قال : كنت نائما في المسجد على خميصة لي ثمنها ثلاثون درهما ، فجاء رجل فاختلسها مني ، فأخذ الرجل فأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر به أن يقطع ، فأتيته فقلت : تقطعه من أجل ثلاثين درهما ، أنا أمتعه ثمنها قال : فهلا كان قبل أن تأتيني به .

[ ص: 221 ] وفي حديث مالك من الفقه ، والمعاني : أن الهجرة كانت قبل الفتح مفترضة .

وفيه إباحة النوم في المسجد .

وفيه توطي الثياب وتوسدها .

وفيه أن ما جعله الإنسان تحت رأسه فهو حرز له ، وما سرق من حرز فيه القطع .

واختلف العلماء في السارق من حرز ، فأما فقهاء الأمصار بالحجاز ، والعراق ، والشام ، فإنهم اعتبروا جميعا الحرز في وجوب القطع باتفاق منهم على ذلك .

وقالوا : من سرق من غير حرز فلا قطع عليه ، بلغ المقدار أو زاد ، والحجة لما ذهب إليه الفقهاء في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا قطع في حريسة جبل حتى يأويها المراح .

وأجمعوا أن السارق من مال المضاربة والوديعة لا قطع عليه .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : لا قطع على خائن ولا مختلس .

وأجمعوا على ذلك ، وفي إجماعهم على أن لا قطع على خائن ولا مختلس دليل على مراعاة الحرز .

وقال أهل الظاهر ، وبعض أهل الحديث ، وأحمد بن حنبل في رواية عنه : كل سارق يقطع ، سرق من حرز ، وغير حرز لأن الله أمر بقطع السارق أمرا مطلقا ، وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - المقدار ، ولم يذكر الحرز .

[ ص: 222 ] قال أبو عمر :

الحجة عليهم ما ذكرنا ، وبالله توفيقنا .

واختلف الفقهاء في أبواب من معاني الحرز يطول ذكرها ، فجملة قول مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي ، وأصحابهم أن السارق من غير حرز لا قطع عليه .

وجملة قول مالك ، والشافعي في الحرز : أن الحرز كل ما يحرز به الناس أموالهم إذا أرادوا التحفظ بها ، وهو يختلف باختلاف الشيء المحروز ، واختلاف المواضع ، فإذا ضم المتاع في السوق إلى موضع ، وقعد عليه صاحبه فهو حرز .

وكذلك إذا جعل في ظرف فأخرج منه ، وعليه من يحرزه .

أو كانت إبل قطر بعضها إلى بعض ، أو أنيخت في صحراء حيث ينظر إليها ، أو كانت غنما في مراحها ، أو متاعا في فسطاط ، أو بيتا مغلقا على شيء أو مقفولا عليه .

وكل ما تنسبه العامة إلى أنه حرز على اختلاف أزمانها وأحوالها .

قال الشافعي : ورداء صفوان كان محرزا باضطجاعه عليه ، فقطع النبي - صلى الله عليه وسلم - سارقه .

قال : ويقطع النباش إذا أخرج الكفن من جميع القبر ; لأن هذا حرز مثله .

مذهب المالكيين ، والشافعيين في هذا الباب متقارب جدا .

ولا سبيل إلى إيراد مسائل السرقة على اختلاف أنواع الحرز ، وقد ذكرنا هاهنا جملا تكفي ، ومن أراد الوقوف على الفروع نظر في كتب الفقهاء ، وبان له ما ذكرناه ، وبالله التوفيق .

[ ص: 223 ] واختلفوا أيضا في السارق يرفع إلى الحاكم سرقته بيده ، فيحكم عليه بالقطع لثبوت سرقته بإقراره أو ببينة عدول قامت عليه ، فيهب له المسروق منه ما سرقه ، هل يقطع أم لا ؟ فقال مالك ، وأهل المدينة ، والشافعي ، وأهل الحجاز : يقطع لأن الهبة إنما وقعت بعد وجوب الحد فلا يسقط ما قد وجب لله .

كما أنه لو غصب جارية ثم نكحها قبل أن يقام عليه الحد لم يسقط ذلك الحد عنه .

قال الطحاوي : ويختلفون في هذه المسألة لو كانت الهبة قبل أن يؤتى بالسارق إلى الإمام ، فقال أهل الحجاز منهم مالك ، والشافعي : يقطع ، ووافقهم على ذلك ابن أبي ليلى .

وقال أبو يوسف : في هذا لا يقطع .

وأما أبو حنيفة ، ومحمد بن الحسن فقالا : لا يقطع في شيء من ذلك ، مع وقوع مالكه على السرقة قبل أن يرفع إلى الإمام ، وبعد أن يرفع إليه .

وحجة أبي يوسف قوله - صلى الله عليه وسلم - : فهلا قبل أن تأتيني به ، وهذا يدل على أنه لو وهب للسارق رداءه قبل أن يأتيه به لما قطع - والله أعلم - .

قال أبو عمر :

الحجة قائمة لمالك والشافعي على أبي حنيفة بالحديث المذكور في هذا الباب ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع يد السارق الذي سرق ثوب صفوان بن أمية بعد أن وهبه له ، وقال : هلا قبل أن تأتيني به .

[ ص: 224 ] ومعنى قوله عندهم : فهلا قبل أن تأتيني به هلا كان ما أردت من العفو عنه قبل أن تأتيني به ; فإن الحدود إذا لم أوت بها ، ولم أعرفها لم أقمها ، وإذا أتتني لم يجز العفو عنها ، ولا لغيري ; هذا معناه - والله أعلم - .

وقد احتج الشافعي بالزاني توهب له الأمة التي زنى بها ، أو يشتريها ، أن ملكه الطارئ لا يزيل الحد عنه ، فكذلك السرقة .

ومن حجة أبي حنيفة في قوله متى وهب السرقة صاحبها للسارق سقط الحد قوله - صلى الله عليه وسلم - : تعافوا عن الحدود بينكم فما بلغني من حد فقد وجب .

قال : فهذا الحد قد عفي عنه بالهبة ، وقد حصلت ملكا للسارق قبل أن يبلغ السلطان ، فلم يبلغ الحد السلطان إلا وهو معفو عنه .

قال : وما حصل ملكا للسارق استحال أن يقطع فيه ; لأنه إنما يقطع في ملك غيره لا في ملك نفسه .

ومن حجتهم أيضا أن الطارئ من الشبهة في الحدود بمنزلة ما هو موجود في الحال قياسا على الشهادات ، وبالله التوفيق .

قال أبو عمر :

لا أعلم بين أهل العلم اختلافا في الحدود إذا بلغت إلى السلطان ، لم يكن فيها عفو لا له ولا لغيره ، وجائز للناس أن يتعافوا الحدود ما بينهم ما لم يبلغ السلطان ، وذلك محمود عندهم [ ص: 225 ] وفي هذا كله دليل على أن لصاحب السرقة في ذلك ما ليس للسلطان ، وذلك ما لم يبلغ السلطان ، فإذا بلغ السارق إلى السلطان لم يكن للمسروق منه شيء من حكمه في عفو ولا غيره ، لأنه لا يتبعه بما سرق منه إذا وهبه له .

ألا ترى أنهم قد أجمعوا على أن السارق لو أقر بسرقة عند الإمام يجب في مثلها القطع سرقها من رجل غائب أنه يقطع وإن لم يحضر رب السرقة ، ولو كان لرب السرقة في ذلك مقال لم يقطع حتى يحضر فيعرف ما عنده فيه .

وقد اختلفوا في السارق تدعى عليه السرقة في ثوب هو بيده يدعيه لنفسه ، وصاحب السرقة غائب .

فقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهما : لا يخاصمه في ذلك أحد إلا رب الثوب ، ولا يسمع من غيره في ذلك بينة ، ولا خصومة في ذلك بينه وبين من يدعي عليه حتى يأتي رب الثوب أو وكيله في ذلك .

وقال ابن أبي ليلى ، ومالك : كل من خاصمه في ذلك من الناس كان خصما له ، وسمعت بينته ، فإن قبلت قطع ، وإن لم يأت بمدفع ، وهذه المسائل كلها في معنى الحديث فلذلك ذكرناها وبالله التوفيق .

[ ص: 226 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية