التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
682 [ ص: 66 ] حديث ثامن من مراسيل ابن شهاب .

مالك عن ابن شهاب ، أن عائشة وحفصة زوجي النبي - صلى الله عليه وسلم - أصبحتا صائمتين متطوعتين ، فأهدي لهما طعام فأفطرتا عليه ، فدخل عليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قالت عائشة : فقالت حفصة وبدرتني بالكلام وكانت بنت أبيها : يا رسول الله ، إني أصبحت أنا وعائشة صائمتين متطوعتين ، فأهدي لنا طعام فأفطرنا عليه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اقضيا يوما مكانه آخر .


هكذا هذا الحديث في الموطأ عند جميع رواته فيما علمت ، وقد روي عن عبد العزيز بن يحيى عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة مسندا ، ولا يصح ذلك عن مالك والله أعلم .

حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا محمد بن عبد الله بن أحمد ، حدثنا أبي قال : حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي سعيد حدثنا [ ص: 67 ] عبد العزيز بن يحيى ، حدثنا مالك عن ابن شهاب ( عن ) عروة ، أن عائشة وحفصة أصبحتا صائمتين متطوعتين ، فأهدي لهما شيء من طعام فأفطرتا عليه ، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت عائشة : قالت حفصة - وبدرتني بالكلام وكانت ابنة أبيها - فقالت : يا رسول الله أصبحت أنا وعائشة صائمتين متطوعتين فأهدي لنا شيء من طعام فأفطرنا عليه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صوما يوما مكانه .

وقد روي عن مطرف وروح بن عبادة كذلك مسندا عن عروة عن عائشة ، وكذلك رواه القدامي ، ولا يصح عنه عن مالك إلا ما في الموطأ ، وهو حديث اختلف فيه على ابن شهاب ، فرواه مالك كما ترى ، ورواه جعفر بن برقان وسفيان بن حصين ، وصالح بن أبي الأخضر ، وإسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة ، وصالح بن كيسان ، ويحيى بن سعيد ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : كنت أنا وحفصة صائمتين - الحديث مثله سواء بمعناه - مسندا .

قال أبو عمر : مدار حديث صالح بن كيسان ويحيى بن سعيد على يحيى بن أيوب ، وهو صالح وإسماعيل بن إبراهيم متروك الحديث ، وجعفر بن برقان في الزهري ليس بشيء ، وسفيان بن حسين وصالح بن أبي الأخضر في حديثهما عن [ ص: 68 ] الزهري خطأ كثير ، وحفاظ أصحاب ابن شهاب يروونه مرسلا ، منهم مالك ومعمر وعبيد الله بن عمر وابن عيينة .

هكذا روى حديث عبيد الله بن عمر عنه يحيى القطان ، وقد رواه أبو خالد الأحمر عن عبيد الله بن عمر ويحيى بن سعيد وحجاج بن أرطاة عن الزهري عن عروة عن عائشة وحفصة .

حدثنا محمد بن رشيق قال : حدثنا أحمد بن سليمان البغدادي قال : حدثنا الهيثم بن خلف الدوري قال : حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال : حدثنا أبو خالد الأحمر عن عبيد الله بن عمر ويحيى بن سعيد وحجاج بن أرطاة ، كلهم عن الزهري عن عروة ، أن عائشة وحفصة أصبحتا صائمتين فأهدي لهما هدية ، فدخل عليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أفطرتا ، فأمرهما أن يقضيا يوما مكانه ، وكان ابن عيينة يحكي عن الزهري أن هذا الحديث ليس هو عن عروة .

وحدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا محمد بن منصور قال : حدثنا سفيان قال : سمعناه من صالح ( بن أبي ) الأخضر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : أصبحت أنا وحفصة [ ص: 69 ] صائمتين ، فأهدي لنا طعام محروص عليه ، فذكر الحديث . قال سفيان : فسألوا ( الزهري ) وأنا شاهد : أهو عن عروة ؟ قال : لا .

قال أبو عمر : أظن السائل الذي أشار إليه بالذكر ابن عيينة في هذا الحديث هو ابن جريج ; لأنه قد سأل ابن شهاب عن هذا الحديث وبين العلة فيه .

حدثني خلف بن أحمد وعبد بن يحيى قالا : ( حدثنا ) أحمد بن سعيد قال : حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي قال : حدثنا عباس بن محمد قال : حدثنا يحيى بن معين قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن جريج قال : قلت لابن شهاب أحدثك عروة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أفطر في التطوع فليصمه ؟ قال : لم أسمع من عروة في ذلك شيئا ، ولكن حدثني في خلافة سليمان إنسان عن بعض من كان يسأل عائشة أنها قالت : أصبحت أنا وحفصة صائمتين ، فقرب إلينا طعام فابتدرناه فأكلنا ، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - فبدرتني حفصة وكانت بنت أبيها ، فذكرت ذلك له فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : صوما يوما مكانه .

[ ص: 70 ] وهكذا هو في المصنف في رواية الدبري سواء حرفا بحرف .

وقال الشافعي : أخبرنا مسلم بن خالد ، عن ابن جريج قال : فقلت له - يعني ابن شهاب : أسمعته من عروة بن الزبير ؟ قال : لا ، إنما أخبرنيه رجل بباب عبد الملك بن مروان ، أو رجل من جلساء عبد الملك بن مروان .

قال أبو عمر : وقد روي في هذا الباب أيضا من حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة حديث لا يصح فيه قوله - صلى الله عليه وسلم - : صوما يوما مكانه .

وروي فيه عن ابن عباس أيضا بمثل ذلك حديث منكر ، وأحسن حديث في هذا الباب إسنادا حديث ابن وهب عن حيوة ، عن ابن الهادي ، عن زميل مولى عروة ، عن عروة ، عن عائشة .

وحديث ابن وهب أيضا ، عن جرير بن حازم ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة إلا أن غير جرير إنما يرويه عن يحيى بن سعيد عن الزهري ، وقد تقدمت علل حديث الزهري في ذلك ، وليس في حديث جرير بن حازم عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة ذكر متطوعتين ، ولكنه [ ص: 71 ] محمول على ذلك ; لأنه معلوم أنهما لو كان صيامهما واجبا ما أفطرتا ، ولو أفطرتا ما احتاجتا إلى نقل القضاء في ذلك ، والله أعلم .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المومن قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن صالح قال : حدثنا عبد الله بن وهب قال : أخبرني حيوة بن شريح ، عن ابن الهادي عن زميل مولى عروة عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : أهدي لي ولحفصة طعام ، وكنا صائمتين فأفطرنا ، ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا : يا رسول الله ، إنا أهديت لنا هدية فاشتهيناها فأفطرنا ، فقال : لا عليكما صوما يوما مكانه .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا الربيع بن سليمان قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني حيوة بن شريح ، عن ابن الهادي قال : حدثني زميل مولى عروة عن عروة عن عائشة فذكره سواء حرفا بحرف .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا أحمد بن عيسى ، عن ابن وهب ، عن جرير بن حازم ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة قالت : أصبحت صائمة أنا وحفصة وأهدي لنا طعام [ ص: 72 ] فأعجبنا فأفطرنا ، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - فبادرتني حفصة فسألته فقال : صوما يوما مكانه .

قال أبو عمر : اختلف الفقهاء في هذا الباب ، فقال مالك وأصحابه : من أصبح صائما متطوعا فأفطر متعمدا فعليه القضاء . وكذلك قال أبو حنيفة وأبو ثور ، وحجتهم ما قد ذكرنا في هذا الباب من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق : أستحب له أن لا يفطر ، فإن أفطر فلا قضاء عليه .

وقال الثوري : أحب إلي أن يقضي .

واختلف أصحاب أبي حنيفة : فمنهم من قال بقول الشافعي ، ومنهم من قال بقول صاحبهم ، والفقهاء كلهم من أهل الرأي والأثر يقولون : إن المتطوع إذا أفطر ناسيا أو غلبه شيء ، فلا قضاء عليه .

وقال ابن علية : المتطوع عليه القضاء إذا أفطر ناسيا أو عامدا قياسا على الحج . قال الأثرم : سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن رجل أصبح صائما متطوعا فبدا له فأفطر ، أيقضيه ؟

[ ص: 73 ] فقال : إن قضاه فحسن ، وأرجو أن لا يجب عليه شيء ، قيل له : فالرجل يدخل في الصلاة متطوعا أله أن يقطعها . فقال : الصلاة أشد ، فلا يقطعها ، قيل له : فإن قطعها أيقضيها ؟ فقال : إن قضاها خرج من الاختلاف .

قال أبو عمر : من حجة من قال : إن المتطوع إذا أفطر لا شيء عليه من قضاء ولا غيره ، ما حدثناه عبد الله بن محمد بن عبد المومن قال : حدثنا محمد بن بكر بن داسة قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث ، عن أم هانئ قالت : لما كان يوم الفتح فتح مكة جاءت فاطمة فجلست عن يسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأم هانئ عن يمينه ، قال : فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب فناولته فشرب منه ، ثم ناوله أم هانئ فشربت منه ، قالت : يا رسول الله ، لقد أفطرت وكنت صائمة ، قال لها : أكنت تقضين شيئا ؟ قالت لا ، قال : فلا يضرك إن كان تطوعا .

[ ص: 74 ] حدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا الربيع بن سليمان قال : حدثني يحيى بن حسان قال : حدثنا حماد ، عن سماك بن حرب ، عن هارون بن أم هانئ ، عن أم هانئ قالت : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا صائمة ، فأتي بإناء من لبن فشرب ، ثم ناولني فشربت ، فقلت : يا رسول الله ، إني كنت صائمة ولكني كرهت أن أرد سؤرك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن كان من قضاء رمضان فاقضي يوما مكانه ، وإن كان من غير قضاء رمضان ، فإن شئت فاقضي وإن شئت فلا تقضي .

اختلف في هذا الحديث على سماك وغيره ، وهذا الإسناد أصح إسناد لهذا الحديث ، وما خالفه فلا يعرج عليه ، ورواه شعبة كذلك عن سماك ، قال شعبة : وكان سماك يقول : حدثني ابنا أم هانئ ، فرويته عن أفضلهما .

واحتج الشافعي أيضا لجواز الفطر في التطوع بأن قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن طلحة بن يحيى عن عمته عائشة بنت طلحة عن عائشة قالت : دخل علي رسول الله [ ص: 75 ] - صلى الله عليه وسلم - فقلت : إنا خبأنا لك حيسا ، فقال : أما إني كنت أريد الصوم ولكن قربيه .

قال : وأخبرنا سفيان عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة حتى إذا كان بكراع الغميم وهو صائم رفع إناء فوضعه على يده وهو على الرحل ، فشرب والناس ينظرون قال : وهذا لما كان له أن يدخل في الصوم في السفر وأن لا يدخل ، وكان مخيرا في ذلك ، كان له إذا دخل فيه أن يخرج منه ، فالتطوع بهذا أولى .

قال : وأخبرنا مسلم بن خالد وعبد المجيد ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، أن ابن عباس كان لا يرى بالإفطار في صيام التطوع بأسا . قال : وأخبرنا مسلم وعبد المجيد ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، أن ابن عباس كان لا يرى بأسا أن يفطر الإنسان في صيام التطوع ويضرب لذلك أمثالا : رجل طاف سبعا ولم يوفه فله ما احتسب ، أو صلى ركعة [ ص: 76 ] ثم لم يصل أخرى ، فله ما احتسب ، قال : وأخبرنا مسلم وعبد المجيد ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، أنه كان لا يرى بالإفطار في صيام التطوع بأسا .

قال : وأخبرنا عبد المجيد ، عن ابن جريج عن عطاء عن أبي الدرداء مثله .

وذكر هذه الآثار كلها عبد الرزاق ، عن ابن جريج عن عطاء وعن عمرو بن دينار ، وعن أبي الزبير سواء .

وذكر عن معمر عن الزهري عن عبيد الله ، أن ابن عباس قال : الصوم كالصدقة أردت أن تصوم فبدا لك ، أو أردت أن تصدق فبدا لك .

قال عبد الرزاق : وأخبرنا إسرائيل عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : من أصبح صائما متطوعا ، إن شاء صام وإن شاء أفطر ولا قضاء ، وهو قول سليمان ، [ ص: 77 ] وأبي الدرداء ومجاهد وطاوس وعطاء ، واختلف فيها عن سعيد بن جبير ، وهو أحد قوليه .

ذكر ابن أبي كبشة عن شريك ، أنه أخبره عن سالم - يعني الأفطس - أنه صنع طعاما فأرسل إلى سعيد بن جبير فقال : إني صائم ، فحدثه بحديث سلمان أنه فطر أبا الدرداء فأفطر .

واحتج الشافعي على من أدخل عليه الحجة بالإجماع في حج التطوع والعمرة أنه ليس لأحد الخروج منهما بعد الدخول فيهما ، وإن من خرج منهما قضاهما ، وأن الصيام قياس عليه بأن قال : الفرق بين ذلك أن من أفسد صلاته أو صيامه أو طوافه كان عاصيا لو تمادى في ذلك فاسدا ، وهو بالحج مأمور بالتمادي فيه فاسدا ، ولا يجوز له الخروج منه حتى يتمه على فساده ثم يقضيه ، وليس كذلك الصوم والصلاة .

حدثنا عبد الله بن محمد قال : أخبرنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا وكيع عن طلحة بن يحيى ، عن عائشة بنت طلحة ، عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل علي قال : هل عندكم من طعام ؟ فإذا قلنا لا قال إني صائم ، [ ص: 78 ] فدخل علينا يوما فقلنا : يا رسول الله ، أهدي لنا حيس فحبسناه لك ، فقال : أدنيه ، فأصبح صائما وأفطر .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا عمرو بن علي قال : حدثنا يحيى قال : حدثنا طلحة بن يحيى قال : حدثتني عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيها وهو صائم فيقول : أصبح عندكم شيء نطعمه ؟ فتقول : لا ، فيقول : إني صائم ، ثم جاءها بعد ذلك فقالت : أهديت لنا هدية ، فقال : ما هي . قالت : حيس ، قال : قد أصبحت صائما ، فأكل .

ورواه الثوري عن طلحة بن يحيى ، عن عائشة بنت طلحة ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

وقد روي عن الثوري أيضا عن طلحة بن يحيى ( عن مجاهد ، عن عائشة ، وكذلك رواه أبو الأحوص وشريك والحديث لطلحة بن يحيى ) عن عائشة بنت طلحة ومجاهد جميعا ، عن عائشة ، قد جمعهما في هذا الإسناد عن طلحة بن يحيى - القاسم بن معن والثوري .

[ ص: 79 ] وقال النسائي : من قال في هذا الحديث عن ابن عيينة أو غيره عن طلحة بن يحيى " كنت أردت الصوم ولكن أصوم يوما مكانه " ، فقد أخطأ . قال : وقد رواه جماعة عن طلحة بن يحيى فلم يذكر أحد منهم " ولكن أصوم يوما مكانه " .

قال أبو عمر : طلحة بن يحيى انفرد بهذا الحديث ، وما انفرد به فليس بحجة عند جميعهم لضعفه .

ومن حجة مالك ومن قال بقوله في إيجاب القضاء على المتطوع إذا أفسد صومه عامدا مع حديث ابن شهاب في قصة عائشة وحفصة المذكور في هذا الباب قول الله - عز وجل - : ولا تبطلوا أعمالكم ، وقوله تبارك وتعالى : ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه ، وليس من أفطر عامدا بعد دخوله في الصوم بمعظم لحرمة الصوم ، وقد أبطل عمله الذي أمر الله بتمامه ونهاه عن إبطاله ، والنهي عن الشيء يقتضي الأمر بضده ، وقد قال الله - عز وجل - : ثم أتموا الصيام إلى الليل ، وهذا يقتضي عمومه الفرض والنفل كما قال - عز وجل - : وأتموا الحج والعمرة لله .

[ ص: 80 ] وقد أجمعوا على أن المفسد لحجة التطوع أو عمرته أن عليه القضاء ، فالقياس على هذا الإجماع إيجاب القضاء على مفسد صومه عامدا قياس صحيح ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب ، فإن كان مفطرا فليأكل .

وروي : فإن شاء أكل ، وإن كان صائما فليدع وروي : فليصل يريد فليدع ، وروي في هذا الحديث أيضا وإن كان صائما فلا يأكل فلو كان الفطر في التطوع حسنا لكان أفضل ذلك وأحسنه في إجابة الدعوة التي هي سنة مسنونة ، فلما لم يكن ذلك كذلك علم أن الفطر في التطوع لا يجوز .

وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا تصوم امرأة وزوجها شاهد يوما من غير شهر رمضان إلا بإذنه ، وفي هذا ما يدل على أن المتطوع لا يفطر ولا يفطر غيره ; لأنه لو كان للرجل أن يفسد عليها ما احتاجت إلى إذنه ، ولو كان مباحا كان ذلك لا معنى له ، والله أعلم .

وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قدم إليه سمن وتمر وهو صائم فقال : ردوا تمركم في وعائه ، وردوا سمنكم في سقائه ، فإني صائم ولم يفطر بل أتم صومه إلى [ ص: 81 ] الليل على ظاهر قول الله - عز وجل - : ثم أتموا الصيام إلى الليل ، ولم يخص فرضا من نافلة .

وقد روي عن ابن عمر في المفطر متعمدا في صوم التطوع أنه قال : ذلك اللاعب بدينه ، أو قال : بصومه .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن الجهم ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا شعبة عن الحكم ، عن سعيد بن جبير أنه دعي إلى طعام وهو صائم فقال : لأن تختلف الأسنة في جوفي أحب إلي من أن أفطر .

قال : وحدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا قزعة بن سويد قال : حدثني معروف بن أبي معروف أن عطاء صنع لهم طعاما بذي طوى ، فقربه إليهم وعطاء صائم ومجاهد صائم وسعيد بن جبير صائم ، فأفطر عطاء ومجاهد ، وقال سعيد : لأن تختلف الشفار في جوفي أحب إلي من أن أفطر . وقد روي عن سعيد بن جبير خلاف ذلك على ما تقدم .

قال أبو عمر : الاحتياط في أعمال البر أولى ما قيل به في ذلك ، وبالله التوفيق .

وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن حماد عن إبراهيم قال : إن أفطر المتطوع من غير عذر فعليه القضاء ، وهو مذهب ابن عمر ، وبه قال الحسن البصري ومكحول ، وهو قول مالك وأصحابه ، وإليه ذهب أبو ثور .

التالي السابق


الخدمات العلمية