التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
844 [ ص: 123 ] حديث ثاني عشر من مراسيل ابن شهاب .

مالك عن ابن شهاب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الله بن حذافة أيام منى يطوف يقول : إنما هي أيام أكل وشرب وذكر لله .


قال أبو عمر : قوله : " أيام منى " يريد الأيام التي يقيم الناس فيها بمنى في حجهم ، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، إلا لمن تعجل في يومين منها وهي أيام التشريق ، وهي الأيام المعدودات التي أمر الله عباده المؤمنين بذكر الله فيها ، ومعنى ذلك عند أهل العلم ذكر الله مع رمي الجمار هناك ، وفي سائر الأمصار تكبير أدبار الصلوات والله أعلم ، وسنبين ذلك ( كله ) في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله .

ويقال : سميت منى لاجتماع الناس بها ، والعرب تقول لكل مكان يجتمع الناس فيه منى ، لما يمنى فيه من الدماء .

[ ص: 124 ] هكذا هو في الموطأ عند جميع رواته عن مالك ، واختلف فيه أصحاب ابن شهاب عليه ، فرواه معمر عن الزهري ، عن مسعود بن الحكم الأنصاري ، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن حذافة السهمي أن يركب راحلته أيام منى فيصيح في الناس لا يصومن أحد ، فإنها أيام أكل وشرب قال : فلقد رأيته على راحلته ينادي بذلك .

ذكره عبد الرزاق عن معمر ، ورواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة .

حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن الجهم قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا صالح قال : حدثنا ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الله بن حذافة يطوف في منى لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وذكر لله .

ورواه يونس بن يزيد وابن أبي ذئب وعبد الله بن عمر العمري عن الزهري : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الله بن حذافة مرسلا هكذا ، كما رواه مالك سواء ، وهو الصحيح في حديث ابن شهاب هذا والله أعلم .

[ ص: 125 ] وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن صيام أيام منى من حديث علي بن أبي طالب ، ومن حديث عمرو بن العاص ، ومن حديث بشر بن سحيم وعقبة بن عامر وأنس بن مالك وأبي هريرة وامرأة من الأنصار وجماعة ، وإنما ذكرنا هاهنا حديث ابن شهاب خاصة ، فربما أردفناه بما خف علينا ونشطنا إليه من غير رواية ابن شهاب .

أخبرنا يعيش بن سعيد وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا مضر بن محمد قال : حدثنا يحيى بن معين قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أيام التشريق أيام طعم وذكر لله .

ورواه أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة بإسناده مثله سواء .

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا محمد بن الجهم قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا الربيع بن صبيح ومرزوق أبو عبد الله الشامي قالا : حدثنا يزيد الرقاشي عن أنس [ ص: 126 ] بن مالك قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم أيام التشريق .

وحدثنا أحمد بن محمد قال : حدثنا وهب بن مسرة قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا موسى بن معاوية وأبو بكر بن أبي شيبة قالا : حدثنا وكيع بن الجراح ، عن موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه ، عن عقبة بن عامر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عندنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب .

قال أبو عمر : هذا حديث في جمع يوم عرفة مع أيام التشريق في النهي عن صيامها ، لا يأتي إلا بهذا الإسناد ، وسيأتي القول في صوم يوم عرفة ، وما جاء في ذلك عن السلف في باب أبي النضر ، وهو الحديث الثالث لمالك عن أبي النضر في كتابنا هذا ، ويأتي في الحديث الخامس عشر عن أبي النضر القول في معنى أيام منى ; لأن مالكا روى عن أبي النضر سليمان بن يسار : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صيام أيام منى ، فذكرنا هنالك الآثار أيضا في ذلك ، وذكرنا ثم ما بلغنا [ ص: 127 ] عن الفقهاء وأهل اللغة في تعيين أيام منى وعددها واشتقاق معناها ، وذكرنا معنى أيام التشريق في باب يزيد بن الهادي ، كل ذلك ممهدا مبسوطا - إن شاء الله ، ونذكر هاهنا في باب يزيد بن الهادي أيضا اختلاف العلماء في صوم أيام التشريق ، وبالله العون والتوفيق .

وأما صيام أيام التشريق فلا خلاف بين فقهاء الأمصار فيما علمت أنه لا يجوز لأحد صومها تطوعا .

وقد روي عن الزبير وابن عمر والأسود بن يزيد وأبي طلحة ما يدل على أنهم كانوا يصومون أيام التشريق تطوعا ، وفي أسانيد أخبارهم تلك ضعف ، وجمهور العلماء من الفقهاء وأهل الحديث على كراهية ذلك .

ذكر ابن عبد الحكيم عن مالك فقال : لا بأس بسرد الصوم إذا أفطر يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيامها ، وقال في موضع آخر : ولا يتطوع أحد بصيام أيام منى لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيام أيام منى .

واختلفوا في المتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يكن صام الثلاثة الأيام في الحج قبل يوم النحر ، فقال الشافعي والكوفيون : [ ص: 128 ] لا يصوم المتمتع ولا غيره أيام التشريق ، ولا يصومها أحد بحال متطوع ولا غير متطوع ، وإن صامها المتمتع لم تجز عنه . وقال المزني : وقد كان الشافعي قال مرة : إن صامها المتمتع أجزأت عنه ، ثم رجع عن ذلك .

قال أبو عمر : قوله بالعراق إن المتمتع لم يصم الثلاثة أيام في الحج ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة صام أيام التشريق ، وهو قول مالك والأوزاعي وإسحاق .

وروي ذلك عن ابن عمر وعائشة وعروة وعبيد بن عمير والزهري ، وقال أحمد بن حنبل : أرجو أن لا يكون به بأس أن يصومها المتمتع إذا لم يكن صام قبلها ، قال : وربما جبنت عنه .

وقال الشافعي بمصر : لا يصوم أحد أيام منى لا متمتع ولا غيره ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري ، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب ، قال علي : يصوم بعد أيام التشريق . وبه قال الحسن وعطاء ، وروي عن ابن عباس وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير : إذا فات المتمتع الصوم في العشر لم يجزه إلا الهدي .

وقال ابن القاسم عن مالك : لا ينبغي لأحد أن يصوم أيام الذبح الثلاثة ، ولا يقضي فيها صياما واجبا من نذر ولا قضاء [ ص: 129 ] رمضان ، ولا يصومها إلا المتمتع وحده الذي لم يصم ولم يجد الهدي . قال : وأما آخر أيام التشريق فيصام إن نذره رجل أو نذر صيام ذي الحجة ، فأما قضاء رمضان أو غيره ، فلا يفعل إلا أن يكون قد صام قبل ذلك صياما متتابعا فمرض ثم صح ، وقوي على الصيام في هذا اليوم ، فيبني على الصيام الذي كان صامه في الظهار أو قتل النفس ، وأما قضاء رمضان خاصة فإنه لا يصومه فيه .

قال أبو عمر : لا أعلم أحدا من أهل العلم غير مالك وأصحابه فرقوا بين اليومين الأولين من أيام التشريق في الصيام خاصة وبين اليوم الثالث منها ، وجمهور علماء من أهل الرأي والأثر لا يجيزون صوم يوم الثالث من أيام التشريق في قضاء رمضان ، ولا في نذر ، ولا في غير ذلك من وجوه الصيام إلا للمتمتع وحده ، فإنهم اختلفوا في ذلك ولم يختلفوا فيما ذكرت لك لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيام أيام منى ، وعن صيام أيام التشريق وهي أيام منى ، وأقل ما يقع عليه أيام ثلاثة ، وليس في حديث ذكر صيام أيام الذبح ، إنما ذلك النهي عن صيام أيام التشريق .

ولا خلاف بين العلماء أن أيام التشريق هي الأيام المعدودات ، وهي أيام منى ، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، كل هذه الأسماء واقعة على هذه الأيام ولم يختلفوا في ذلك .

[ ص: 130 ] واختلف العلماء في الأيام المعلومات ، فقال مالك وأصحابه : هي يوم ( النحر ) ويومان بعده ، وهي أيام الذبح عنده ، وهو قول ابن عمر روى نافع ، عن ابن عمر قال : المعلومات يوم النحر ويومان بعده من أيام التشريق ، والأيام المعدودات الثلاثة ليس منها يوم النحر ، وهذا كله قول مالك سواء ، وقول أبي يوسف قال أبو يوسف : إلى هذا أذهب لقول الله - عز وجل - : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فهي أيام الذبح يوم النحر ويومان بعده على ما قال ابن عمر .

وقال أبو حنيفة : والشافعي الأيام المعلومات أيام العشر ، والمعدودات أيام التشريق ، وهو قول عبد الله بن عباس ، وبه قال إبراهيم النخعي وغيره ، وإليه ذهب الطبري .

وأما اختلاف العلماء في أيام الذبح ، فقال مالك وأبو حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل وأصحابهم : أيام الذبح يوم النحر ويومان بعده .

وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس ، وقال الأوزاعي والشافعي : أيام التشريق كلها الثلاثة أيام أضحى ، والأضحى عندهما أربعة أيام : يوم النحر ، وثلاثة أيام [ ص: 131 ] التشريق بعده ، وهو قول الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح ، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : كل فجاج مكة منحر ، وكل أيام التشريق ذبح ، وهو حديث في إسناده اضطراب ، وسنزيد هذه المسألة في أيام الذبح خاصة بيانا في باب يحيى بن سعيد إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية