التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1791 [ ص: 315 ] إسحاق ، عن أبي مرة حديث واحد

حديث رابع عشر لإسحاق

مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب ، عن أبي واقد الليثي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالس في المسجد والناس معه ، إذ أقبل ثلاثة نفر ، فأقبل اثنان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذهب واحد ، فلما وقفا على رسول الله سلما ، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها ، وأما الآخر فجلس خلفهم ، وأما الثالث فأدبر ذاهبا ، فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ألا أخبركم على النفر الثلاثة ؟ أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله ، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه ، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه .


هذا حديث متصل صحيح ، وأبو مرة قيل اسمه يزيد ، وقيل عبد الرحمن بن مرة ، فالله أعلم ، وهو من تابعي أهل المدينة ، ثقة ، وأبو واقد الليثي من جلة الصحابة ، شهد حنينا والطائف ، اسمه الحارث بن عوف ، وقيل الحارث بن مالك ، وقد ذكرناه ونسبناه في كتابنا في الصحابة .

وفي هذا الحديث الجلوس إلى العالم في المسجد .

وفيه أن الآتي يسلم على المقصود إليه ، كما يسلم الماشي على القاعد ، والراكب على الماشي .

[ ص: 316 ] وفيه التخطي إلى الفرج في حلقة العالم ، وترك التخطي إلى غير الفرج ، وليس ما جاء من حمد التزاحم في مجلس العالم والحض على ذلك بمبيح تخطي الرقاب إليه ; لما في ذلك من الأذى ، كما لا يجوز التخطي إلى سماع الخطبة في الجمعة والعيدين ونحو ذلك ، فكذلك لا يجوز التخطي إلى العالم إلا أن يكون رجلا يفيد قربه من العالم فائدة ويثير علما ، فيجب حينئذ أن يفتح له لئلا يؤذي أحدا حتى يصل إلى الشيخ ، ومن شرط العالم أن يليه من يفهم عنه لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلني منكم أولو الأحلام والنهى يعني في الصلاة وغيرها ; ليفهموا عنه ويؤدوا ما سمعوا كما سمعوا من غير تبديل معنى ولا تصحيف ، وفي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمتخطي يوم الجمعة " آذيت وآنيت " بيان أن التخطي أذى ، ولا يحل أذى مسلم بحال في الجمعة وغير الجمعة ، ومعنى التزاحم بالركب في مجلس العالم الانضمام والالتصاق ، ينضم القوم بعضهم إلى بعض على مراتبهم ، ومن تقدم إلى موضع فهو أحق به إلا أن يكون ما ذكرنا من قرب أولي الفهم من الشيخ ، فيفسح له ، ولا ينبغي له أن يتبطأ ثم يتخطى إلى الشيخ ليرى الناس موضعه منه ، فهذا مذموم ، ويجب لكل من علم موضعه أن يتقدم إليه بالتبكير ، والبكور إلى مجلس العالم كالبكور إلى الجمعة في الفضل إن شاء الله .

وقد أتينا من القول في أدب العالم والمتعلم بما فيه كفاية وشفاء في كتابنا كتاب بيان العلم .

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث " آوى إلى الله " يعني فعل ما يرضاه الله فحصل له الثواب من الله ، ومثل ذلك قوله عليه السلام [ ص: 317 ] الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما آوى إلى الله يعني ما كان لله ورضيه ، والله أعلم .

وأما قوله في الثاني : فاستحيا فاستحيا الله منه ، فهو من اتساع كلام العرب في ألفاظهم وفصيح كلامهم ، والمعنى فيه ، والله أعلم أن الله قد غفر له لأنه من استحيا الله منه لم يعذبه بذنبه وغفر له ، بل لم يعاتبه عليه ، فكان المعنى في الأول أن فعله أوجب له حسنة ، والآخر أوجب له فعله محو سيئة عنه ، والله أعلم .

وأما قوله في الثالث ، فأعرض فأعرض الله عنه ، فإنه - والله أعلم - أراد : أعرض عن عمل البر فأعرض الله عنه بالثواب ، وقد يحتمل أن يكون المعرض عن ذلك المجلس من في قلبه نفاق ومرض ; لأنه لا يعرض في الأغلب عن مجلس رسول الله إلا من هذه حاله ، بل قد بان لنا بقول رسول الله : فأعرض فأعرض الله عنه ، أنه منهم ; لأنه لو أعرض لحاجة عرضت له ما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك القول فيه ، ومن كانت هذه حاله كان إعراض الله عنه سخطا عليه ، وأسأل الله المعافاة والنجاة من سخطه بمنه ورحمته .

[ ص: 318 ] إسحاق عن حميدة حديث واحد

التالي السابق


الخدمات العلمية