التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1639 [ ص: 223 ] حديث أول لمحمد بن المنكدر مالك .

مالك عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله ، أن أعرابيا بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام ، فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، أقلني بيعتي ، فأبى ، ثم جاءه ، فقال : أقلني بيعتي ، فأبى ، ثم جاءه ، فقال : أقلني بيعتي ، فأبى ، فخرج الأعرابي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها .


[ ص: 224 ] هكذا رواه جماعة الرواة عن مالك فيما علمت بهذا اللفظ إلا عبد الله بن إدريس فإنه قال فيه عن مالك بإسناده : إنها طيبة تنفي الخبث ، وقوله في الحديث " طيبة " غريب لم يقله فيه غيره والله أعلم .

قال أبو عمر : في هذا الحديث من العلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبايع الناس على حدود الإسلام ، ومعنى ذلك أنه كان يبايعهم على شروط الإسلام ومعالمه ، وهذا معروف في غير ما حديث ، وكان ذلك الوقت من حدود الإسلام وفرائضه , البيعة على هجرة الأوطان والبقاء مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولذلك كان قطع الله ولاية المؤمنين المهاجرين ممن لم يهاجر منهم ، فقال : والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنا بريء من كل مسلم باق مع مشرك .

[ ص: 225 ] وكان يشترط عليهم السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ، إلى أشياء كثيرة كان يشترطها قد ورد في الآثار ذكرها ، كبيعته للنساء وغيرها .

وقد ورد بالنص بيعته للنساء ( المهاجرات ) وسكت عن الرجال لدخولهم في المعنى كدخول من أحصن من الرجال في قوله : والذين يرمون المحصنات , ومثل هذا كثير ، وقد ذكر جرير أنه اشترط عليهم النصح لكل مسلم ومعنى هذه المبايعة - والله أعلم - الإعلام بحدود الإسلام وشرائعه وآدابه .

وقال الشافعي - رحمه الله - : أما بيعة النساء فلم يشترط فيها السمع والطاعة ; لأنهن ليس عليهن جهاد كافر ولا باغ ، وإنما كانت بيعتهن على الإسلام وحدوده .

قال أبو عمر : قد كانت البيعة على وجوه ، منها أنها كانت أولا على القتال وعلى أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأبناءهم ونساءهم ، وعلى نحو ذلك كانت بيعة العقبة [ ص: 226 ] الثانية قبل الهجرة ، ثم لما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بايع الناس على الهجرة وقال : أنا بريء من كل مسلم مع مشرك ، فكان على الناس فرضا أن ينتقلوا إلى المدينة إذ لم يكن للإسلام دار ذلك الوقت غيرها ، ويدعوا دار الكفر ، وعلى هذا - والله أعلم - كانت بيعة هذا الأعرابي المذكور في هذا الحديث عن الإسلام والهجرة ، فلما لحقه من الوعك ما لحقه تشاءم بالمدينة وخرج عنها منصرفا إلى وطنه من أهل الكفر ، ولم يكن ممن رسخ الإيمان في قلبه ، وربما كان من جنس الأعراب الذين قال الله - عز وجل - فيهم الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله .

ولما فتحت مكة لم يبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا على الهجرة ، وإنما كانت البيعة على الإقامة بدار الهجرة قبل أن يفتح الله على رسوله مكة ، وكان المعنى في البيعة على الهجرة الإقامة بدار الهجرة وهي المدينة - عن رسول [ ص: 227 ] الله صلى الله عليه وسلم - في حياته ، حتى يصرفهم فيما يحتاج إليه من غزو الكفار وحفظ المدينة وسائر ما يحتاج إليه ، وكان خروجهم راجعين إلى دار أعرابيتهم حراما عليهم ; لأنهم كانوا يكونون بذلك مرتدين إلى الأعرابية من الهجرة ، ومن فعل ذلك كان ملعونا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ألا ترى إلى حديث شعبة والثوري عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن الحارث بن عبد الله عن عبد الله بن مسعود قال : آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهداه إذا علموا به والواشمة والمستوشمة للحسن ولاوي الصدقة والمرتد أعرابيا بعد هجرته ملعونون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة .

وروي عن عقبة بن عامر الجهني قال : بلغني قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وأنا في غنيمة لي فرفضتها ، [ ص: 228 ] ثم أتيته فقلت : جئت أبايعك ، فقال : بيعة أعرابية أو بيعة هجرة ؟ قلت : بيعة هجرة ، قال : فبايعته وأقمت .

قال أبو عمر : ففي قول عقبة في هذا الحديث " فبايعته وأقمت " دليل على أن البيعة على الهجرة توجب الإقامة بالمدينة ، وأن البيعة الأعرابية تخالفها لا توجب الإقامة بالمدينة على أهلها ، ويدلك على ذلك أن مالك بن الحويرث وغيره من الأعراب بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقاموا عنده أياما ، ثم رجعوا إلى بلادهم ، وقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم وصلوا كما رأيتموني أصلي .

وهذا الأعرابي المذكور في حديث مالك كان - والله أعلم - ممن بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المقام بدار الهجرة ، فمن هنا أبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إقالة بيعته ، وفي إباء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إقالة البيعة دليل على أن من العقود عقودا إلى المرء عقدها ، وليس له حلها ولا نقضها ، وذلك أن من عقد عقدا يجب عقده ولا يحل نقضه ، لم يجز له أن ينقضه ولم يحل له فسخه ، وإن كان الأمر كان إليه في العقد ، فليس إليه ذلك في النقض .

[ ص: 229 ] وليس كل ما للإنسان عقده له فسخه ، ولم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقبله بيعته ; لأن الهجرة كانت مفترضة يومئذ كما لم يكن له أن يبيح له شيئا حظرته عليه الشريعة إذا دخل فيها ولزمته أحكامها إلا بوحي من الله ، وأما من بعده فليس ذلك حكمه بوجه من الوجوه ; لأن الوحي بعده قد انقطع صلى الله عليه وسلم .

وفي هذا الحديث بيان فضل المدينة وأنها بقعة مباركة لا يستوطنها إلا المرضي من الناس ، وهذا عندي إنما كان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - منذ نزلها ، وقد كانت قبله كسائر ديار الكفر ، ولما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقي فضل قبره ومسجده ، والمدينة لا ينكر فضلها .

وأما قوله : تنفي خبثها وينصع طيبها فمعناه أنها تنفي حثالة الناس ، ولا يبقى فيها إلا الطيب الذي اختاره الله - عز وجل - لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، والخبث رذالة الحديد ووسخه الذي لا يثبت عند النار .

وأما قوله : " وينصع " فإنه يعني يبقى ويثبت ويظهر ، وأصل النصوع في الألوان البياض ، يقال : أبيض ناصع ويقق ، كما يقال : [ ص: 230 ] أحمر قانئ ، وأسود حالك ، وأصفر فاقع ، والمراد بهذه الكلمات الثبوت والصحة ، والناصع الخالص السالم ، قال النابغة الذبياني :


أتاك بقول هلهل النسج كاذب ولم يأت بالحق الذي هو ناصع



أي : خالص سالم من الاختلاف . وأما الخبث فلا يثبت ، وما لا يثبت فليس ظهوره بظهور ، وشبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة في ذلك الوقت بالكير والنار الذي لا يبقى على عمله إلا طيبه ويدفع الخبث ، وكذلك كانت المدينة لا يبقى فيها ولا يثبت إلا الطيب من الناس لصحبته - صلى الله عليه وسلم - وللفهم عنه ، فلما مات خرج عنها كثير من جلة أصحابه لنشر علمه والتبليغ لدينه - صلى الله عليه وسلم - ، فإن قيل : إن عمر بن عبد العزيز قد خشي أن يكون ممن نفت المدينة ، وليس ذلك في المعنى الذي ذكرت من صحبة [ ص: 231 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأخذ عنه ، بل ذلك لفضل المدينة الباقي إلى يوم القيامة .

قيل له : لا ينكر فضل المدينة عالم ، ولكن قوله : تنفي خبثها وينصع طيبها ليس إلا على ما قلنا ، بدليل خروج الفضلاء الصحابة الطيبين منها إلى الشام والعراق ، ولا يجوز أن يقال في واحد منهم إنهم كانوا خبثاء - رضي الله عنهم - ، وقد يقول العالم القول على الإشفاق على نفسه ، فلا يكون في ذلك حجة على غيره .

قال أبو عمر : كان خروج عمر بن عبد العزيز من المدينة حين قال هذا القول فيما ذكر أهل السير في شهر رمضان من سنة ثلاث وتسعين ، وذلك أن الحجاج كتب إلى الوليد - فيما ذكروا - أن عمر بن عبد العزيز بالمدينة كهف للمنافقين ، فجاوبه الوليد إني أعزله ، فعزله وولى عثمان بن حيان المري ، وذلك في شهر رمضان المذكور ، فلما صار عمر بالسويداء قال لمزاحم : يا مزاحم ، أتخاف أن تكون ممن نفت المدينة ؟ وقال ميمون بن مهران : ما رأيت ثلاثة في بيت خيرا من عمر بن عبد العزيز وابنه عبد الملك ومولاه مزاحم .

[ ص: 232 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا هارون بن معروف قال : حدثنا ابن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث عن أبي شهاب ، أن عمرو بن عبد الرحمن بن أمية حدثه ، أن أباه أخبره أن يعلى بن أمية قال : جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي أمية يوم فتح ، فقلت يا رسول الله ، بايع أبي على الهجرة ، فقال : أبايعه على الجهاد وقد انقطعت الهجرة .

وأخبرنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا محمد قال : حدثنا إسماعيل بن زكرياء ، عن عاصم ، عن أبي عثمان قال : حدثني مجاشع بن مسعود قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبايعه على الهجرة قال : قد مضت الهجرة لأهلها ، ولكن على الإسلام والجهاد والخير .

[ ص: 233 ] وذكر البخاري : حدثنا إسحاق بن يزيد ، حدثنا يحيى بن حمزة ، حدثنا الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح قال : زرت عائشة مع عبيد بن عمير ، فسألتها عن الهجرة فقالت : لا هجرة اليوم ، كان المؤمن يفر بدينه إلى الله - عز وجل - وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - مخافة أن يفتن عليه ، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام ، فالمؤمن يعبد ربه حيث شاء ، ولكن جهاد ونية .

التالي السابق


الخدمات العلمية