التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1656 [ ص: 249 ] حديث ثالث لمحمد بن المنكدر .

مالك عن محمد بن المنكدر ( وعن ) سالم أبي النضر مولى عمر بن عبد الله ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد : ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطاعون ؟ فقال أسامة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل ، أو على من كان قبلكم ، فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه .


قال مالك : قال أبو النضر : لا يخرجكم إلا فرار منه .

قال أبو عمر : هكذا قال يحيى في هذا الحديث : عامر بن سعد عن أبيه ، أنه سمعه يسأل أسامة ، وتابعه على ذلك من رواة الموطأ جماعة ، منهم مطرف وأبو مصعب ويحيى [ ص: 250 ] بن يحيى النيسابوري ، ولا وجه لذكر أبيه في ذلك ; لأن الحديث إنما هو لعامر بن سعد عن أسامة بن زيد سمعه منه ، وكذلك رواه معن بن عيسى وابن بكير ومحمد بن الحسن وجماعة سواهم عن مالك ، ولم يقولوا عن أبيه ، وقد جوده القعنبي فروى عن مالك عن محمد بن المنكدر ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص , أن أخبره أن أسامة بن زيد أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الطاعون رجز .

- وذكر الحديث لعامر عن أسامة - لم يقل فيه عن أبيه ، ولا ذكر أبا النضر مع محمد بن المنكدر ، وسائر رواة الموطأ يجمعون فيه عن مالك أبا النضر ومحمد بن المنكدر ( جميعا ) كما روى يحيى .

[ ص: 251 ] وقد روى قوم هذا الحديث عن عامر بن سعد عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو عندي وهم لا يصح - والله أعلم - ممن رواه كذلك .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا بكر بن حماد ، حدثنا مسدد ، حدثنا عبد الواحد بن زياد عن معمر عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر الطاعون ، فقال : وجع أرسل على من كان قبلكم الحديث .

وهذا مما حدث به معمر بالعراق ، وأهل الحديث يقولون : إن ما حدث به معمر بالعراق من حفظه لم يقمه ، وأخطأ في كثير منه ، والدليل على أن هذا مما أخطأ فيه - والله أعلم - ما حدثنا خلف بن قاسم قال : حدثنا ابن أبي العقب قال : حدثنا أبو زرعة قال : حدثنا أبو اليمن قال : حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال : حدثنا عامر بن سعد أنه سمع أسامة بن زيد ، وهو يحدث سعد بن أبي وقاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر هذا الوجع وساق الحديث بمعناه ، [ ص: 252 ] وهذا هو الصحيح فيه لعامر عن أسامة لا عن أبيه ، والله أعلم .

وقد رواه يزيد بن الهادي عن محمد بن المنكدر ، عن عامر بن سعد ، عن أسامة لا عن سعد ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا محمد بن عثمان الصيدلاني قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا إبراهيم بن حمزة قال : حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن يزيد بن عبد الله بن الهادي ، عن محمد بن المنكدر ، عن عامر بن سعد ، عن أسامة بن زيد ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر الطاعون عنده فقال : إنه رجس أو رجز عذبت به أمة من الأمم ، منه بقايا ، فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم فيه فلا تفروا منه فقال محمد بن المنكدر : فحدثت هذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال : هكذا حدثنيه عامر بن سعد .

وقد رواه عبد الحميد بن جعفر عن داود بن عامر بن سعد ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا وقع الطاعون بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها ، وإذا كان بغيرها ولستم بها فلا تدخلوها ، وهذا الإسناد ليس بحجة لمخالفة الحفاظ لداود بن عامر في ذلك ، وممن خالفه فيه ابن شهاب ومحمد بن المنكدر وعمرو بن دينار ، وهؤلاء لا نظير لهم في الحفظ والإتقان ، وليس داود بن عامر ممن يلحق بهم .

[ ص: 253 ] وحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو سمع عامر بن سعد قال : جاء رجل إلى سعد فسأله عن الطاعون فقال أسامة : أنا أخبرك : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا هجم الطاعون وأنتم بأرض فلا تخرجوا فرارا منه ، وإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوها .

فإن قيل : قد رواه أبو حذيفة عن الثوري ، عن محمد بن المنكدر ، عن عامر بن سعد ، عن سعد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قيل له : نعم ، وهو عندنا من حديث علي بن عبد العزيز ، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود كذلك ، ولكنه خطأ ، وكان أبو حذيفة كثير الوهم والخطأ في حديثه عن الثوري ، وقد ذكره ابن أبي شيبة عن عبد الله بن نمير عن سفيان الثوري ، عن محمد بن المنكدر ، عن عامر بن سعد ، عن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن هذا الطاعون رجز سلط على من كان قبلكم الحديث .

وهذا يشهد لما قلناه من خطأ أبي حذيفة ، فإن قيل : إن أسد بن موسى حدث بهذا الحديث عن ابن لهيعة ، عن الأعرج ، عن أشعث بن إسحاق بن سعد بن أبي وقاص ، أن سعدا كان إذا جاءه أسامة بن زيد لم يقربهما أحد فجاء عامر بن سعد فقعد إليهما ، [ ص: 254 ] فقال أسامة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارا ، فقال سعد لأسامة : أنت سمعت هذا ؟ قال : نعم ، مرتين ، فقال سعد : وأنا قد سمعته . قيل : هذا حديث لا يحتج به من ميز أقل شيء من طرق الأحاديث ; لأنه خبر منقطع ضعيف ، وابن لهيعة أكثر أهل العلم لا يقبلون شيئا من حديثه ، ومنهم من يقبل منه ما حدث به قبل احتراق كتبه ، ولم يسمع منه فيما ذكروا قبل احتراق كتبه إلا ابن المبارك وابن وهب لبعض سماعه .

وأما أسد ومثله فإنما سمعوا منه بعد احتراق كتبه ، وكان يملي من حفظه فيخطئ ويخلط ، وليس بحجة عند جميعهم ، وحديثه هذا أيضا مع ضعفه منقطع وأحاديث الحفاظ الثقات بخلافه .

حدثنا خلف بن قاسم قال : حدثنا عبد الله بن جعفر بن الورد قال : حدثنا يوسف بن يزيد قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال : سمعت عمرو بن سعد بن أبي وقاص قال : جاء رجل إلى سعد فسأله عن الطاعون وعنده أسامة بن زيد فقال أسامة : أنا أخبرك ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن [ ص: 255 ] هذا الطاعون رجز أو عذاب أرسل على من كان قبلكم ، أو على طائفة من بني إسرائيل ، فإذا وقع بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارا .

ورواية أسد لهذا الحديث عن ابن عيينة بخلاف روايته له عن ابن لهيعة , دليل على ضبط أسد ، فإن قيل : إن أبا خالد الأحمر روى عن عكرمة بن خالد المخزومي ، عن يحيى بن سعيد ، عن أبيه عن سعد أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : الطاعون رجز أصيب به من كان قبلكم الحديث ، وفيه سماع سعد له من النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل : وهذا أيضا حديث ضعيف الإسناد ترده أحاديث الحفاظ ; لأن سعدا لو كان عنده فيه سماع من النبي - عليه السلام - ما احتاج أن يسأل أسامة بن زيد عن ذلك في حديث مالك عن محمد بن المنكدر عن عامر بن سعد ، أنه سمع أباه يسأل أسامة بن زيد ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطاعون ، وفي حديث ابن عيينة عن عمرو بن دينار ، عن عامر بن سعد أنه سمع أسامة بن زيد يقول لأبيه سعد بن أبي وقاص في حديث الطاعون : أنا أخبرك بذلك ، فإن قيل : إن وكيع بن الجراح روى عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن إبراهيم بن [ ص: 256 ] سعد بن أبي وقاص عن أبيه وأسامة بن زيد وحذيفة قالوا : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن هذا الطاعون رجز الحديث ، قيل لقائل ذلك : هذا إسناد آخر غير إسناد عامر بن سعد ، وهذا الإسناد أيضا الصحيح فيه أن الحديث لإبراهيم بن سعد عن أسامة بن زيد وحده ، كذلك روى شعبة وأبو إسحاق الشيباني عن حبيب بن أبي ثابت ، وكذلك رواه جماعة عن الثوري ، وقد اضطرب فيه وكيع فمرة رواه جعله عن إبراهيم بن سعد عن أبيه وأسامة وحذيفة بن ثابت مكان حذيفة ، وأصحاب الثوري يخالفونه في ذلك ، فسقط الاحتجاج بروايته فيه .

وأما حديث شعبة فحدثنا أحمد بن قاسم بن عيسى المقرئ قال : حدثنا عبيد الله بن محمد بن حبابة قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي قال : حدثنا علي بن الجعد قال : حدثنا شعبة قال : حدثنا حبيب بن أبي ثابت قال : سمعت إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص يقول : سمعت أسامة بن زيد يحدث سعدا أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا سمعتم به بأرض ، فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها ، فلا تخرجوا منها قال حبيب : قلت لإبراهيم بن سعد : أنت سمعت أسامة يحدث سعدا وهو جالس لا ينكره ؟ قال : نعم .

[ ص: 257 ] أخبرنا عبد الله بن محمد قال : أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن جامع قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا عمرو بن عون قال : حدثنا خالد بن عبد الله ، عن أبي إسحاق الشيباني ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص ، عن أسامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن هذا الوجع رجز وذكر الحديث .

هذا ما يجيء على مذهب أهل الحديث في تهذيب إسناد هذا الخبر على أنه قد يمكن أن يكون سعد قد سمع ما سمع أسامة منه ، ولكن الحكم ما ذكرنا والله أعلم .

وأما قوله في هذا الطاعون رجز ، فالطاعون معلوم ، وقد مضى في تفسير معناه في باب ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ما فيه كفاية ، ومضت هناك أخبار في الطاعون حسان لا معنى لذكر شيء منها معادا هاهنا .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا عيسى بن أبي ذكويه المعروف بالدعاث قال : حدثنا فروة بن أبي المعزى قال : حدثنا علي بن مسهر عن يوسف بن [ ص: 258 ] ميمون ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عمر ، عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فناء أمتي بالطعن والطاعون قلت : الطعن قد عرفناه فما الطاعون ؟ قال : غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط ، من مات منه مات شهيدا ، وذكر تمام الخبر .

وأما الرجز فالعذاب ، لا يختلف في ذلك أهل العلم باللسان ، من ذلك قوله : فلما كشفنا عنهم الرجز وهو كثير ، وقد يكون الرجس والرجز سواء ، والرجز النجاسة ، والرجز أيضا عبادة الأوثان ، دليل ( ذلك ) قوله - عز وجل - : والرجز فاهجر ، ولا وجه لذكر الرجز في هذا الحديث إلا العذاب ، وكل ما ابتلي به الإنسان من الأوجاع والمحن والشيب وغير ذلك فهو من العذاب ، وقد قيل في الأدنى يوم بدر ، وقال : ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا هذا كله وما أشبهه من العذاب والله أعلم .

[ ص: 259 ] وأما قوله : أرسل على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فالشك من المحدث : هل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : على بني إسرائيل أو قال : أرسل على من قبلكم والمعنى - والله أعلم - أن الطاعون أول ما نزل في الأرض فعلى طائفة من بني إسرائيل قبلنا ، وأما نهيه عن القدوم عليه وعن الفرار منه فلئلا يلوم أحدهم بعد ذلك نفسه إن مرض منه فمات ، أو يقول غيره : لو لم يقدم عليه أو فر منه لنجا ونحو هذا ، فيلومون أنفسهم فيما لا لوم عليهم فيه ; لأن الباقي والناهض لا يتجاوز أحد منهم أجله ، ولا يستأخر عنه .

وفيه جاء النهي عن اللوم مطلقا ، يعني قولهم لو كان كذا لم يكن كذا ، ويقال : إنه ما فر أحد من الطاعون فنجا .

حدثنا محمد بن عبد الملك قال : أخبرنا عبد الله بن مسرور ، حدثنا عيسى بن مسكين ، حدثنا ابن سنجر ، حدثنا عارم ، حدثنا داود بن أبي الفرات قال : أخبرنا عبد الله بن بريدة ، عن يحيى بن يعمر ، عن عائشة ، حدثته أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطاعون ، فأخبرها نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان عذابا بعثه الله على من يشاء ، فجعله الله رحمة للمؤمنين ، فليس من عبد يقع الطاعون بأرض , فيثبت ولا يخرج ، [ ص: 260 ] ويعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد .

وقد ذكرنا أخبارا في باب ابن شهاب عن عبد الله بن عامر في الفرار عن الطاعون لا وجه لتكريرها هاهنا .

وفيه عندي - والله أعلم - النهي عن ركوب الغرر والمخاطرة بالنفس والمهجة ; لأن الأغلب في الظاهر أن الأرض الوبيئة لا يكاد يسلم صاحبها من الوباء فيها إذا نزل بها ، فنهوا عن هذا الظاهر ، إذ الآجال والآلام مستورة عنهم ، ومن هذا الباب أيضا قوله : لا يحل الممرض على المصح ، ثم قال : عند حقيقة الأمر : فمن أعدى الأول ؟ .

وأما قول أبي النضر في هذا الحديث لا يخرجكم إلا فرارا منه ، وكذا قال يحيى وغيره عن مالك ، فسيأتي القول فيه في باب أبي النضر إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية