التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
257 [ ص: 261 ] حديث رابع لمحمد بن المنكدر .

مالك عن محمد بن المنكدر عن سعيد بن جبير عن رجل عنده رضي , أنه أخبره أن عائشة أم المؤمنين أخبرته ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من امرئ تكون له صلاة بليل يغلبه عليها نوم ، إلا كتب الله له أجر صلاته ، وكان نومه عليه صدقة .


هكذا روى هذا الحديث جماعة الرواة عن مالك فيما علمت والرجل الرضي عند سعيد بن جبير قيل : إنه الأسود بن يزيد ، والله أعلم .

حدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا [ ص: 262 ] محمد بن سليمان بن أبي داود قال : كان يقال له بومة ، ليس به بأس ، وأبوه ليس بثقة ولا مأمون . قال : حدثنا أبو جعفر الرازي عن محمد بن المنكدر ، عن سعيد بن جبير ، عن الأسود بن يزيد ، عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من فاتته صلاة صلاها من الليل فنام عنها ، كان ذلك صدقة تصدق الله عليه ، وكتب له أجر صلاته .

وأما سعيد بن جبير فهو مولى لبني والبة من بني أسد يكنى أبا عبد الله ، كان شديد السمرة ، وكتب لعبد الله بن عتبة بن مسعود ، ثم كتب لأبي بردة وهو على القضاء ، وقد كان الحجاج ولاه قضاء الكوفة فضج أهل الكوفة وقالوا : لا يصلح للقضاء مولى ، ولا يصلح إلا رجل عربي ، فاستقضى الحجاج حينئذ أبا بردة وأمره أن لا يقطع أمرا دون سعيد بن جبير ، وكان أبو بردة على القضاء وبيت المال ، وكان سعيد يكتب له ، ثم خرج مع ابن الأشعث ، وكان يقول : والله ما خرجت على الحجاج حتى كفر ، فلما انهزم أصحاب ابن الأشعث بدير الجماجم هرب سعيد بن جبير إلى [ ص: 263 ] مكة ، فأخذه خالد بن عبد الله القسري ، وكان واليا للوليد على مكة ، فبعث به إلى الحجاج فقتله ، وذلك في سنة أربع وتسعين ، وهو ابن ثمان وأربعين سنة ، ومات الحجاج بعده بيسير ، قيل شهر ، وقيل شهران ، وقيل ستة أشهر ، ولم يقتل بعده - فيما قال ضمرة - أحدا .

وأما الأسود بن يزيد النخعي فيكنى أبا عبد الرحمن بابنه عبد الرحمن مات سنة خمس وسبعين ، وكان فاضلا عابدا مجتهدا حج من بين حجة وعمرة ستين ، وقيل ثمانين .

وروى سفيان عن أبي إسحاق قال : قالت عائشة أم المؤمنين : ما بالعراق أحد أعجب إلي من الأسود ، وقد جاء عن أبي الدرداء مرفوعا وموقوفا مثل حديث عائشة هذا .

روى حبيب بن أبي ثابت عن عبدة بن أبي لبابة عن سويد بن غفلة عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عينه حتى يصبح كتب الله له ما نوى ، وكان نومه صدقة عليه من ربه .

[ ص: 264 ] وذكر البزار قال : حدثنا حميد بن الربيع ، حدثنا حسين بن علي ، حدثنا زائدة عن عبدة بن أبي لبابة ، عن سويد بن غفلة ، عن أبي الدرداء - يبلغ به النبي عليه السلام - قال : من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل ، فغلبته عينه حتى يصبح كتب الله له ما نوى ، وكان نومه صدقة .

روى الثوري وابن عيينة عن عبدة بن أبي لبابة عن سويد بن غفلة ، عن أبي ذر وأبي الدرداء جميعا موقوفا ، وفي هذا الحديث ما يدل على أن المرء يجازى على ما نوى من الخير وإن لم يعمله ، كما لو أنه عمله ، وأن النية يعطى عليها كالذي يعطى على العمل إذا حيل بينه وبين ذلك العمل ، وكانت نيته أن يعمله ولم تنصرف نيته حتى غلب عليه بنوم أو نسيان أو غير ذلك من وجوه الموانع ، فإذا كان ذلك كتب له أجر ذلك العمل ، وإن لم يعمله فضلا من الله ورحمة ، جازى على العمل ، ثم على النية إن حال دون العمل حائل ، وفي مثل هذا الحديث - والله أعلم - جاء الحديث : نية المؤمن خير من عمله .

[ ص: 265 ] حدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا أبو طالب العباس بن أحمد بن سعيد بن مقاتل بن صالح مولى عبد الله بن جعفر قال : حدثنا موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده علي بن حسين ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نية المؤمن خير من عمله ، ونية الفاجر شر من عمله ، وكل يعمل على نيته ومعنى هذا الحديث - والله أعلم - أن النية بغير عمل خير من العمل بلا نية ، وتفسير ذلك أن العمل بلا نية لا يرفع ولا يصعد ، فالنية بغير عمل خير من العمل بغير نية ; لأن النية تنفع بلا عمل ، والعمل بلا نية لا منفعة فيه ، ويحتمل أن يكون المعنى فيه : أن نية المؤمن في الأعمال الصالحة أكثر مما يقوى عليه منه ، ونية الفاجر في الأعمال السيئة أكثر مما يعمله منها ، ولو أنه يعمل ما نوى في الشر أهلك الحرث والنسل ونحو هذا والله أعلم .

ويدل هذا الحديث على أن المؤمن قد يقع منه عمل بغير نية فيكون لغوا ، وهو مع ذلك مؤمن ، ويدل أيضا على أن المؤمن قد ينوي من الأعمال ما لا يعان عليه ، وأن الفاجر قد ينوي من الأعمال ما يعصم منه ولا يصل إليه .

وقد روى أبو هريرة [ ص: 266 ] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يعارض ظاهره هذا الحديث ، وليس بمعارض له إذا حمل على ما وصفنا والله أعلم .

حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن الفضل ، حدثنا محمد بن جرير ، حدثنا كريب ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن هشام بن حسان ، عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ) ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ، فإن عملها كتبت .

حدثنا أحمد بن محمد قال : حدثنا أحمد بن الفضل الدينوري قال : حدثنا محمد بن جرير ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا الحسن بن ذكوان عن أبي رجاء ، عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة ، وإن عملها كتبت له عشرا ، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة قال قلت : أنت سمعت ابن عباس يقول : لم يعملها كتبت له حسنة ؟ قال : نعم .

قال أبو عمر : حديث ابن عباس مخالف لحديث أبي هريرة في هذا الموضع ، ويحتمل أن يكون ذلك فيمن هم بسيئة فتركها خوف الله ، فقد روي عن ابن عباس ومجاهد [ ص: 267 ] وإبراهيم في قول الله - عز وجل - خاف مقام ربه جنتان هو الرجل يهم بالمعصية ثم يتركها لخوف المقام بين يدي الله عز وجل .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قراءة مني عليه أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال : حدثنا عبيد بن عبد الواحد البزار قال : حدثنا محبوب بن موسى قال : حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك قال لما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك حين دنا من المدينة قال : إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم ، قالوا : وهم بالمدينة ؟ قال : نعم ! حبسهم العذر ، هذا أبين شيء فيما قلنا ; لأن هؤلاء لما نووا الجهاد وأرادوه وحبسهم العذر كانوا في الأجر كمن قطع الأودية والشعاب مجاهدا بنفسه ، وهذا أشبه الأسباب بالذي عليه النوم , فمنعه من صلاة كان قد عزم عليها ونوى القيام إليها .

[ ص: 268 ] وهذا الحديث لم يسمعه حميد من أنس ، حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا حماد عن حميد عن موسى بن أنس عن أبيه أنس بن مالك ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ، ولا قطعتم من واد ، إلا وهم معكم ، قالوا : يا رسول الله ، وكيف وهم في المدينة ؟ قال : حبسهم العذر ، وقال الله - عز وجل - : لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر .

حدثنا أحمد بن قاسم ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، حدثنا يزيد بن هارون ، وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر ، حدثنا مسدد قال : حدثنا هشيم قالا : جميعا أخبرنا العوام بن حوشب قال : حدثنا إبراهيم بن عبد الرحمن السكسكي أبو إسماعيل أنه سمع أبا بردة بن أبي موسى سمع أبا موسى يقول : سمعت رسول الله [ ص: 269 ] - صلى الله عليه وسلم - يقول غير مرة ولا مرتين : من كان له عمل يعمله فشغله عنه مرض أو سفر فإنه يكتب له كصالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم - دخل حديث بعضهما في بعض .

وقد مضى في باب زيد بن أسلم قوله - صلى الله عليه وسلم - في المريض :
إنه يكتب له أجر ما كان يعمله في صحته ما دام في وثاق مرضه .

وذكر سنيد قال : حدثنا شريك عن عاصم بن أبي رزين ، عن ابن عباس في قوله : ثم رددناه أسفل سافلين إلى أرذل العمر , إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات قال : إذا كبر ولم يطق العمل كتب له ما كان يعمل .

قال : وحدثنا وكيع عن سفيان عن حماد عن إبراهيم بمثله ، قال : إذا كبر ولم يطق العمل كتب له ما كان يعمل في قوته ، قال : وحدثنا حماد عن داود عن عكرمة ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : إذا كبر وعجز يجرى عليه أجر ما كان يعمل في شبيبته غير ممنون - هذا توضيح أيضا [ ص: 270 ] لما قلنا ، وقد يدخل مما في الموطأ في هذا الباب - حديث مالك عن داود بن الحصين ، عن الأعرج ، عن عبد الرحمن بن عبد الباري ، عن عمر قال : من فاته حزبه من الليل فقرأه حين تزول الشمس إلى صلاة الظهر فإنه لم يفته . وهذا وإن كان فيه عمل فمعلوم أن صلاة الليل والقيام بالأسحار أفضل من النافلة بالنهار ، فعلى هذا المعنى يدخل في هذا الحديث ومثله - قول رسول الله صلى الله عليه وسلم - : من جهز غازيا كان له مثل أجره وهذا المعنى قد تقصيناه أيضا عند قوله - عليه السلام - : فإنه في صلاة ما كان منتظرا للصلاة وأتينا هناك من البيان ما لا معنى لتكريره هاهنا .

وأما حديث مالك ، عن داود ، عن الأعرج ، عن عبد الرحمن بن عبد الباري ، عن عمر ، فإن قوله فيه : " فقرأه حين تزول الشمس إلى صلاة الظهر " وهم عندي ، والله أعلم ، ولا أدري أمن داود جاء أم من غيره ؟ لأن المحفوظ فيه عن عمر من حديث [ ص: 271 ] ابن شهاب :
من نام عن حزبه أو عن شيء من حزبه ، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر ، كتب له كأنما قرأه وقد اختلف في إسناده ورفعه عن ابن شهاب ، فروى يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن السائب بن يزيد وعبيد الله بن عبد الله ، عن عبد الرحمن بن عبد الباري ، عن عمر بن الخطاب ، عن النبي - عليه السلام - قال : من نام عن حزبه وعن شيء من حزبه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب كأنما قرأه من الليل هكذا رواه ابن وهب وأبو صفوان عن يونس ، عن الزهري بإسناده مرفوعا .

واسم أبي صفوان عبد الله بن سعيد ، مكي ثقة ، روى عنه الحميدي وكبار الناس ، ورواه معمر عن الزهري ، عن عروة ، عن عبد الرحمن بن عبد الباري ، عن عمر بن الخطاب موقوفا عليه قوله ، وقد ذكر الدارقطني هذا الحديث في غرائب حديث مالك ، فقال : حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد المقرئ النقاش من أصل كتابه ، حدثنا أحمد بن طاهر بن حرملة بن يحيى ، حدثنا جدي حرملة بن يحيى ، حدثنا عبد الله بن وهب أخبرنا مالك بن أنس ، عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد وعبيد الله بن عبد الله عن عبد الرحمن بن عبد الباري ، [ ص: 272 ] عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
من نام عن حزبه أو عن شيء منه ، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل . قال أبو الحسن : لم يكتب من حديث مالك إلا من هذا الوجه ، وهو غريب عن مالك ، ومحفوظ من حديث يونس وعقيل عن الزهري ، قال : وأحمد بن طاهر ليس بالقوي .

قال أبو عمر : وهذا الوقت فيه من السعة ما ينوب عن صلاة الليل ، فيتفضل الله برحمته على من استدرك من ذلك ما فاته ، وليس من زوال الشمس إلى صلاة الظهر ما يستدرك فيه كل أحد حزبه ، وهذا بين والله أعلم
.

التالي السابق


الخدمات العلمية