التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
514 [ ص: 30 ] حديث رابع لمحمد بن يحيى بن حبان .

مالك عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس .


قال أبو عمر : هذا حديث لا يختلف في ثبوته وصحة إسناده ، وقد روي من وجوه كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد اختلف العلماء في هذا الباب اختلافا كثيرا لاختلاف الآثار فيه ; فقال منهم قائلون : لا بأس بالتطوع بعد الصبح وبعد العصر ; لأن النهي إنما قصد به إلى ترك الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها ، واحتجوا من الآثار برواية من روى النهي عن الصلاة في هذه الأوقات ، وروى ذلك جماعة من الصحابة ، وقد ذكرنا ذلك في باب زيد بن أسلم من كتابنا هذا عند ذكر حديث الصنابحي ، واحتجوا أيضا بقوله - صلى الله عليه وسلم - لا تصلوا بعد العصر إلا أن تصلوا ، والشمس مرتفعة [ ص: 31 ] وبقوله - صلى الله عليه وسلم - لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها وبإجماع المسلمين على الصلاة على الجنائز بعد الصبح وبعد العصر إذا لم يكن عند الطلوع وعند الغروب ، قالوا : فالنهي عن الصلاة بعد العصر والصبح هذا معناه وحقيقته ، قالوا : ومخرجه على قطع الذريعة ; لأنه لو أبيحت الصلاة بعد الصبح ، والعصر لم يؤمن التمادي فيها إلى الأوقات المنهي عنها ، وهي حين طلوع الشمس وغروبها . هذا مذهب ابن عمر ، وقال به جماعة ، ذكر عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج عن نافع سمع ابن عمر يقول : أما أنا فلا أنهى أحدا يصلي من ليل أو أن لا يتحرى طلوع الشمس ولا غروبها ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك .

وروى مالك عن ابن دينار عن عبد الله بن عمر معناه ، وهو قول عطاء وطاوس وعمر وابن جريج ، وروي عن ابن مسعود نحوه ، قال أبو عمر : مذهب ابن عمر في هذا الباب خلاف مذهب أبيه ; لأن عمر رضي الله عنه حمل الحديث في هذا الباب على العموم ، فكان يضرب بالدرة من رآه يصلي نافلة بعد الصبح أو بعد العصر ، وحديثه في ذلك ما رواه ابن عباس قال : حدثني رجال مرضيون ، منهم عمر ، وأرضاهم عندي عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس حدثناه عبد الوارث بن سفيان : حدثنا قاسم [ ص: 32 ] بن أصبغ : حدثنا بكر بن حماد : حدثنا مسدد : حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة عن قتادة قال : سمعت أبا العالية يحدث عن ابن عباس قال : حدثني ناس أعجبهم إلي عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، ومذهب عائشة في هذا الباب كمذهب ابن عمر : حدثنا أحمد بن فتح قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال : حدثنا أحمد بن خالد قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا عفان بن مسلم الصفار ، ومحمد بن أبي نعيم قالا : حدثنا وهيب عن ابن طاوس عن أبيه عن عائشة قالت : أوهم عمر ، إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة أن يتحرى بها طلوع الشمس أو غروبها .

وذكر عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن ابن سيرين قال : تكره الصلاة في ثلاث ساعات ، وتحرم في ساعتين ; تكره بعد العصر ، وبعد الصبح ، ونصف النهار في شدة الحر ، وتحرم حين قرن الشمس حتى يستوي طلوعها ، وحين تصفر حتى يستوي غروبها قال : وأخبرنا ابن جريج قال : سمعت أبا سعيد الأعمى يخبر عن رجل يقال له السائب مولى الفارسيين عن زيد بن خالد الجهني : أنه رآه عمر بن الخطاب ، وهو خليفة ركع بعد العصر ركعتين فمشى إليه ، وضربه بالدرة وهو يصلي ، فقال له زيد : يا أمير المؤمنين اضرب فوالله لا أدعهما ; إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليهما قال : [ ص: 33 ] فقال له عمر : يا زيد بن خالد ، لولا أني أخشى أن يتخذهما الناس سلما إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب فيهما ، وقال آخرون : أما الصلاة بعد الصبح إذا كانت تطوعا أو صلاة سنة ، ولم تكن قضاء فرض فلا تجوز البتة ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس نهيا مطلقا ، ومعنى نهيه في ذلك عن غير الفرض ( المعين ، والذي يجب منه على الكفاية كالصلاة على الجنائز ) بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ، وقد مضى القول في هذا المعنى مجودا في باب زيد بن أسلم من كتابنا هذا ، فأغنى عن إعادته هاهنا .

( وممن ذهب إلى هذا ابن عمر فيما أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال : حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل قال : حدثنا محمد بن الحسن قال الزبير بن بكار قال : حدثنا عمي مصعب بن عبد الله وإبراهيم بن حمزة عن جدي عبد الله بن مصعب عن قدامة بن إبراهيم بن محمد بن حاطب قال : ماتت عمتي ، وقد أوصت أن يصلي عليها عبد الله بن عمر فجئته حين صلينا الصبح فأعلمته فقال : اجلس فجلست حتى طلعت الشمس وصفت . قال إبراهيم بن حمزة ، في [ ص: 34 ] حديثه : وبلغت الكباش الذي في غربي مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قام يصلي عليها قالوا : فبلوغ الشمس الكباش الذي في غربي المسجد علم عند أهل المدينة لصلاة السبحة . قالوا : فهذا ابن عمر وهو يبيح الصلاة بعد العصر قد كرهها بعد الصبح .

قال أبو عمر : قد ذكرنا مذاهب العلماء في وقت الصلاة على الجنائز في باب زيد بن أسلم من حديث الصنابحي . قالوا : فالصلاة بعد العصر لا بأس بها ما دامت الشمس مرتفعة بيضاء لم تدن للغروب ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ثبت عنه أنه كان يصلي النافلة بعد العصر ، ولم يرو عنه أحد أنه صلى بعد الصبح نافلة ولا تطوعا ولا صلاة سنة بحال ، واحتجوا بقول عائشة : ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعد العصر في بيتي قط ، وبنحو ذلك من الآثار التي أباحت الصلاة بعد العصر ( ولم يأت شيء منها في الصلاة بعد الصبح ) .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وحدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم قالا : حدثنا [ ص: 35 ] جرير عن منصور عن هلال بن يساف عن وهب بن الأجدع عن علي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصلى بعد العصر ، إلا أن تكون الشمس مرتفعة زاد إسحاق في حديثه بيضاء نقية وحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعد العصر ، ورواه ابن عيينة ( وجماعة ) عن هشام .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إبراهيم بن إسحاق بن أبي العنبس قاضي الكوفة قال : حدثنا جعفر بن عون قال : حدثنا مسعر عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الضحى عن مسروق قال : حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله المبرأة : أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي الركعتين بعد العصر فلم أكذبها .

حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم بن أصبغ : حدثنا بكر بن حماد وحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قالا : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا أبو عوانة عن المغيرة عن أم موسى قالت : [ ص: 36 ] بعثتني فاختة ابنة قرظة إلى عائشة تسألها عن الركعتين بعد العصر فأتيتها ( وما أبالي ) ما قالت بعد الذي رأيت من علي ، فقالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بعد العصر ركعتين .

وقرأت على عبد الوارث بن سفيان أن قاسم بن أصبغ حدثهم : قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا أبو تميم قال : حدثنا عبد الواحد بن أيمن ، قال : حدثني أبي عن عائشة : أنه دخل عليها يسألها عن الركعتين بعد العصر فقالت ، والذي هو ذهب بنفسه تعني النبي - عليه السلام - ما تركهما حتى لقي الله ، وروي هذا عن عائشة من وجوه كثيرة رواه الأسود وغيره عنها قالوا : والآثار قد تعارضت في الصلاة بعد العصر ، والصلاة فعل خير ، وقد قال الله عز وجل : ( وافعلوا الخير ) فلا يجوز أن يمتنع من فعل الخير إلا بدليل لا معارض له .

وممن رخص في التطوع بعد العصر علي بن أبي طالب ، والزبير ، وابنه عبد الله ، وتميم الداري ، والنعمان بن بشير ، وأبو أيوب الأنصاري ، وعائشة ، وأم سلمة أما المؤمنين ، والأسود بن يزيد ، وعمرو بن ميمون ، ومسروق ، وشريح ، وعبد الله بن أبي الهذيل ، وأبو بردة ، وعبد الرحمن بن الأسود ، وعبد الرحمن بن إسحاق [ ص: 37 ] والأحنف بن قيس ، وهو قول داود بن علي ، وذكر عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه أن أبا أيوب الأنصاري كان يصلي قبل خلافة عمر ركعتين بعد العصر ، فلما استخلف عمر تركهما ، فلما توفي عمر ركعهما فقيل له : ما هذا ؟ فقال : إن عمر كان يضرب الناس عليهما ، وقال أحمد بن حنبل : لا نفعله ، ولا نعيب من فعله ، وقال آخرون : إنما المعنى في نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة بعد الصبح والعصر على التطوع المبتدأ والنافلة ، وأما الصلوات المفروضات أو الصلوات المسنونات ، أو ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواظب عليه من النوافل فلا .

واحتجوا بالإجماع في الصلاة على الجنائز بعد العصر ، وبعد الصبح إذا لم يكن عند الطلوع ولا عند الغروب ، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس الحديث ، وبقوله : من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها وبما حدثناه سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قالا : حدثنا عبد الله بن نمير قال أبو بكر : حدثنا سعد بن سعيد ، وقال عثمان عن سعد بن سعيد قال : حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث عن قيس بن عمرو قال : رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا يصلي بعد الصبح ركعتين فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 38 ] صلاة الصبح مرتين ؟ فقال الرجل : لم أكن صليت الركعتين قبلها فصليتهما الآن ، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قال أبو عمر : رواه ابن عيينة عن سعيد بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن قيس بن عاصم ، فغلط فيه ابن عيينة ، وإنما هو قيس بن عمرو ، وقد ذكرناه في الصحابة ، ونسبناه هناك ، وهو جد سعيد وعبد ربه ويحيى بني سعيد الأنصاري قال : أبو داود ( وروى ) هذا الحديث عبد ربه ، ويحيى ابنا سعيد مرسلا : أن جدهم صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال سفيان بن عيينة كان عطاء بن أبي رباح يروي هذا الحديث عن سعيد بن سعيد .

قال أبو عمر : وقد رواه عمر بن قيس عن سعيد بن سعيد فخالف في إسناده . حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا مضر بن محمد قال : حدثنا عبد الرحمن بن سلام قال : حدثنا عمر بن قيس عن سعيد بن سعيد أخي يحيى بن سعيد قال : سمعت جعفر بن [ ص: 39 ] عاصم بن عمر قال : سمعت سهل بن سعد الساعدي يقول : دخلت المسجد ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ، ولم أكن صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة فصليت معه ، وقمت أصلي ( الركعتين ) فقال : ألم تكن صليت معنا ؟ قلت : بلى ! ولم أكن صليت الركعتين فصليت الآن فسكت ، وكان إذا رضي شيئا سكت ، وذلك في صلاة الصبح قال أبو عمر : عمر بن قيس هذا هو المعروف بسند ، وهو أخو حميد بن قيس ، وهو ضعيف لا يحتج بمثله ، ومن حجة القائلين بهذا القول ما ذكره عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أم سلمة قالت لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بعد العصر صلاة قط ، إلا مرة جاءه ناس بعد الظهر فشغلوه في شيء فلم يصل بعد الظهر شيئا حتى صلى العصر ، فلما صلى العصر دخل بيتي فصلى ركعتين . هذا أصح من حديث ابن أبي لبيد ; لذكر عائشة فيه ، والله أعلم .

وإنما قلنا هذا لما ثبت عن عائشة في الركعتين بعد العصر وحديث ابن أبي لبيد حدثناه سعيد بن نصر قال : حدثنا [ ص: 40 ] قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ( الترمذي ) قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا عبد الله بن أبي لبيد ، وكان من عباد ( أهل ) المدينة : أنه سمع أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول : قدم معاوية بن أبي سفيان المدينة ، فبينما هو على المنبر إذ قال : يا كثير بن الصلت اذهب إلى عائشة أم المؤمنين فسلها عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الركعتين بعد العصر قال أبو سلمة : فذهبت معه ، وأرسل عبد الله بن عباس عبد الله بن الحارث بن نوفل معنا ، فقال : اذهب فاسمع ما تقول أم المؤمنين قال أبو سلمة : فجاءها فسألها فقالت : لا علم لي ، ولكن اذهب إلى أم سلمة فدخل ، وسألها فقالت أم سلمة : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بعد العصر فصلى عندي ركعتين لم أكن أراه يصليهما ، فقلت : يا رسول الله ، لقد صليت صلاة لم أكن أراك تصليها فقال : إني كنت أصلي بعد الظهر ركعتين ، وإنه قدم علي وفد بني تميم فشغلوني عنهما فهما هاتان الركعتان . قالوا : ففي قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتي الفجر بعد الصبح ، وقضائه ( الركعتين ) بعد الظهر ، وهما من سننه - صلى الله عليه وسلم - شغل عنهما فقضاهما بعد العصر دليل على أن نهيه عن الصلاة بعد الصبح ، وبعد العصر إنما هو ( عن ) غير الصلوات المسنونات ، والمفترضات ; لأنه معلوم أن نهيه إنما [ ص: 41 ] يصح ( عن ) غير ما أباحه ، ولا سبيل إلى استعمال الأحاديث عنه - صلى الله عليه وسلم - إلا بما ذكرنا قال : وفي صلاة الناس بكل مصر على الجنائز بعد الصبح والعصر دليل على ما ذكرت ، هذا قول الشافعي وأصحابه في هذا الباب ، وكذلك روى المزني عنه فيمن لم يركع ركعتي الفجر حتى صلى الصبح : أنه يركعهما بعد طلوع الشمس ، وقد مضى ذكر ما للعلماء في الصلاة على الجنائز في باب زيد بن أسلم عن عطاء عن الصنابحي ، وقال آخرون : لا يجوز أن يصلي أحد بعد العصر ، ولا بعد الصبح شيئا من الصلوات المسنونات ، ولا التطوع كله المعهود منه ، وغير المعهود إلا أنه يصلي على الجنائز بعد الصبح ، و ( بعد ) العصر ما لم يكن الطلوع ، والغروب فإن خشي عليها التغير صلى عليها عند الطلوع والغروب ، وما عدا ذلك فلا ; لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، وبعد العصر حتى تغرب الشمس ، وهو نهي صحيح ثابت لا يجب أن يعارض بمثل الآثار التي تقدمت ، وهو على عمومه فيما عدا الفرائض ، والصلاة على الجنائز لقيام الدليل على ذلك مما لا معارض له ، وممن قال بهذا القول مالك بن أنس وأصحابه ، ونحو قول مالك في هذا الباب مذهب أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه قال أحمد وإسحاق : لا يصلى بعد العصر إلا صلاة فائتة أو على جنازة ، إلى أن تطفل الشمس للغيبوبة .

[ ص: 42 ] قال أبو عمر : روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس من حديث عمر وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وسعد بن أبي وقاص ومعاذ بن عفراء وغيرهم ، وهي أحاديث صحاح لا مدفع فيها ، وإنما اختلف العلماء في تأويلها ، وخصوصها وعمومها ، لا غير ، والقول بعموم هذه الأخبار الصحاح على حسب ما ذهب إليه مالك أولى ما قيل في هذا الباب ، وهو مذهب عمر بن الخطاب ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة ، وسعد ، ومعاذ بن عفراء ، وابن عباس .

وحسبك بضرب عمر على ذلك بالدرة ; لأنه لا يستجيز ذلك من أصحابه إلا بصحة ذلك عنده . روى الزهري عن السائب بن يزيد : أن عمر ضرب المنكدر في الصلاة بعد العصر ، وروى الثوري عن عاصم عن زر بن حبيش قال : رأيت عمر يضرب الناس على الصلاة بعد العصر ، وروى عبد المالك بن عمير عن أبي غادية مثله ، وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني عامر بن مصعب أن طاوسا أخبره أنه سأل ابن عباس عن ركعتين بعد العصر فنهاه عنهما قال : فقلت : لا أدعهما فقال ابن عباس : [ ص: 43 ] ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) إلى ( مبينا ) فهذا ابن عباس ، مع سعة علمه ، قد حمل النهي الذي رواه في ذلك على عمومه ، وقال آخرون : لا يصلى بعد الصبح إلى أن تطلع الشمس وترتفع ، ولا بعد العصر إلى أن تغيب الشمس ، ولا عند استواء الشمس صلاة فريضة نام عنها صاحبها أو نسيها ، ولا صلاة تطوع ، ولا صلاة من الصلوات على حال ; لعموم نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في هذه الأوقات ، وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه .

قال أبو عمر : قد مضى القول في باب زيد بن أسلم عن من قال هذا القول ، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وفي قوله عليه السلام : من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر دليل على أن نهيه عن الصلاة بعد الصبح ، والعصر ليس عن الفرائض والفوائت ، والله أعلم .

ومن تدبر ما أوردنا في ذلك الباب اكتفى ، وبالله التوفيق والهدى ، وقال أبو ثور : لا يصلي أحد تطوعا بعد الفجر إلى أن تطلع الشمس ، ولا إذا قامت الشمس إلى أن تزول الشمس ، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس ، إلا صلاة فائتة [ ص: 44 ] أو على جنازة أو على أثر طواف أو صلاة لبعض الآيات أو ما يلزم من الصلوات .

قال أبو عمر : من حجة من ذهب هذا المذهب حديث عمرو بن عنبسة وحديث كعب بن مرة وحديث الصنابحي عن النبي - عليه السلام - بمثل هذا المعنى ، ويخصها ببعض ما ذكرنا من الآثار ، وقد ذكرنا أحاديث عمرو بن عنبسة ، وما كان مثلها في باب حديث زيد بن أسلم من كتابنا هذا في حديث الصنابحي فأغنى عن ذكرها هنا ، ومما يخص به أيضا هذه الآثار ، وما كان مثلها على مذهب أبي ثور ، ومن قال بقوله قوله - صلى الله عليه وسلم - يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت ، وصلى أي ساعة شاء ، حدثناه محمد بن إبراهيم بن سعيد قال : حدثنا محمد بن معاوية بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : حدثنا محمد بن منصور قال : حدثنا سفيان قال : سمعت أبا الزبير قال : سمعت عبد الله بن باباه يحدث عن جبير بن مطعم أن النبي - صلى [ ص: 45 ] الله عليه وسلم - قال : يا بني عبد مناف ، لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت ، وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار ، وذكر الشافعي عن عبد الله بن المؤمل عن حميد مولى عفراء عن قيس بن سعد عن مجاهد عن أبي ذر : أنه أخذ بحلقة باب الكعبة فقال : أتعرفونني ؟ من عرفني فأنا الذي عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعت أذناي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس إلا بمكة إلا بمكة إلا بمكة ، وهذا حديث ، وإن لم يكن بالقوي لضعف حميد مولى عفراء ، ولأن مجاهدا لم يسمع من أبي ذر .

ففي حديث جبير بن مطعم ما يقويه مع قول جمهور علماء المسلمين به ، وذلك أن ابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير ، والحسن والحسين ، وعطاء ، وطاوسا ، ومجاهدا ، والقاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير كانوا يطوفون بعد العصر ، وبعضهم بعد الصبح أيضا ، ويصلون بأثر فراغهم من طوافهم ركعتين في ذلك الوقت ، وبه قال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وداود بن علي ، وقال مالك بن أنس : من طاف بالبيت بعد العصر أخر ركعتي الطواف حتى تغرب الشمس ، وكذلك من طاف بعد الصبح لم يركعهما حتى تطلع الشمس وترتفع ، وقال أبو حنيفة يركعهما إلا عند غروب الشمس وطلوعها واستوائها ، وبعض أصحاب مالك يرى الركوع للطواف بعد الصبح ، ولا يراه بعد العصر ، وهذا [ ص: 46 ] لا وجه له في النظر ; لأن الفرق بين ذلك لا دليل عليه من خبر ثابت ، ولا قياس ( صحيح ) ، والله أعلم ، وحكم سجود التلاوة بعد الصبح ، والعصر كحكم الصلاة عند العلماء على أصولهم التي ذكرنا ، وبالله توفيقنا .

قال أبو عمر : روى الوليد بن مسلم عن مالك عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبستين ; اشتمال الصماء ، والاحتباء في ثوب واحد كاشفا عن فرجه .

وهذا حديث غريب من حديث مالك ، ولم يروه عنه بهذا الإسناد إلا الوليد بن مسلم فيما علمت ، والله أعلم .

مالك عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي .

حديثان : أحدهما موقوف يسند من غير رواية مالك ، وهو محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي من أنفسهم يكنى أبا عبد الله ، وكان من ساكني المدينة ، وبها كانت وفاته في سنة أربع وأربعين ومائة في خلافة أبي جعفر ، وكان [ ص: 47 ] كثير الحديث روى عنه مالك ، وابن عيينة ، والثوري ، وجماعة من الأئمة ، إلا أنه يخالف في أحاديث ، فإذا خالفه في أبي سلمة الزهري أو يحيى بن كثير فالقول قولهما عن أبي سلمة عند أهل العلم بالحديث .

وقال يحيى بن معين : محمد بن عمرو بن علقمة أعلى من سهيل بن أبي صالح ، وقال يحيى القطان : محمد بن عمرو أحب إلي من ابن حرملة ، وقال يحيى بن معين أيضا : محمد بن عجلان أوثق من محمد بن عمرو قال : لم يكونوا يكتبون حديث محمد بن عمرو حتى اشتهاها أصحاب الإسناد فكتبوها .

قال أبو عمر : محمد بن عمرو ثقة محدث روى عنه الأئمة ، ووثقوه ولا مقال فيه ، إلا كما ذكرنا أنه يخالف في أحاديث ، وأنه لا يجري مجرى الزهري ، وشبهه ، وكان شعبة مع تعسفه وانتقاده الرجال ، يثني عليه . ذكر العقيلي قال : حدثني محمد بن سعد الشاشي قال : حدثنا محمد بن موسى الواسطي قال : سمعت يزيد بن هارون يقول قال شعبة : محمد بن عمرو أحب إلي من يحيى بن سعيد الأنصاري في الحديث .

قال أبو عمر : حسبك بهذا ، ويحيى بن سعيد أحد الأئمة الجلة ، وقد روى ابن أبي مريم عن خاله موسى بن سلمة [ ص: 48 ] قال : أتيت عبد الله بن يزيد بن هرمز ، فسألته أن يحدثني فقال : ليس ذلك عندي ، ولكن إن أردت الحديث فعليك بمحمد بن عمرو بن علقمة ( وقال أبو مسهر : سمعت مالك بن أنس يقول : أكثر محمد بن عمرو ، وحدثنا عبد الوارث : حدثنا قاسم : حدثنا أحمد بن زهير قال : سمعت يحيى بن معين يقول : محمد بن عمرو بن علقمة ثقة ) قال أبو عمر : لم يخرج مالك عن محمد بن عمرو بن علقمة في موطئه حكما ، واستغنى عنه في الأحكام بالزهري ومثله ، ولم يكن عنده إلا في عداد الشيوخ الثقات ، وإنما ذكر عنه في موطئه من المسند حديثا واحدا ، وهو :

التالي السابق


الخدمات العلمية