التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
44 حديث خامس عشر لإسحاق عن حميدة

مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن حميدة بنت أبي عبيدة بن فروة ، عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك ، وكانت تحت ابن أبي قتادة أنها أخبرتها أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا ، فجاءت هرة تشرب منه ، فأصغى لها الإناء حتى شربت ، قالت كبشة : فرآني أنظر إليه ، فقال : أتعجبين يا ابنة أخي ؟ قالت : فقلت : نعم ، فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم . أو الطوافات .


هكذا قال يحيى : حميدة بنت أبي عبيدة بن فروة ، ولم يتابعه أحد على قوله ذلك ، وهو غلط منه ، وإنما يقول الرواة للموطأ كلهم : ابنة عبيد بن رفاعة ، إلا أن زيد بن الحباب قال فيه عن مالك : حميدة بنت عبيد بن رافع ، والصواب رفاعة ، وهو رفاعة بن رافع الأنصاري ، وقد ذكرناه في كتابنا في الصحابة .

واختلف الرواة عن مالك في رفع الحاء ونصبها من حميد ، فبعضهم قال : حميدة ، بفتح الحاء وكسر الميم ، وبعضهم قال : حميدة ، بضم الحاء وفتح الميم ، وحميدة هذه هي امرأة إسحاق ، ذكر ذلك يحيى القطان ، ومحمد بن الحسن الشيباني في هذا الحديث عن مالك .

[ ص: 319 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى ، عن مالك قال : حدثني إسحاق بن عبد الله قال : حدثتني امرأتي حميدة ، قالت : حدثتني كبشة ابنة كعب بن مالك ، قالت : رأيت أبا قتادة توضأ ثم أصغى إناءه للهرة ، قالت : فنظر إلي ، فقال : أتعجبين ؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إنها ليست بنجس ، إنها من الطوافات عليكم والطوافين .

ورواه ابن المبارك ، عن مالك ، عن إسحاق بإسناده مثله إلا أنه قال : كبشة امرأة أبي قتادة ، وهذا وهم منه ، وإنما هي امرأة ابن أبي قتادة ، وأما حميدة فامرأة إسحاق ، وكنيتها أم يحيى .

وفي هذا الحديث أن خبر الواحد النساء فيه والرجال سواء ، وإنما المراعاة في ذلك الحفظ والإتقان والصلاح ، وهذا لا خلاف فيه بين أهل الأثر .

وفيه إباحة اتخاذ الهر ، وما أبيح اتخاذه للانتفاع به جاز بيعه وأكل ثمنه إلا إن يخص شيئا من ذلك دليل فيخرجه عن أصله .

وفيه أن الهر ليس ينجس ما شرب منه ، وأن سؤره طاهر ، وهذا قول مالك وأصحابه ، والشافعي وأصحابه ، والأوزاعي ، وأبي يوسف القاضي ، والحسن بن صالح بن حي .

وفيه دليل على أن ما أبيح لنا اتخاذه فسؤره طاهر ; لأنه من الطوافين علينا ، ومعنى الطوافين علينا الذين يداخلوننا ويخالطوننا ، ومنه قول الله عز وجل في الأطفال طوافون عليكم بعضكم على بعض .

[ ص: 320 ] وكذلك قال ابن عباس وغيره في الهر : إنها من متاع البيت ، حدثنا أحمد بن عمر قال : حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن فطيس قال : حدثنا محمد بن إسحاق بن شبويه السجسي قال : حدثنا عبد الرزاق قال : حدثنا معمر ، عن قتادة ، عن جابر بن زيد ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : الهر من متاع البيت ، والطواف والخادم .

ومن ذلك قوله يطوف عليهم ولدان أي يخدمهم ولدان ويترددون عليهم بما يشتهون ، وطهارة الهر تدل على طهارة الكلب ، وأن ليس في حي نجاسة سوى الخنزير ، والله أعلم ; لأن الكلب من الطوافين علينا ، ومما أبيح لنا اتخاذه في مواضيع الأمور ، وإذا كان حكمه كذلك في تلك المواضيع ، فمعلوم أن سؤره في غير تلك المواضيع كسؤره فيها ; لأن عينه لا تنتقل .

ودل ما ذكرناه على أن ما جاء في الكلب من غسل الإناء من ولوغه سبعا أنه تعبد واستحباب ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - في الهر : إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم بيان أن الطوافين علينا ليسوا بنجس في طباعهم وخلقتهم ، وقد أبيح لنا اتخاذ الكلب للصيد والغنم والزرع أيضا ، فصار من الطوافين علينا ، والاعتبار أيضا يقضي بالجمع بينهما لعلة أن كل واحد منهما سبع يفترس ويأكل الميتة ، فإذا جاء نص في أحدهما كان حكم نظيره حكمه ، ولما فارق غسل الإناء من ولوغ الكلب سائر غسل النجاسات كلها علمنا أن ذلك ليس لنجاسة ، ولو كان لنجاسة [ ص: 321 ] سلك به سبيل النجاسات في الإنقاء من غير تحديد ، وأما قول من قال : إنه ليس في حديث أبي قتادة ما يدل من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على طهارة الهر ، وزعم أن أبا قتادة هو القائل إنها ليست بنجس ، ثم قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنها من الطوافين عليكم فإنه شبهه عليه برواية من روى هذا الحديث ، عن إسحاق وغيره فقال فيه عن أبي قتادة : إنها ليست بنجس ، وقال : قال أبو قتادة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " هي من الطوافين عليكم " قال : ويكون الطوافون علينا ينجسون الماء ، قال : فقول أبي قتادة إنها ليست بنجس ، لم يضفه إلى رسول الله ، وإنما أضاف إلى رسول الله قوله إنها من الطوافين .

قال أبو عمر : هذا اعتلال لا معنى له ; لأن حديث مالك ، وهو أصح الناس له نقلا ، عن إسحاق ، فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم وفي هذا بيان جهله بحديث مالك ، ثم يقول : إن ذلك لو كان كما ذكر من قول أبي قتادة ولم يكن مرفوعا لكنا أسعد [ ص: 322 ] بالتأويل منه ; لأن أبا قتادة إنما خاطبها بما فهمه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهر ، ومن شهد القول وعرف مخرجه سلم له في التأويل ، والنجاسة في الحيوان أصلها مأخوذ من التوقيف لا من جهة الرأي ، فاستحال أن يكون ذلك رأي أبي قتادة مع أن رواية مالك في طهارة الهر مرفوعة ، ومن خالف مالكا فوقفها ليس بحجة فيما قصر عنه على مالك ، ومالك عليه حجة عند جميع أهل النقل إن شاء الله .

وما أعلم أحدا قط أسقط من حديث أبي قتادة هذا قوله عن النبي عليه السلام : إنها ليست بنجس إلا ما ذكره أسد بن موسى ، عن حماد بن سلمة ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أبي قتادة أنه كان يصغي الإناء للسنور فيلغ فيه ثم يتوضأ منه ويقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هي من الطوافين والطوافات عليكم ، وما رواه أيضا أسد ، عن قيس بن الربيع ، عن كعب بن عبد الرحمن ، عن جده أبي قتادة نحوه ، وهذان لا يحتج بهما لانقطاعهما وفسادهما وتقصير رواتهما عن الإتقان في الإسناد والمتن .

وقد روى هذا الحديث جماعة عن إسحاق كما رواه مالك ، منهم همام بن يحيى ، وحسين المعلم ، وهشام بن عروة ، وابن عيينة ، وإن كان هشام وابن عيينة لم يقيما إسناده ، وهؤلاء كلهم يقولون في هذا الحديث ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إنها ليست بنجس ، وإن كان بعضهم يخالف في إسناده ، فمالك ومن تابعه قد أقام إسناده وجوده ، وقد روى [ ص: 323 ] إسحاق بن راهويه ، عن الدراوردي ، عن أسيد بن أبي أسيد ، عن أمه ، عن أبي قتادة ، عن النبي - صلى الله عليه - مثله ، قال : إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم .

ومن أسقط من حديث أبي قتادة ، عن النبي عليه السلام قوله : إنها ليست بنجس ، فلم يحفظ ، وقد ثبت ذلك بنقل الحفاظ الثقات ، وبالله التوفيق .

وقد روي عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يمر به الهر ، فيصغي لها الإناء فتشرب ، ثم يتوضأ بفضلها .

وممن روينا عنه أن الهر ليس بنجس ، وأنه لا بأس بفضل سؤره للوضوء والشرب ، العباس بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعائشة ، وأبو قتادة ، والحسن ، والحسين ، وعلقمة ، وإبراهيم ، وعكرمة ، وعطاء بن يسار .

واختلف في ذلك عن أبي هريرة ، والحسن البصري ، فروى عطاء ، عن أبي هريرة أن الهر كالكلب يغسل منه الإناء سبعا ، وروى أبو صالح ذكوان ، عن أبي هريرة قال : السنور من أهل البيت .

وروى أشعث ، عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا بسؤر السنور ، وروى يونس ، عن الحسن أنه قال : يغسل الإناء من ولوغه مرة ، وهذا [ ص: 324 ] يحتمل أن يكون رأى في فمه أذى ليصح مخرج الروايتين عنه ، ولا نعلم أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روي عنه في الهر أنه لا يتوضأ بسؤره إلا أبا هريرة على اختلاف عنه .

وأما التابعون ، فروينا عن عطاء بن أبي رباح ، وسعيد بن المسيب ، ومحمد بن سيرين أنهم أمروا بإراقة ماء ولغ فيه الهر وغسل الإناء منه ، وسائر التابعين بالحجاز والعراق يقولون في الهر : إنه طاهر لا بأس بالوضوء بسؤره .

وروى الوليد بن مسلم قال : أخبرني سعيد ، عن قتادة ، عن ابن المسيب ، والحسن أنهما كرها الوضوء بفضل الهر ، قال الوليد : فذكرت ذلك لأبي عمرو الأوزاعي ، ومالك بن أنس ، فقالا : توضأ به ، فلا بأس به ، وإن وجدت غيره .

قال أبو عمر : الحجة عند التنازع والاختلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد صح عنه من حديث أبي قتادة في هذا الباب ما ذكرنا ، وعليه اعتماد الفقهاء في كل مصر إلا أبا حنيفة ومن قال بقوله ، قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي : الذي صار إليه جل أهل الفتوى من علماء الأمصار من أهل الأثر والرأي جميعا أنه لا بأس بسؤر السنور اتباعا للحديث الذي رويناه ، يعني عن أبي قتادة عن النبي ، صلى الله عليه وسلم .

قال : وممن ذهب إلى ذلك ، مالك بن أنس ، وأهل المدينة ، والليث بن سعد في من وافقه من أهل مصر والمغرب ، والأوزاعي في أهل الشام ، وسفيان الثوري فيمن وافقه من أهل العراق ، قال : وكذلك قول الشافعي [ ص: 325 ] وأصحابه ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وأبي عبيدة وجماعة أصحاب الحديث ، قال : وكان النعمان يكره سؤره ، وقال : إن كان توضأ به أجزأه ، وخالفه أصحابه ، فقالوا : لا بأس به .

قال أبو عمر : ما حكاه المروزي عن أصحاب أبي حنيفة فليس كما حكاه عندنا ، وإنما خالفه من أصحابه أبو يوسف وحده ، وأما محمد ، وزفر ، والحسن بن زياد ، فيقولون بقوله ، وأكثرهم يروون عنه أنه لا يجزئ الوضوء بفضل الهر ، ويحتجون لذلك ويروون عن أبي هريرة وابن عمر أنهما كرها الوضوء بسؤر الهر ، وهو قول ابن أبي ليلى .

وأما الثوري ، فقد اختلف عنه في سؤر الهر ، فذكر في جامعه أنه كان يكره سؤر ما لا يؤكل لحمه ، وما يؤكل لحمه فلا بأس بسؤره ، وهو ممن يكره أكل الهر ، وذكر المروزي قال : حدثنا عمرو بن زرارة قال : حدثنا أبو النضر قال : حدثني الأشجعي ، عن سفيان قال : لا بأس بفضل السنور .

قال أبو عمر : لا أعلم لمن كره سؤر الهر حجة أحسن من أنه لم يبلغه حديث أبي قتادة ، وبلغه حديث أبي هريرة في الكلب ، فقاس الهر على الكلب ، وقد فرقت السنة بين الهر والكلب في باب التعبد وجمعت بينهما على حسب ما قدمنا ذكره من باب الاعتبار والنظر ، ومن حجته السنة خصمته ، وما خالفها مطروح ، وبالله التوفيق .

[ ص: 326 ] ومن حجتهم أيضا ما رواه قرة بن خالد ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه - أنه قال : طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة . أو مرتين شك قرة .

وهذا الحديث لم يرفعه إلا قرة بن خالد ، وقرة بن خالد ثقة ثبت ، وأما غيره فيرويه عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة قوله ، وفي هذا الحديث من رأي أبي قتادة دليل على أن الماء اليسير تلحقه النجاسة ، ألا ترى إلى قوله : أتعجبين يا ابنة أخي ؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ليست بنجس ، فدل هذا أن الهر لو كان عنده من باب النجاسات لأفسد الماء ، وإنما حمله على أن يصغي لها الإناء طهارتها ، ولو كان مما تنجس لم يفعل ، فدل هذا على أن الماء عنده تفسده النجاسة ، وإن لم تظهر فيه ; لأن شرب الهر وغيره من الحيوان في الإناء إذا لم يكن في فمه أذى من غيره ليس ترى معه نجاسة في الإناء .

وهذا المعنى اختلف فيه أصحابنا وسائر العلماء ، فذهب المصريون من أصحاب مالك إلى أن قليل الماء يفسده قليل النجاسة ، وأن الكثير لا يفسده إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه من المحرمات ، وما غلب عليه من الأشياء الطاهرة أخرجه من باب التطهير وأبقاه على طهارته ، ولم يحدوا بين القليل من الماء الذي يفسده قليل النجاسة وبين الكثير الذي لا يفسده إلا ما غلب عليه - حدا يوقف عنده إلا أن ابن القاسم روى عن مالك في الجنب يغتسل في حوض من الحياض التي تسقى فيها الدواب ولم يكن غسل [ ص: 327 ] ما به من الأذى أنه قد أفسد الماء ، وروي عن مالك في الجنب يغتسل في الماء الدائم الكثير مثل الحياض التي تكون بين مكة والمدينة ولم يكن غسل ما به من الأذى أن ذلك لا يفسد الماء ، وهذا مذهب ابن القاسم ، وأشهب ، وابن عبد الحكم ، ومن اتبعهم من أصحابهم المصريين إلا ابن وهب فإنه قال في الماء بقول المدنيين من أصحاب مالك ، وقولهم ما حكاه أبو المصعب عنهم ، وعن أهل المدينة أن الماء لا تفسده النجاسة الحالة فيه قليلا كان أو كثيرا إلا أن تظهر فيه النجاسة وتغير منه طعما أو ريحا أو لونا ، وكذلك ذكر أحمد بن المعذل أن هذا قول مالك بن أنس في الماء .

وذكر ابن وهب ، عن ابن لهيعة ، عن خالد بن أبي عمران أنه سأل القاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله ، عن الماء الراكد الذي لا يجري تموت فيه الدابة أيشرب منه ويغسل منه الثياب ؟ فقالا : انظر بعينك ، فإن رأيت ماء لا يدنسه ما وقع فيه فنرجو أن لا يكون بأس .

قال : وأخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال : كل ماء فيه فضل عما يصيبه من الأذى حتى لا يغير ذلك طعمه ولا لونه ولا ريحه ، فهو طاهر يتوضأ به .

قال : وأخبرني عبد الجبار بن عمر ، عن ربيعة قال : إذا وقعت الميتة في البئر فلم يتغير طعمها ولا لونها ولا ريحها ، فلا بأس أن يتوضأ منها ، وإن رأى فيه الميتة .

[ ص: 328 ] قال : فإن تغيرت نزع منها قدر ما يذهب الرائحة عنها ، وهو قول ابن وهب ، وإلى هذا ذهب إسماعيل بن إسحاق ، ومحمد بن بكير ، وأبو الفرج ، والأبهري ، وسائر المنتحلين لمذهب مالك من البغداديين .

وروي هذا المعنى عن عبد الله بن عباس ، وابن مسعود ، وسعيد بن المسيب على اختلاف عنه ، وسعيد بن جبير ، وهو قول الأوزاعي ، والليث بن سعد ، والحسن بن صالح ، وداود بن علي ، وهو مذهب أهل البصرة أيضا ، وهو الصحيح في النظر وجيد الأثر .

وأما الكوفيون ، فالنجاسة عندهم تفسد قليل الماء وكثيره إذا حلت فيه إلا الماء المستجد الكثير الذي لا يقدر آدمي على تحريك جميعه ؛ قياسا على البحر الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الطهور ماؤه الحل ميتته .

وأما الشافعي ، فمذهبه في الماء نحو مذهب المصريين من أصحاب مالك ، وروايتهم في ذلك عن مالك أن قليل الماء يفسده قليل النجاسة ، ولا يفسد كثيره إلا ما غلب عليه فغير طعمه أو رائحته أو لونه ، إلا أن مالكا في هذه الرواية عنه لا يحد حدا بين قليل الماء الذي تلحقه النجاسة وبين كثيره الذي لا تلحقه النجاسة إلا بالغلبة عليه إلا ما غلب على النفوس أنه قليل ، وما الأغلب عند الناس أنه كثير ، وهذا لا يضبط لاختلاف آراء الناس وما يقع في نفوسهم .

وأما الشافعي ، فحد في ذلك حدا بين القليل والكثير لحديث ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الماء قلتين لم تلحقه نجاسة . أو : لم يحمل خبثا [ ص: 329 ] وهو حديث يرويه محمد بن إسحاق ، والوليد بن كثير جميعا ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، وبعض رواة الوليد بن كثير يقول فيه عنه : عن محمد بن عباد بن جعفر ، ولم يختلف عن الوليد بن كثير أنه قال فيه : عن عبد الله بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه يرفعه ، ومحمد بن إسحاق يقول فيه : عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، وعاصم أيضا ، فالوليد يجعله عن عبد الله بن عبد الله ، ومحمد بن إسحاق يجعله عن عبيد الله بن عبد الله ، ورواه عاصم بن المنذر ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، فاختلف فيه عليه أيضا ، فقال حماد بن سلمة : عن عاصم بن المنذر ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، وقال فيه حماد بن زيد : عن عاصم بن المنذر ، عن أبي بكر بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عمر ، وقال حماد بن سلمة فيه : إذا كان الماء قلتين أو ثلاثا لم ينجسه شيء .

وبعضهم يقول فيه : إذا كان الماء قلتين لم يحصل الخبث ، وهذا اللفظ محتمل للتأويل ، ومثل هذا الاضطراب في الإسناد يوجب التوقف عن القول بهذا الحديث إلى أن القلتين غير معروفتين ، ومحال أن يتعبد الله عباده بما لا يعرفونه .

وأما حديث ولوغ الكلب في الإناء ، وحديث النهي عن إدخال اليد في الإناء قبل غسلها لمن انتبه من نومه ، وحديث النهي عن البول في الماء الدائم الراكد ، فقد عارضها ما هو أقوى منها ، والأصل في الماء الطهارة [ ص: 330 ] فالواجب أن لا يقضى بنجاسته إلا بدليل لا تنازع فيه ولا مدفع له ، ونحن نذكر ما نختاره من المذاهب في الماء هاهنا ، ونذكر معنى حديث ولوغ الكلب وغسل اليد في باب أبي الزناد إن شاء الله عز وجل .

قال أبو عمر : الدليل على أن الماء لا يفسد إلا بما ظهر فيه من النجاسة أن الله عز وجل سماه طهورا ، فقال : وأنزلنا من السماء ماء طهورا ، وفي " طهورا " معنيان : أحدهما أن يكون " طهورا " بمعنى " طاهر " ، مثل صبور وصابر ، وشكور وشاكر ، وما كان مثله ، والآخر أن يكون بمعنى فعول ، مثل قتول ، وضروب ، فيكون فيه معنى التعدي والتكثير ، يدل على ذلك قوله عز وجل وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم .

وقد أجمعت الأمة أن الماء مطهر للنجاسات ، وأنه ليس في ذلك كسائر المائعات الطاهرات ، فثبت بذلك هذا التأويل ، وما كان طاهرا مطهرا استحال أن تلحقه النجاسة ; لأنه لو لحقته النجاسة لم يكن مطهرا أبدا ; لأنه لا يطهرها إلا بممازجته إياها واختلاطه بها ، فلو أفسدته النجاسة من غير أن تغلب عليه ، وكان حكمه حكم سائر المائعات التي تنجس بمماسة النجاسة لها ، لم تحصل لأحد طهارة ولا استنجى أبدا .

والسنن شاهدة لما قلنا بمثل ما شهد به النظر من كتاب الله عز وجل ، فمن ذلك أمر رسول الله - صلى الله عليه - أن يصب على بول الأعرابي دلو من ماء ، أو ذنوب من ماء ، وهو أصح حديث يروى في الماء عن النبي صلى الله عليه .

ومعلوم أن البول إذا صب عليه الماء مازجه ، ولكنه إذا غلب الماء عليه طهره ولم يضره ممازجة البول له ، وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : أخبرنا قاسم بن أصبغ قال : أخبرنا محمد بن إسماعيل قال : [ ص: 331 ] حدثنا نعيم بن حماد قال : حدثنا ابن المبارك قال : أخبرنا يونس بن يزيد ، عن الزهري قال : حدثني عبيد الله بن عبد الله أن أبا هريرة أخبره أن أعرابيا بال في المسجد ، فثار الناس إليه ليمنعوه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : دعوه ، وأهرقوا على بوله ذنوبا من ماء - أو قال : سجلا من ماء - فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين .

وهكذا رواه شعيب بن أبي حمزة ، ومحمد بن الوليد الزبيدي ، عن الزهري ، كما رواه يونس بن يزيد بإسناده ، وكذلك رواه النعمان بن راشد بهذا الإسناد ، ورواه ابن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وتابعه سفيان على هذا الإسناد .

ورواه محمد بن أبي حفصة ، عن الزهري ، عن سعيد ، وأبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي عليه السلام ، وكل ذلك صحيح لأنه ممكن أن يكون الحديث عند ابن شهاب .

عن عبيد الله ، وسعيد ، وأبي سلمة ، فحدث به مرة عن هذا ، ومرة عن هذا ، وربما جمعهم ، وهذا موجود لابن شهاب ، معروف له كثير جدا ، وقد روى أنس بن مالك قصة الأعرابي هذا ، وسنذكر طرق حديثه في ذلك في باب مرسل يحيى بن سعيد من كتابنا هذا إن شاء الله .

[ ص: 332 ] ومن ذلك أيضا قوله - صلى الله عليه - إذ سئل عن بئر بضاعة ، فقيل له : إنه يطرح فيها لحوم الكلاب والعذرة وأوساخ الناس ، فقال : الماء لا ينجسه شيء يعني ما لم يغيره أو يظهر فيه ، والله أعلم ; لأنه قد روي عنه - صلى الله عليه - الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب عليه فغير طعمه أو لونه أو ريحه .

وهذا إجماع في الماء المتغير بالنجاسة ، وإذا كان هذا هكذا فقد زال عنه اسم الماء مطلقا .

وحديث بئر بضاعة ذكره أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري ، عن النبي عليه السلام .

وذكر أحمد بن حنبل قال : حدثنا حسين بن محمد قال : حدثنا الفضيل - يعني ابن سليمان - قال : حدثنا محمد بن أبي يحيى ، عن أمه قالت : سمعت سهل بن سعد الساعدي يقول : سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي من بئر بضاعة ، وذكره إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا أبو ثابت محمد بن عبيد الله قال : حدثني حاتم بن إسماعيل ، عن محمد بن أبي يحيى ، عن أمه ، قالت : دخلنا على سهل بن سعد في نسوة ، فقال : لو أني سقيتكم من بئر بضاعة لكرهتم ذلك ، وقد والله سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي منها ، ومن ذلك أيضا قوله - صلى الله عليه وسلم - إذ سئل عن ماء اغتسلت منه امرأة من نسائه وهي جنب ، فقال : الماء لا ينجسه شيء رواه جماعة ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، منهم شعبة والثوري ، إلا أن جل أصحاب شعبة يروونه عنه ، عن سماك ، عن عكرمة مرسلا ، ووصله عنه [ ص: 333 ] محمد بن بكر ، وقد وصله جماعة عن سماك ، منهم الثوري ، وحسبك بالثوري حفظا وإتقانا .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا سفيان ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن امرأة من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسلت من جنابة ، فاغتسل النبي صلى الله عليه وسلم وتوضأ من فضلها ، وقال الماء طهور لا ينجسه شيء .

وهكذا رواه أبو الأحوص ، وشريك ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مرفوعا ، وكل من أرسل هذا الحديث فالثوري أحفظ منه ، والقول فيه قول الثوري ومن تابعه على إسناده ، وذكر إسماعيل بن إسحاق القاضي ، عن الحماني ، عن شريك ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الماء لا ينجسه شيء قال : حدثنا علي بن المديني ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن ثوبة العنبري أنه سمع سلم بن غياث يحدث عن جده ، قال : سألت أبا هريرة ، قلت : إنا نرد الحوض يكون فيه السؤر من الماء ، فيلغ فيه الكلب ويشرب منه الحمار ، فقال : الماء لا يحرمه شيء .

قال أبو عمر : حسبك بجواب أبي هريرة في هذا الباب ، وهو الذي روى حديث ولوغ الكلب في الإناء ، وحديث غسل اليد قبل إدخالها فيه ، وروي عن ابن عباس من وجوه أن الماء لا ينجسه شيء ، وقال ابن عباس [ ص: 334 ] الماء يطهر ولا يطهر ، وقال سعيد بن المسيب : الماء طهور لكل ما أصاب ، وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى وجماعة من التابعين : الماء لا ينجسه شيء ، وروى شعبة ، عن يزيد الرشك ، عن معاذ ، عن عائشة : الماء لا ينجسه شيء ، وعن عبد الله بن مسعود مثله ، وروى حماد بن سلمة ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير في ماء الحمام يغتسل فيه الجنب وغير الطاهر ، قال : الماء لا ينجسه شيء ، وحماد بن سلمة ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن المسيب ، عن الغدر التي في الطرق تلغ فيها الكلاب وتبول فيها الدواب أيتوضأ منها ؟ فقال : الماء طهور لا ينجسه شيء .

قال أبو عمر : هذا يدل على أن ما روي عن سعيد بن المسيب في سؤر الهر أنه كرهه لم يكن إلا لشيء ظهر في الماء ، والله أعلم ، ومعنى قوله فيما بالت فيه الدواب من الماء أنه طهور ، محمول على أن البول لم يظهر في الماء منه طعم ولا لون ولا ريح .

أخبرنا يوسف بن محمد ، ومحمد بن إبراهيم قالا : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا جعفر بن محمد الفريابي قال : [ ص: 335 ] حدثنا دحيم قال : حدثنا الوليد ، عن الأوزاعي ، عن الزهري ، في الغدير تقع فيه الدابة فتموت ، قال : الماء طهور ما لم تنجس الميتة طعمه أو ريحه .

وأما ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين ، فمذهب ضعيف من جهة النظر ، غير ثابت في الأثر ; لأنه حديث قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل ، ولأن القلتين لم يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع ، ولو كان ذلك حدا لازما لوجب على العلماء البحث عنه ليقفوا على حد ما حرمه رسول الله - صلى الله عليه - وما أحله من الماء ، لأنه من أصل دينهم وفرضهم ، ولو كان ذلك كذلك ما ضيعوه ، فلقد بحثوا عما هو أدق من ذلك وألطف ، ومحال في العقول أن يكون ماءان أحدهما يزيد على الآخر بقدح أو رطل والنجاسة غير قائمة ولا موجودة في واحد منهما ، أحدهما نجس ، والآخر طاهر ، وكذلك كل من قال بأن قليل الماء يفسده قليل النجاسة دون كثيره وإن لم تظهر فيه ولم تغير شيئا منه وجد في ذلك الماء المستجد بغير أثر يشهد له - فقوله مدفوع بما ذكرنا من الآثار المرفوعة في هذا الباب وأقاويل علماء أهل الحجاز فيه .

وأما ما ذهب إليه المصريون من أصحاب مالك في أن قليل الماء يفسد بقليل النجاسة من غير حد حدوه في ذلك ، وما قالوه من أجوبة مسائلهم في البئر تقع فيها الميتة من استحباب نزح بعضها وتطهير ما مسه ماؤها ، وفي إناء الوضوء يسقط فيه مثل رءوس الإبر من البول ، وفي سؤر النصراني والمخمور ، وسؤر الدجاجة المخلاة ، وغير ذلك من مسائلهم في هذا الباب - فذلك كله على التنزه والاستحباب ، هكذا ذكره إسماعيل بن إسحاق ، وهو الصواب عندنا ، وبالله توفيقنا .

[ ص: 336 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا الجوطي قال : حدثنا بقية قال : قلت للأوزاعي جب كان يعصر فيه العصير ، فلما فرغوا بقيت في أسفله بقية فصارت خمرا ثم جاءت الأمطار فملأت الجب ، ما تقول في الوضوء منه ؟ قال : تجد له طعما أو ريحا ؟ قلت : لا ، قال : لا بأس بالوضوء منه .

ولما ثبتت السنة في الهر - وهو سبع يفترس ويأكل الميتة - أنه ليس بنجس دل ذلك على أن كل حي لا نجاسة فيه ، فكان الكلب والحمار والبغل وسائر الحيوان كله لا نجاسة فيه ما دام حيا ، ولا بأس بسؤره للوضوء والشرب حاشا الخنزير المحرم العين ، فإنه قد اختلف فيه ، فقيل إنه إذا ماس الماء وهو حي أفسده ، وقد قيل إن ذلك لا يفسده على ظاهر حديث عمر في السباع وظاهر قوله - صلى الله عليه - الماء لا ينجسه شيء وهذا هو المذهب الذي إليه يذهب أكثر أصحابنا وبه نقول .

وكذلك الطير كله لا بأس بسؤره إلا أن يكون في فمه أذى يغير الماء اعتبارا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهر وفي الماء أنه لا ينجسه إلا ما ظهر فيه من النجاسة .

وقد روى ابن عمر أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يغسل شيء من أثرها ولا يرش ، وهذا يدل على أنه ليس في حي نجاسة ، والله أعلم .

وإنما النجاسة في الميتة ، وفيما ثبتت معرفته عند الناس من النجاسات المجتمع عليها والتي قامت الدلائل بنجاستها كالبول والغائط والمذي والخمر .

[ ص: 337 ] وقد يكون من الميتة ما ليس بنجس ، وهو كل شيء ليس له دم سائل ، مثل بنات وردان والزنبور والعقرب والجعلان والصرار والخنفساء ، وما أشبه ذلك ، والأصل في ذلك حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الذباب .

حدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال : حدثنا ابن أبي ذئب قال : حدثنا سعيد بن خالد ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - صلى الله عليه - قال : إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله وأخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا ابن السكن قال : حدثنا محمد بن يوسف قال : حدثنا البخاري قال : حدثنا قتيبة قال : حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن عقبة بن مسلم ، عن عبيد بن حنين مولى بني زريق ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه ، فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء .

وروي هذا الحديث من وجوه كثيرة عن أبي سعيد وأبي هريرة ، كلها ثابتة ، ومعلوم أن الذباب إذا غمس في الطعام الحار أو البارد أن الأغلب عليه مع ضعف خلقه الموت ، فلو كان موته في الماء والطعام يفسده لم يأمر رسول الله - صلى الله عليه - بغمسه فيه ، وإذا لم ينجس الطعام بموته فليس بنجس على حال البتة .

[ ص: 338 ] وحكم ما لا دم له حكمه ، من أنه لا يفسد ما مات فيه من الطعام ، وقد رخص قوم في أكل دود التين ، وما في الفول وسائر الطعام من السوس ، واستجازوا ذلك لعدم النجاسة .

وكره أكل ذلك جماعة من أهل العلم ، وقالوا : لا يؤكل شيء من ذلك لأنه ليس له حلق ولبة فيذكى ، ولا هو من صيد الماء فيحل بغير الذكاة ، واحتجوا بقول رسول الله - صلى الله عليه - في الذباب فليغمسه ثم ليطرحه قالوا : ولو كان أكله مباحا لم يأمر بطرحه .

وأما القملة والبرغوث ، فأكثر أصحابنا يقولون : لا يؤكل طعام ماتت فيه قملة أو برغوث ; لأنهما نجسان ، وهما من الحيوان الذي عيشه من دم الحيوان ، لا عيش لهما غير الدم ، فهما نجسان وهما دم .

وكان سليمان بن سالم القاضي الكندي من أهل أفريقية ، يقول : إن ماتت القملة في الماء طرح ولم يشرب ، وإن وقعت في الدقيق ولم تخرج في الغربال لم يؤكل الخبز ، وإن ماتت في شيء جامد طرحت وما حولها كالفأرة .

وقال غيره من أصحابنا وغيرهم : إن القملة كالذباب سواء ، فأما الماء فالأصل فيه عندنا ما ذكرنا وأوضحنا في هذا الباب ، وقد علم أن الذباب يعيش من الدم ، ويتناول من الأقذار ما لا تتناول القملة ، وفيه من الدم مثل ما في القملة أو أكثر ، وقد حكم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما تقدم ذكرنا له .

وهذا ما لم يكن فيه دم ; لأن الحديث إنما يدل على أن النجس من الحيوان ما له دم سائل ، وكذلك قال إبراهيم : ما ليس له نفس سائلة فليس بنجس . يعني بالنفس : الدم .

التالي السابق


الخدمات العلمية